أخرج الترمذى من حديث ابن مسعود: «أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ: انْتِظَارُ الْفَرَجِ». ولهذِهِ العِبادةِ صُورٌ مِنْها:

انتظارُ الفرجِ باليقينِ باستدراجِ اللهِ للظالمين

الاستدراج: أن تُدْرِجَ الشيءَ إلى الشيءِ في خِفْيةٍ قليلًا قليلًا، ولا تهجُمُ عليه مرةً واحدةً، وأصله: من الدرجة، وذلك أنّ الراقيَ والنازلَ يرقى وينزل مرقاةً مرقاةً، ومنه درجَ الصبيُّ: إذا قاربَ بين خُطاه.

قال تعالى ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف 182)، وقال تعالى ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ. وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ (القلم 44-45).

والمعنى: سنأخذُهم قليلًا قليلًا من حيث لا يحتسِبُون، وذلك أنَّ اللهَ تعالى يَفتحُ للظالمين بابًا من النعمةِ يَغتبِطُون به ويُعطِيهم شيئًا من القوةِ يركَنُون إليه، ويحقِّقُ لهم بعضَ ما يَشْتَهُون فيَطْمئِنُّون إليه، وكلَّما أحدَثُوا ذنبًا أحدثَ لهم نعمَةً ليزيدَ غُرورُهم، ثم يأخذُهم على غِرَّتهم، أغفَلَ ما يكونون.

قال الحسَن: «كم من مُسْتَدْرَجٍ بالإحسانِ إليه، وكم من مَفْتُونٍ بالثناءِ عليه، وكم من مَغْرُورٍ بالسَّتْرِ عليه!».

قال تعالى ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ. فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام 42-45).

أخرج أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ» ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ الآية.

ومن نماذجِ الاستدراجِ والأخْذِ العجيبِ بعد تمامِ التمكُّنِ ما جاءَ في قولِه تعالى ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (يونس 24).

قال أبو عمران الجَوْنيُّ: «لا يغُرنَّكُم من اللهِ تعالى طولُ النسيئةِ ولا حُسْنُ الطلبِ؛ فإنَّ أخذَهُ أليمٌ شديد».

وفي حديث البخاري: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِى لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ». ثُمَّ قَرَأَ ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهْىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.

ونموذجُ قارونَ واضحٌ في استدراجِ الله للظالمِ حتى يأخذَه في حالةِ تمامِ الفرحِ بما هو فيه لتعْظُمَ حسرتُه، وليكونَ عبرةً لغيرِه، قال تعالى ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ. فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ. وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ (القصص 79–82).

وحتى لا يتصوَّرَ أحدٌ أنَّ إمدادَ اللهِ للظالمين بشيءٍ من النِّعَمِ والقوةِ هو إكرامٌ لهم منه، أو علامةٌ على رِضاه عن جرائمِهم، فإن الله تعالى يقول ﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ. أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ. نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ (المؤمنون 54-56).

وإذا رأيتَ بعضَ المنافقين من أئمةِ الضلالِ ومحترفي الجدلِ تُرفَعُ لهم الراياتُ، ويُؤْثَرون بالمناصِبِ، ويَظْفَرون بالترقياتِ، وتُضْفَى عليهم النعوتُ، ويملؤون الشاشاتِ، ويتصدَّرون الساحاتِ المختلفةَ، وميادينَ العمل المتقدمةَ، في الوقت الذي تُزْوَى فيه النماذجُ الصالحةُ الحريصةُ على وطنِها من أهلِ الرأىِ والخبرةِ والعزمِ والشرفِ، وتُنْسَج لهم الأكفانُ، وتفتح لهم السجون والمعتقلاتُ، فثِقْ بأنَّ هذا كلَّه من الاستدراجِ الإلهيِّ، وكُنْ على تمامِ اليقينِ بقُرْبِ سقوطِ هذا النظامِ الانقلابيِّ الذي يقودُه التافِهون الذين يُريدون أن يغرسُوا في الأمة طباعَ العبيد، وأن تنشأَ الأجيالُ في ظلِّ الانقلابِ الاستبداديِّ عديمةَ الكرامة، قليلةَ الغَنَاء، ضعيفةَ الأخذ والرد.

وما أصدقَ قولَ الشيخ الغزالي رحمه الله: «يستحيلُ أن يتكوَّنَ في ظلِّ الاستبدادِ جيلٌ محترمٌ، أو معدنٌ صُلبٌ، أو خُلُقٌ مكافح». وهو ما لنْ يسمحَ به الشعبُ الحرُّ الذي جعلَ شعارَ ثورتِه (عيش – حرية – عدالة اجتماعية – كرامة إنسانية).

لهذا كلِّه ولغيره يجبُ أنْ نتصدَّى جميعًا للانقلابِ والاستبدادِ بصورةٍ سلميةٍ حضاريةٍ مُبْدِعةٍ تكسِرُ الانقلابَ، وتُفَوِّتُ على الانقلابيين المستبدِّين كلَّ الذرائعِ التي يبرِّرون بها ممارساتِهم القمعيةَ التي لا يُجيدون غيرَها، والتي يُثبِتُ الحَراكُ الثوريُّ المتصاعِدُ كلَّ يومٍ فشلَها، ومهما رأيْنا مظالمَ الانقلابيين تتوالَى، وإمعانَهم في الظلم يتتابعُ؛ فلْنَثِقْ بأنَّ ذلك من استدراجِ الله لهم، وهو علامةُ قُرْبِ نزولِ نِقْمَتِه عليهِم ﴿فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ﴾ (غافر 4).

انتظارُ الفرجِ باليقينِ بأنَّ الآمِنَ من مكْرِ الله خاسِرٌ

من الأسبابِ التي يُهْلِك الله بها الظالمين: الْأَمْنُ الَّذِي يتوهَّمُونَه مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، فيُبَالِغُونَ فِي المظالمِ ظانِّينَ أنَّ اللهَ راضٍ عن عمَلِهم، أو أنَّ اللهَ غافِلٌ عما يعملُون، أو كما يتصوَّرُ كثيرٌ من العلمانيِّين أنه –سبحانه وتعالى عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا- لا شأنَ له بمعايشِ الخلقِ وما يجري بينهم من صِرَاع؛ فييستحِقُّون الخُسْران ﴿ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ. أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ (الأعراف 97-99). قَالَ الْحَسَنُ في مثل هؤلاء: «مُكِرَ بِهِمْ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، أُعْطُوا حَاجَتَهُمْ ثُمَّ أُخِذُوا».

إنَّ الظالمينَ يعيشُون في وهْمِ الأمْنِ من مكرِ اللهِ، حتَّى ينزلَ بهم عذابُه فجأةً في صورٍ مختلفةٍ ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (النحل 45-47) يعني: أَوْ أَمِنَ هَؤُلاَءِ أَنْ يَأْخُذَهُمُ اللهُ تَعَالَى أَثْنَاءَ تَقَلُّبِهِمْ فِي مَعَايِشِهِمْ، وَاشْتِغَالِهِمْ بِهَا، فَهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ اللهَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانُوا؟ أَوْ أَمِنُوا أَنْ يَأْخُذَهُمُ اللهُ بَعْدَ أَنْ يُثِيرَ فِي نُفُوسِهِم الخَوْفَ وَالرُّعْبَ.

ونحن يجبُ أن نزدادَ كلَّ يومٍ يقينًا بمكرِ الله تعالى بالظالمين من حيثُ لا يشعُرون، ومن حيثُ لا يعلمُون، بل من حيثُ لا يعلمُ المؤمنون، فهكذا اقتضتْ حِكْمَتُه ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ (الأنعام 123).

ومهما ظنُّوا بأنفسِهم من مهارةٍ في الكيْدِ والمكرِ وقُدرةٍ على الظلمِ والإفسادِ، فإنَّ اللهَ يُطَمْئِنُنا ﴿قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾ (يونس 21).

ومن سنن الله الماضية: أنْ يجعلَ الظالمَ يختنِقُ بحبْلِ ظُلمِه، ويقعُ في بئرِ كيْدِه ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ (فاطر 43).

أخرج ابنُ المبارك في الزهد عن الزهري قال: بلغنا أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: «لَا تَمْكُرْ وَلَا تُعِنْ مَاكِرًا؛ فإِنَّ اللهَ يقُولُ ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾، ولَا تَبْغِ ولَا تُعِنْ بَاغِيًا؛ فإِنَّ اللهَ تَعَالى يَقُولُ ﴿إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ (يونس 23)، ولَا تَنْكُثْ ولَا تُعِنْ نَاكِثًا؛ فإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ ﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ (الفتح 10)».

وهل الانقلابيُّون على اختلافِ مواقعِهم وأدوارِهم إلَّا ماكرٌ أو مُعِينٌ على المكْر، وبَاغٍ أو مُعِينٌ على البغيِ، وناكِثٌ أو مُعِينٌ عَلى النكثِ؟.

وتأمَّلْ نموذجًا من نماذجِ المكْرِ بالظالمين، فيما جرَى لقومِ لوطٍ، فقد امتلأَ قلبُه غمًّا حين أتاه الملائكةُ في صورةِ ضيوفٍ من البشرِ لا يعرفُهم ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ (هود 77)، ولم يستطِعْ أن يكتُمَ عنهمْ ضِيقَه بزيارتِهم، بل ﴿قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾ (الحجر 62)، إذ لم تكنْ له طاقةٌ بحمايتِهم من تحرُّشِ المجرمين من قومه، ولم تُفلِحْ عروضُه عليهم في التزوُّج من بناتِه؛ حتى لا يفضَحُوه مع ضيوفِه ﴿وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ. قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ. قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ (هود 78-80).

ولم يكن لوطٌ يعلمُ ولا كان قومُه يشعُرُون أن هذا الفصلَ العصيبَ الأشدَّ في كلِّ فصولِ القصةِ هو الفصلُ قبلَ الأخيرِ في قصةِ الصراعِ بين الصلاحِ والفسادِ، وإذا بالضيوفِ المنكَرين (كما تصوَّر لوطٌ عليه السلام) ينزِعون الخوفَ والحزنَ من قلب لوطٍ، ويُبَشِّرونه بالفصلِ الأخيرِ القريبِ الوقوعِ لنهايةِ القصة ﴿قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ. فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾ (هود: 81،-83).

فإذا كان هذا قد حدثَ مع هؤلاء الظلَمةِ المفسدين، فليس بعيدًا عن غيرِهم من الظالمين، فلْيَطْمَئِنَّ أهلُ الحق أنَّ عينَ العنايةِ ترْعاهم ﴿وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا﴾ (الرعد 42)، وأن عذابَ الله قريبٌ من الظالمين ﴿وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾ (فاطر 10).

وقصصُ التاريخِ البعيد والقريبِ شواهدُ الصدقِ على إهلاكِ اللهِ لكل ظالمٍ، مهما جمعَ اللهُ عندَه من أسبابِ القوَّةِ والغلَبةِ، وهذا ربُّ العزة والجلال بعد أن ذكر مصارعَ الظالمين ومكرَه بالمعتَدين في الأممِ السابقةِ يقول لأحفادِهم الجُدد ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ. أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ (القمر 43-45)، وللعِلْمِ، فهذه الآياتُ نزلتْ بمكةَ والمسلمُون مستضعَفُون خائِفُون، فقد أخرج عبد الرزاق وغيره عَنْ عمر، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ جَعَلْتُ أقولُ: أَيُّ جَمْعٍ يُهْزَمُ؟ فلمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَثِبُ فِي الدِّرْعِ، وَهُوَ يَقُولُ: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ»، فَعَرَفْتُ تَأْوِيلَهَا يَوْمَئْذٍ».

فلْنَثِقْ بوعْدِ الله، ولْنَنْتظِرْ فرجَه القريبَ، ولْنَكُنْ على يقينٍ من مكرِه بالماكرين وقُرْبِ أخذِه للظالمين، مهما بدَا أنهم يملكون من أسبابِ البقاءِ والتَّمكين، والمهمُّ أن نكون نحن أهلًا لنصرِ الله تعالى، وأن نتَّخِذَ من الأسبابِ ما بوُسْعِنا، ثم ندَعَ الأمرَ لربِّ العالمين ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف 21)

تابِعُونا في المقال التالي إن شاء الله.