أحدثكم اليوم أيها الثوار الأحرار عن: "الماراثون العمري"، ونحن مازلنا نتحدث عن عمر الثائر الحق وأضيف هنا لقبًا جديًد: "الأول غالبًا".

ولا أقول "الأول دائمًا" لأنه لم يكن في الساحة وحده بل كان معه متنافسون أقوياء أحدهم يسبقه دائمًا كأبي بكر "باعتراف عمر نفسه" وبعضهم يسير معه كتفًا بكتف وبعضهم يتخلف عنه بمرحلة وربما مرحلتين أو بمراحل وقلة تسابقت، ولكن في الاتجاه العكسي فارتدَّ دون أن يدري على أعقابه القهقرى.

لقد حرَّك العنوان في نفسي علة قديمة يبدو أني وُلدت بها: وهي "علة السبق".. قبل التزامي كانت هذه الصفة تحدوني وتسوقني إلى الدرس والتحصيل.. فكنت أسابق أقراني "بشرف والله وبأخلاق الفرسان" في حفظ كتاب الله ثم في التحصيل العلمي والدراسي..  وأذكر موقفًا طريفًا حدث معي في المرحلة الثانوية فقد كنت الثاني على مستوى الجمهورية في الأزهر شعبة علمي علوم، ولكن أريحية السبق فيَّ لم ترض بهذا المركز فدخلت كلية الطب وأضمرت في نفسي نية دخول الامتحان مرةً ثانية، وبالفعل أعدت الثانوية تحسين مجموع شعبة علمي رياضة، وجاء ترتيبي الأول وسافرتُ إلى أوروبا مع الأوائل.

ولما وفقني الله إلى الالتزام صار هذا التنافس سباقًا في الدعوة إلى الله ووسائلها وابتكار الطرق التي تحبب الناس في ربهم، وكنت لا أملك دموعي حين أحدث الإخوة والأخوات عن مفهوم "حسرة السبق".. أن يسبقك إلى الله أحد وكثيرًا ما كنت أستدل بقصة خالد بن الوراق مع جاريته حين عاتبها على إجهاد نفسها في العبادة فكانت تقول له: يا خالد والله إني لأعلم أنَّ في كرم الله مستغاثاً لكل مذنب، ولكن كيف لي بحسرة السباق؟ قال: قلت: وما حسرة السباق؟ قالت: غداة الحشر إذا بعثر ما في القبور، وركب الأبرار نجائب الأعمال، فاستبقوا إلى الصراط! ولا يسبق مقصر مجتهدًا أبدًا ولو حبا المجد حبوًا... أم كيف لي بموت الحزن والكمد، إذا رأيت القوم يتراكضون وقد رفعت أعلام المحسنين، وجاز الصراط المشتاقون، ووصل إلى الله المحبون، وخلفت مع المسيئين المذنبين!!..

أقول: صدقت الجارية.. رحم الله أيامًا كنا نعيش فيها في عبق المجدين وعطر المجتهدين وشذا المحسنين

المهم كنت أظن أن كل أقراني مثلي عندهم أريحية التسابق والتنافس.. ولكني اكتشفت أنها موهبة كسائر المواهب يعطيها الله لمَن يشاء على الوجه الذي يشاء.

وعندما وفقني الله للالتزام على يد الدكتور سناء أبو زيد رحمة الله عليه تعلمت منه أن المنافسة الحقيقية تكون في معالي الأمور لا في سفاسفها وعلمت أن النفوس ذوي الهمم العالية تطلب القمم دائمًا ولا ترضى بغير الله عوضًا وما زالت تتردد في أذني كلمات أبو خلاد "الدكتور سناء" حينما كان يعتريه بعض الكسل أو التواني فيفزع إلى الشعار الذي كان الإمام البنا يحبه: "وعجلت إليك رب لترضى".

وكنت قبل أن أخلد إلى نومي أتذكر أبا مسلم الخراساني وهو يتقلب في فراشه تنازعه همته فتقول له أمه: ما بك؟ فيقول لها: همة يا أماه تناطح السحاب.. وما برحت أستعيد في كل حياتي مقولة الحسن البصري: "مَن نافسك في دينك فنافسه ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره".

وما زالت أبيات الشعر التي تحث على التنافس تطربني.. وتدفعني إلى الأمام أمثال قول أبي الطيب المتنبي:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم  وتأتي على قدر الكرام الكرائم

وتعظم في عين الصغير صغارها   وتصغر في عين العظيم العظائم 

وكنت أرنو ببصري في حجب الغيب وأنا أتمثل حب الإمام البنا لهذا البيت من شعر طرفة بن العبد

إذا قوم قالوا من فتى خلت أنني. عنيت فلم أقعد ولم أتبلد

وهكذا ربانا الرعيل الأول من الإخوان على قول الطغرائي: 

قد هيئوك لأمر لو فطنت له  فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

ثم طال بي العيش حتى رأيت هؤلاء الهمل الغثاء الذين لا وزن لهم والذين سماهم الفاروق "السبهلل" لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة.. كل همة أحدهم كما قال الإمام لقمة لينة أو امرأة وضيئة أو حلة جميلة أو نومة مريحة  أو مركب فاره أو مظهر كاذب أو لقب أجوف.. وكنت أبكي حينما أسمع قول هاشم الرفاعي: وآلمني وآلم كل حر سؤال الدهر أين المسلمون؟.

ونظرتُ إلى قومي فوجدتهم خرجوا من مضمار السباق الحضاري وصاروا يتسابقون في توافه الغايات أحسن فيلم وأجمل ممثلة إغراء وأحسن مكياج ومعبود الجماهير وهنا الدوري وهناك الكاس وهنا مسابقة ملكات الجمال وهناك سباق أكل المكرونة، بل إن من سخرية الأيام أن تسمع عن مسابقة خليجية بعنوان: "ملكة جمال العنز" واقرأ موسوعة جينيز في الأرقام القياسية فأرى السفاسف التي يريد لنا الغرب أن نتنافسها.

وهنا تأتي شخصية عمر "الأول غالبا" "وخذ الغلبة على كلا المعنيين" غلبة الأكثرية أو المغالبة والسبق.. فترى نفسك تتوارى خجلاً من عمر أن تكون رجلاً سبهللاً  أو امرأة سبهللاً، أن تكون صفرًا وعلى الشمال لا يؤثر وجودك في الأرقام.. وهنا تأتي إنجازات عمر الحصرية التي لم ينازعه فيها أحد لتقول لنا كما قال ابن عطاء الله السكندري في مقياس البركة في العمر: رب عمر قلت آماده وتعددت أمداده ورب عمر اتسعت آماده وقلت أمداده.. مَن بورك له في عمره أدرك في يسيرٍ من الزمن ما لا يدخل تحت دوائر العبارة ولا تلحقه الإشارة.

وهكذا نجد أن عمر الفاروق في مضمار السباق الحضاري سبق عصره بل والعصور التي بعده.. فهو أول من جهر بهجرته وأول من وافق القرآن الكريم في الخمر وفي الحجاب وفي أسارى بدر وأول من أرخ بالهجرة وأول من عس بالليل بنفسه "ليتفقد أحوال الرعية" وأول من اتخذ الدرة "عصا صغيرة" التي قال عنها الشعبي: "كانت درة عمر أهيب من سيف الحجاج"، وهو أيضًا أول مَن عقد مؤتمرات سنوية للقادة والولاة يحاسبهم، وهو أول مَن أحصى أموال عماله وولاته وطالبهم بكشف حساب" مبدأ من أين لك هذا"، وهو أول مَن مصر الأمصار.

وهو أول مَن مهَّد الطرق وتناقل الركبان كلمته المشهورة: "لو عثرت بغلة في العراق لسألني الله تعالى عنها لِمَ لَمْ تمهد لها الطريق يا عمر"، وهو أول مَن جَمَعَ الناس على صلاة التراويح وأول من وسَّع المسجد النبوي والمكي وفرشه بالحصى وأول مَن أسقط الجزية "الضريبة" عن الفقراء والعجزة من أهل الكتاب وأول مَن أمر بالتجنيد الإجباري وأول من حدد مدة غياب الجند عن زوجاتهم بستة أشهر، وهو أول مَن دون الدواوين وأول من اتخذ دارًا للتموين وأول مَن أقام محطات استراحة في الطريق بين المدن الرئيسية.

وهو أول مَن أوقف في الإسلام (وزارة الأوقاف)، وهو أول مَن جعل حصة تموينية لكل فرد شهريًّا ساوى فيها بين الرجل والمرأة وبين الحر والعبد (كلاهما بطن)، وهو أول رئيس دولة عظمى يقوم بتنظيف الشوارع بنفسه وهو أول من حفر الأنهار والقنوات وقد حفر خليجًا بين النيل والبحر، وقد حفر الخليج في أقل من سنة حتى جرت فيه السفن وبعد عمر قل الاهتمام به حتى اندثر (إذن ففكرة قناة السويس ليست جديدة على عمر الأول غالبًا).

وهو أول من أخذ زكاة الخيل وهو أول من وضع قانونًا للضيافة وأول من أقرض الفائض من بيت المال للتجارة (بدون ربا طبعًا وللتجارة لا لكماليات ولا لفائضات)، وهو أول مَن قنَّن علاج الحيوانات المصابة وأول مَن عيَّن امرأةً في منصب المحاسب، وأول من أمر بالتعليم الإلزامي وجعله مجانًا وأول من وفَّر المساعدة لذوي الاحتياجات الخاصة، وهو أول من جعل من إحياء الأرض واستصلاحها سببًا لدوام ملكيتها.

والعجيب أن هذا ليس مجرد سرد بل لكل واحدة مما ذكرت قصة أو دليل، الأمر الذي جعل المفكر الكبير العقاد يقول: إن كتابة سيرة عمر أشبه ما تكون بعملية بحث في أول من فعل هذا ومن أول من أنجز ذاك.

ولئن كان الفاروق قد قال لأبي بكر عند وفاته: أتعبت من بعدك.. فإنا نقول له: ياعمر أخجلت من بعدك.. والله لو استرجعناك بشخصك لذابت وجوهنا حياءً منك.. مصر- يا أمير المؤمنين- التي فتحت في عهدك خجلى أن تأتيها بخارطة إنجازاتك وتأتيك هي بخارطة الطريق السيسية.. مصر خجلى أن تأتي أنت بالمقداد بن الأسود والزبير بن العوام وعبادة بن الصامت ومسلمة بن مخلد أربعة قلت عنهم: كل واحد بألف.. ونأتيك نحن بعبد الفتاح السيسي ومحمد إبراهيم وحازم الببلاوي وعدلي منصور.. إيه ياعمر لو علمت ما أحدثنا بعدك.. لو علمت أي جناية جنيناها على أنفسنا، لقد كنت يا أمير المؤمنين في سباقٍ مع الزمن مع الحضارات الزائلة بل كنت في سباق مع نفسك تجدد وتزيد وتبدع وتحصد النصر تلو النصر لتسلمنا الراية وتعطينا الشعلة..  ولكن أين الشعلة فقد انطفأت وأين الراية فقد نكست.

وأتساءل وحق لي التساؤل في زمن نرجع فيه القهقرى.. ماذا لو وجدنا المضمار ودخلنا ساحة السباق العمري هل يمكن أن نجد مكانًا في الماراثون العمري؟ هل قوانين السباق تسمح لنا أن نقتحم الساحة لنشترك في الماراثون وإن وصلنا حتى متأخرين؟.

أقول: إن عمر نفسه يجيب على هذا السؤال حينما صعد المنبر يومًا فحمد الله ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورون حتى يأتي أمر الله".. الله أكبر أحييت الأمل في نفوسنا يا عمر الخير.. فالسباق مستمر والأبطال ظاهرون لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم والعرض والجائزة لا زالت معروضة وهاهو أمير المؤمنين يقول في شرح قوله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس: يقول الفاروق: من سره أن يكون من تلكم الآية فليؤد شرط الله منها.

وأحسبنا بعد وقوفنا هذه الوقفة الفاصلة في رفض الانقلاب بمصر.. بعد ثباتنا أمام قوى الشر مجتمعة، بعد ضربنا المثل الأعلى في الفداء والتضحية في رابعة وفي النهضة وفي الحرس الجمهوري والمنصة ورمسيس أحسبنا قد دخلنا مضمار السباق ثانية بل وبدأنا نقطع فيه بعض المراحل وأظننا نتراءى الشعلة العمرية من بعيد وإن هي إلا بضعة مراحل فندركها ونحملها ولن تسقط منا هذه المرة إن شاء الله مهما بلغت التضحية وفدح الثمن ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة.