رغم وضوح القوانين واللوائح الحاكمة لعملية التحول إلى القطاع الخاص الوطني والأجنبي- أي عملية "الاستخصاص" أو الخصوصية- ورغم اللجان الفنية والقانونية ومكاتب الخبرة والاستشارات الخاصة بالتقييم من الداخل والخارج، ورغم (تستيف) الأوراق والتقيُّد التام بشكلية الإجراءات وتعقيدها الذي يكاد يكون مقصودًا، ورغم التشديد الدائم على الإفصاح والشفافية.. استشرى الفساد والإفساد في هذه العملية؛ مما أدى إلى إهدار وتبديد قيمة أصول رأسمالية رئيسة في القطاع العام المصري؛ مما يهدد بضياع جزء مهم من الثروة القومية لصالح الجانب، وإمكانية عودة سيطرتهم على الاقتصاد المصري، وما يحمله ذلك من عقبات وتراجع في عملية التنمية الوطنية.

 

والأمثلة على إهدار المال العام وتدمير الأصول الرأسمالية للقطاع العام ببيعها بأبخس الأسعار- إلى ما يقرب بالمجان- كثيرةٌ وشائعةٌ، وتشير بما لا يدع مجالاً للشك إلى صور واضحة للفساد والإفساد، وتدحض كل ادعاء بالإفصاح والشفافية، ناهيك عن النزاهة والأمانة، إلا إذا كان هذا الإفصاح تبجحًا بإعلان الفساد، وتحديًا بشفافية لا نظير لها من المفسدين.

 

والمثال الأول والصارخ على هذا التدمير والتخريب هو بيع شركة النصر للغلايات (المراجل البخارية) لمستثمرٍ- أو قُل لناهب أو لسارق- أمريكي كندي، وهو شركة بابكو آند ويلكوكس؛ حيث بِيْعَت الشركة المصرية بمبلغ 17 بيلون دولار، على أن يقوم الجانب المصري بسداد ديون الشركة والضرائب المستحقة عليها، وبعد خصم هذه المستحقات وصل الثمن الصافي إلى 750 ألف دولار، بينما أرض الشركة والتي تبلغ 31 فدانًا على النيل تصل قيمتُها وقت البيع إلى 115 مليون دولار.. هذا بجانب تضمين الصفقة- أو قل السرقة- عقد توريد غلاَّيات لعملية محطة الكريمات بمبلغ 600 مليون دولار!!

 

المثال الثاني الذي تشعُّ منه رائحةُ الفساد هو بيع شركة "بيبسي كولا" المصرية إلى مستثمر مصري وآخر سعودي وشركة بيبسي كولا العالمية بنسب 49%، 49%، 2% على الترتيب، بمبلغ 157.6 مليون جنيه، وهو ثمنٌ لا يتعدى ثمن الأرض فقط أو ثمن مصنعين من مصانع الشركة؛ بدليل أن المشتري الأول والثاني باعا حصةً تبلغ 77% من الشركة المصرية بعد ذلك لشركة "بيبسي كولا" العالمية بمبلغ 400 مليون دولار!!

 

والمثال الثالث لفساد وإفساد عملية الخصخصة يتمثل في بيع فندق الميريديان- والذي يقع في موقع متميز على النيل مساحته 21 ألف متر- إلى مستثمر سعودي بمبلغ 75 مليون دولار، بينما سعر الأرض فقط يبلغ 185 مليون دولار وقت البيع ولا أقول السرقة!!

 

وتشمل القائمة شركات ناجحة ومهمة للاقتصاد المصري، مثل شركات أسمنت أسيوط وبني سويف والإسكندرية، والتي بِيعت لمستثمرين أجانب، وكذلك شركة الزجاج المسطَّح وشركة الأهرام للمشروبات، واللتان بِيعتا لمستثمرين أجانب أيضًا، وبأسعار أقل بكثير من القيمة الحقيقية لهذه الشركات.

 

وتستمر مسيرة التبديد الفاضح للمال العام لتشمل بيع حصة بنك الإسكندرية في البنك المصري الأمريكي لبنك كاليون الفرنسي لمستثمرين أصبحوا وزراء في الحكومة الحالية، وتم البيع كالعادة بأقل من القيمة الحقيقية بكثير، أي بنسبة تقرب من 75% من هذه القيمة، ثم يأتي مثال صفقة بيع "عمر أفندي"، والتي يجري الإعداد لها على قدم وساق، وهي فضيحة اقتصادية بكل المعايير؛ إذ يُشرَع في بيع 82 فرعًا من هذا الصرح التاريخي الكبير- يشمل الأرض والمخازن وأسطول السيارات- إلى مستثمرٍ سعوديٍّ بأقل من ثَمن خمسة أو ستة أفرع فقط، أي بقيمة إجمالية تبلغ نصف مليار جنيه فقط أو 504.9 مليون تحديدًا، بينما التقييم المتحفظ لأصول هذا الصرح يصل إلى 1139 مليون جنيه!!

 

والمثال الأخير في قائمة التدمير والتبديد لأصول مصر الإنتاجية هو صفقة بيع شركة غزل شبين الكوم، والذي يزمع إتمامُها مع مستثمر هندي بسعر ليس بخسًا فقط وإنما شديد الرمزية يقرب من المجَّان، وهو 98 مليون جنيه، وهو سعرٌ لا يساوي ثمن العمارات المملوكة للشركة، تلك الشركة المكونة من ستة مصانع، و842 ماكينة و24 عمارةً سكنيةً، بالإضافة إلى المخازن التحتية للشركة، والتي تقدَّر قيمتُها جميعًا، طبقًا لأسعار السوق بنحو ثلاثة بلايين جنيه!! يتم كل ذلك بغض النظر عن الإضافات المستمرة من آلاف العاطلين إلى كارثة البطالة المتفاقمة أصلاً باسم المعاش المبكر!!

 

وتستمر مسيرة الخصخصة بلا توقف، رافعةً شعار الإفصاح والشفافية، ومؤكدةً على حماية حقوق العاملين، ومحافِظةً على كفاءة إدارة الأصول العامة، ومشددةً على تشجيع الاستثمار الأجنبي، وملبيةً أوامر الصندوق والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية، بل السفارة الأمريكية، والحقيقة المرة هي مزيدٌ من الفساد والإفساد، وبيع- إن لم يكن سرقةً- حاضر ومستقبل الاقتصاد المصري!!

 

فهل مِن عاقل في هذا البلد يوقف هذا النهبَ المنظَّم أو الخراب الواسع لثروة مصر ويعمل على ترشيد هذه العملية ويحصرها في القطاع الخاص المصري؟! سؤال لكل مَن يهمه أمرُ وحاضر ومستقبل هذا البلد الحبيب!!