الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه


وبعد؛ فقد كان تحويل القبلة من أهم الأحداث في تاريخ الأمة؛ إذ به أضحت الأمة مستقلة المعالم في كل شيء، وبه كمل ارتباط القلوب بكل الأماكن المقدسة، وبكل الأنبياء، بعد أن جمع الله لها القبلتين، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بسائر النبيين إماما في المسجد الأقصى، وبذلك تأكدت خيرية ووسطية الأمة وريادتها؛ كونها الأمة التي تشهد على الأمم ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143]، وحين تخلت عن هذه الرسالة حرمت نفسها من من هذا الدور الريادى بين الأمم.


وقد تعرضت الأمة بهذا الحدث لواحد من أشد الابتلاءات التي استهدفت تشويه الحق،  فقد شن اليهود والمنافقون والمشركون عليهم حملة إعلامية بشعة، استخدموا فيها كل أساليب الخداع والتدليس وقلب الحقائق؛ لتشويه معالم الإسلام في نفوس الصحابة، والتشكيك في المنهج والقيادة على السواء، لكنها باءت بالفشل أمام الإيمان الصادق والوعي العميق ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: 142]، وخرجت الأمة من ذلك بحقيقة واضحة لا تقبل التشكيك ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ. وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِين﴾ [البقرة: 144، 145]

القبلة رمز وحدة الأمة: 

في ذكرى تحويل القبلة لا بد من تذكير الأمة كلها بأنه مهما تباعدت الأقطار وتعددت الدول واختلفت الأجناس والألوان، فجميع المسلمين يتوجهون إلى قبلة واحدة، فتتوحد مشاعرهم، ويتعمق انتماؤهم الروحى والدينى والعاطفى فى اتجاههم إلى هذه القبلة المقدسة، ويتعزز التواصل المعنوي والمادي بينهم، ويتنامى إحساس الجميع بعضهم ببعض، ويسهل التعاون البناء في كل المجالات بين أصحاب القبلة الواحدة، ويتحقق في الأمة معنى كونها جسدا واحدا « مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»، ولن تحقق الأمة ريادة ومكانة في عالم اليوم إلا بتحقيق معاني الوحدة والتعاون العملي بين دولها وشعوبها.


الصهاينة يخططون لإضعاف الأمة وإجهاض ثورتها: 

غير خاف أن الشعوب العربية والإسلامية انتعشت آمالها مع ثورات الربيع العربي، وبخاصة الثورة المصرية، وقوي أمل التحرير للأقصى في النفوس، ولهذا انطلق الصهاينة مدعومين بمراكز القرار الدولي الواقع تحت ضغوطهم إلى مد اليد لشركائهم المحليين والإقليميين للانقلاب على الثورة وإخماد آمال الثائرين، وبدلا من أن تكون فوائض الأموال العربية موجهة لمشروع التحرير الذي ينقذ الأمة ويرفع قدرها ويعلي مكانتها بين العالمين، توجه جانب من تلك الفوائض لمحاصرة الربيع العربي بالتعاون مع أصحاب المصالح والمطامع الانقلابيين، وحصل الانقلاب الأثيم على الثورة المصرية، وقد كشفت الوقائع الدور الكبير للصهاينة في محاولة وأد الحلم العربي. 


ولكن الثورة المصرية المباركة تأبى إلا أن تستمر في مسيرتها، وتواصل نضالها، وكل فصائلها الثورية مدعوة للتوحد والوعي لإفشال هذا المخطط الصهيوني، وهي قادرة على ذلك بعون الله، ومهما كان حجم التحديات التي تواجه ثورتنا المباركة فإن الأقصى في قلوبنا. 


وفي ذكرى تحويل القبلة وبينما تنشغل الأمة بخلافاتها ومشاكلها الداخلية يسعى الصهاينة لاستغلال هذا الضعف والتفرق العربي والإسلامي في الضغط على الفلسطينيين للقبول بسلطة شكلية منزوعة السلاح في حدود مؤقتة، يكون دورها الأساسي حماية دولة الكيان، ومطاردة ونزع سلاح المجاهدين، وطي صفحة اللاجئين، والإقرار بدولة الكيان دولة يهودية خالصة، ومن ثم التطبيع الشامل مع كل الدول العربية. 


ولهذا انزعج الصهاينة من إتمام عملية المصالحة الفلسطينية التي تمثل نقطة ضوء مهمة في وسط هذه العتمة العربية، وإذ نثمن غاليا هذه المصالحة الفلسطينية فإننا ندعو الفلسطينيين للعض عليها بالنواجذ، وندعو الدول العربية للقيام بواجبها القومي والديني في دعم هذه المصالحة وتوفير كل أسباب الدعم المادي لاستمرارها وتثبيتها ونموها، وتوفير كل الإسناد المعنوي للفلسطينيين في كل المحافل الإقليمية والدولية، للوصول إلى هدفهم المنشود بإقامة دولة فلسطين الحرة وعاصمتها القدس الشريف. 


كما نؤكد على أن المقاومة الفلسطينية للعدو الصهيوني المحتل حق مشروع وواجب مقدس تقره كل القوانين والأعراف والدساتير، وأنها السبيل الوحيد الناجع لاستعادة الحقوق ورد العدوان. 


وكذلك نؤكد أن فلسطين والقدس والأقصى ليست قضية الفلسطينيين وحدهم، ولا قضية العرب وحدهم، ولكنها قضية المسلمين في كل مكان، بل قضية الأحرار في أنحاء الدنيا.


الأقصى يستصرخ المسلمين اليوم: 

لكأننا بقبلة المسلمين الأولى في ذكرى التحويل تنادي الأمة لتخليص القدس والأقصي من أيدي الصهاينة الذين يعملون بكل ما استطاعوا على طمس معالم القدس وعلى تهويدها، وتقويض أسس المسجد الأقصى بالحفريات لينهدم وليقيموا هيكلهم المزعوم على أنقاض مقدساتنا. 


فهل آن الأوان لأن تتوحد كلمة العرب والمسلمين على حقهم، ويتجاوب الحكام مع نبض شعوبهم ويستجيبوا لنداء الأقصى، ويهبوا لدعم المجاهدين في الدفاع عن القدس وبيت المقدس وتخليصه من الاحتلال الصهيوني الجاثم على صدره؟ وهل يعود الأقصى من جديد عنوانا لأمة تتوحد، وتتعاون لتستعيد مقدساتها ولتسترد مكانتها وعزتها؟.


ذلك أمل قد يراه البعض بعيدا، ونراه قريبا إن شاء الله. 

والله أكبر ولله الحمد.