- غياب التجربة الاجتماعية للفتاة يجعلها زوجةً عاجزةً 

- الاختلاط بالصالحين والتواصل معهم بداية الطريق

 

منذ مولد البنت والأم تضع نصب عينيها أن تعلمها المهارات اللازمة لبيت الزوجية، والكثير من البنات الصغيرات يُدركن السبب وراء دفع أمهاتهن لهنَّ لمشاركتهن الأعمال المنزلية، ولكن شيئًا مهمًا لا تفطن إليه بعض الأمهات وهي أن عوامل النجاح ليست كلها تنبع من معدةِ الرجل كما كان شائعًا في السابق، وإنما هناك مهارات على درجةٍ عاليةٍ من الأهمية، ويتوقف عليها سعادة الأسر واستقرارها ربما بدرجة تفوق رضا المعدة.

 

فالذكاء الاجتماعي وحسن إدارة العلاقات الاجتماعية خاصةً مع أهل الزوج يحقق للزوج سعادةً أكبر، وللأسرة الجديدة استقرارًا اجتماعيًّا أعمق، وللأبناء محضنًا اجتماعيًّا أهنأ وأكبر.. فهل منا مَن أدرك قيمة هذا البعد وحرص على تنشئة بناته عليه منذ نعومة أظفارهن كما هو الحال مع فنونِ الطبخ والمهام المنزلية الأخرى؟ أم أنه كان غائبًا عنا ليس كمنهج تربية للبنت فحسب وإنما كسلوك أسري بشكلٍ عام؟ وهل البنت التي تنشأ في بيتٍ يتمتع بعلاقاتٍ اجتماعية جيدة مع هياكل المجتمع المختلفة تكون أنجح اجتماعيًّا من تلك التي نشأت في بيتٍ اعتمد الانطوائية والبعد عن المجتمع كطريقة للحياة؟ هذا ما سيكشف عنه التحقيق التالي:

 

عزلة اجتماعية

تقول (أمل أحمد): كان أبي لا يحب الاختلاط بالناس ولا حتى أقاربنا من قريب، وأنا كبنتٍ كان لي معاملة خاصة فأنا ممنوعة من الخروج، وحتى الذهاب إلى صديقاتي كان من المحرمات على، بل أكثر، كما كان محرمًا على أيضًا استضافتهن، الخلاصة أننا كنا منغلقين على أنفسنا، وكانت أمي تقول: إن الاختلاط يجلب المشاكل، والبعد عن الناس غنيمة، حتى أصبحت انطوائيةً، ولا أستطيع التعامل مع العالم الخارجي.

 

وتضيف أمل: عندما تزوجتُ بدأت المشاكل في حياتي، فقد وقعتُ في العديدِ من المشاكل مع زوجي وأهله لقلة خبرتي وعدم احتكاكي بالآخرين، ولكن بفضل الله أولاً ثم الصحبة الصالحة التي عرَّفني بها زوجي ومعاونتها ونصائحها المستمرة بدأت حياتي تتغير، ولذلك أحاول أن اتلافي الأخطاء التي تربيتُ عليها، والآن أحاول أن أربي أولادي على كيفية معاملة الآخرين، وحقيقةً كان زوجي مربيًا ومعلمًا لي ومدركًا أنَّ العيبَ ليس في نفسي وإنما كان في تربيتي؛ ولذلك أعانتني الصحبة الطيبة التي عرَّفني عليها، وكذلك بأنواع الكتب التي كان ينتقيها لي ومن هذه الكتب كتاب: "فن التعامل مع الآخرين" والذي قرأته من أوله لآخره واستفدتُ منه في طريقةِ تربيتي لأولادي؛ وذلك حتى لا يقعوا في الأخطاء التي وقعتُ فيها من قبل.

 

أما (أم سارة) فتقول: توفيت أمي وأنا في المرحلة الثانوية، وتزوج أبي بعدها بسنة تقريبًا، فتحول بيتنا الذي كان لا يخلو من الزائرين إلى بيتٍ مهجور، ولم يعد يأتي إلينا أحد إلا أقارب زوجة أبي، وفي الوقتِ نفسه لم أجد أبي بجواري، وحتى إخوتي الذين تزوجوا قبلي لم يعودوا يأتون لزيارتنا، وأصبحتُ وحيدةً بمعنى الكلمة إلى أن مرَّت الأيام وتزوجت في بيت عائلة فكانت المأساة: حيث بدأت معاناتي مع أهل زوجي وخاصةً حماتي وحماي، كانت هناك مشاكل كثيرة، ولكني لا أترك منزلي وأذهب إلى بيتِ أبي، الذي أصبح غريبًا عني، بل كنت أكتفي بالبكاء طوال الليل، ولكن زوجي كان له الفضل الكبير في توجيهي حتى زاد الحب بيني وبين حماتي وأصبحتُ من أفضل نساء أولادها لديها.

 

وعلى النقيض كانت (أم أمير) التي تقول: تربيت في بيت والدي على حب الآخرين فوالدي كان ودودًا، يحبه أغلب الناس، وبيتنا لا يخلو من الزوار وأمي- حفظها الله- كانت دائمًا تشركني في كل شيء وتتشاور معي في اختيار الطعام والمفروشات، وغير ذلك وكانت كثيرًا ما تُرسلني إلى السوق لشراء لوازم البيت، ولذلك لم أجد مشكلةً في هذا الجانب بعد الزواج ولكن كانت مشكلتي الأساسية بعد زواجي هي حماتي التي لم تكن راضيةً عني وعن زواجي منذ البداية لأنني لا أتمتع بقدرٍ كافٍ من الجمال، ووصل الأمر إلى حدِّ مطالبتها زوجي بالبحث عن زوجة أخرى أكثر جمالاً حتى يستمتع بحياته، فقال لها عندما رأيتها كانت أجمل واحدة في نظري، وظلت حماتي تُعاملني معاملةً سيئةً، ولأنَّ أمي ربتني على أن حماتي هي أمي الثانية ويجب عليَّ احترامها والبعد عمَّا يُغضبها؛ لذا رغم كل شيء كنت أعاملها معاملةً حسنةً وأسمع كلامها حتى تغيرت معي تمامًا وأصبحت المفضلة والمقربة إلى قلبها بل أصبحتُ عندها أغلى من بناتها، وتشهد لي في كل مكان وتُوصي زوجي بي.

 

وضع متقلب

أما (أم آية) فمشكلتها الأساسية أنها تسكن في القاهرة بينما تسكن والدة زوجها (حماتها) في الأرياف ورغم أنها تذهب مع زوجها لزيارتها كل أسبوع إلا أنه كما تقول (أم آية): كثيرًا ما تستقبلني بوجهٍ عابسٍ لأنها تظن أنني أخذتُ منها ابنها بعدما تعبت في تربيته، وصراحةً كنتُ أعود من هذه الزيارةِ حزينةً، ولا أعلم ماذا أفعل؟ ثم مرَّت الأيام وجاءت حماتي للإقامةِ معنا، ومرت فترة في أول الأمر قاسيت فيها الكثيرَ ولكن مع حسنِ معاملتي لها تحولت إلى النقيض، ولكن هذا الوضع يغلب عليه التقلب: فمرة أجدها تحبني جدًّا، ومرة أخرى أجدها لا تُطيقني، ولكن الصبر جميل!

 

الاختلاط بالصالحين

وترى (أم عماد)- داعية- أنَّ تربيةَ البنت اجتماعيًّا تبدأ من المنزل بزيارةِ الأقارب وعدم الانطواء وزيارة الصديقات خاصةً الصالحات، وإشراكها في اتخاذ القرار في المنزل، حيث يغرس في الفتاة حسن المعاملة الاجتماعية منذ الصغر، ثم تأتي المدرسة بعد الأسرة حيث تلعب دورًا في التهيئة الاجتماعية للفتاة، ولذا يجب على الآباء أن يدفعوا ببناتهن إلى التفاعل مع زميلاتهن ومدرسيهن بالمدرسة وتشجيعهن على الاشتراك في الأنشطة المختلفة، وإذا ما بلغن سن المراهقة يجب أن يزداد الحوار معهن ومصاحبتهن من جانب الأم والأب، وأن يخرجن مع والدتهن لأداء الصلاة بالمسجد، وذلك يساعد على اختلاطهن بمجتمع الصالحين، وتعليمهن سعة الصدر، وتقبل آراء الآخرين وإن اختلفوا معهن، ومن خلال تجربتي في المجالِ الدعوي والذي بمقتضاه تحملت مسئوليات تربوية تجاه أجيال متعاقبة من بنات المسجد، وقد كنتُ أدرك أخطاء التربية الانطوائية من تصرفات بعضهن وأسلوبهن في العمل الجماعي، وتفاعلهن مع روح الفريق.

 

ويحضرني هنا فتاة كانت بحكم تربيتها شديدة الانطوائية، وليست سهلةَ القياد، ولكنني أصررت على ملاحقتها بالمكالمات التليفونية، وعمدت إلى إشراكها في أعمال تطوعية لخدمة الناس وضمن فريق حتى تعتاد ألا تعيش بمفردها وكنت انتهز وجود أي مناسبة فأجعلها أول معني في تحمل مسئولية إعداد خطة عمل للمشاركة في المناسبة، وكذلك تقديم يد المعاونة، وجاء فرح صديقة لنا "فورطناها" في مساعدتها سواء بشراء احتياجاتها أو مساعدتها في فرشِ الشقة، كل هذه التدريبات العملية مع مدارسة سيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وزوجاته وسائر الصحابيات رسخ لديها قناعة: إنَّ المؤمن آلف مألوف، والآن أصبحت إيجابيةً واجتماعية أكثر.

 

مناهج التعليم

وترى الخبيرة التربوية أماني محمد أنَّ أسلوبَ التعليم الذي لا يجعل للبنت خصوصية في مناهجه على اعتبار أنَّ مسئوليتها الاجتماعية المستقبلية أثقل بكثيرٍ من مهمةِ الرجل الذي- يُعتبر المسئول الأول، وحتى أسلوب تربيتنا لبناتنا في بيوتنا لا يشمل التربية الاجتماعية، فالبنت عندنا لا تمارس المجاملة الاجتماعية بأي شكلٍ من الأشكالِ في مرحلة ما قبل الزواج، فلا تجامل في الأفراح والمناسبات السعيدة، ولا تقوم بالمواساة في حالات الوفاة والأحداث الأليمة، وغياب التجربة الاجتماعية المسئولة في حياة البنت يجعل منها فيما بعد زوجةً عاجزةً عن التواصل الاجتماعي، سواء على مستوى الدوائر الاجتماعية القريبة، أوعلى مستوى الدوائر البعيدة، وتعتبر إقامة علاقة خالية من التوتر مع أهل الزوج هي حلقة مفقودة في الفكر الاجتماعي للزوجة الجديدة سواء على المستوى النظري أي بالتمني، أوعلى المستوى التطبيقي من خلال الإصرار على النجاح في ذلك مهما كانت العقبات، ولذا فإن أي إخفاق تعانيه البنت مع أهل الزوج تُعتبر الأم ونظام التعليم هما المجرمان في تلك الجريمة الاجتماعية التي ساهمت في استفحالِ ظاهرة التفككِ الاجتماعي في المجتمعِ وارتفاع معدلات الطلاق.

 

علم السلوك

وتركز الدكتورة إجلال إسماعيل على مسئوليةِ السياساتِ التعليمية والمناهج فتقول: إنني أطالب مرارًا وتكرارًا بتوسيعِ منهج التربية الاجتماعية ليشمل- إلى جانب فرعيه الحاليين: الجغرافيا والتاريخ– فرعًا لدراسةِ السلوك الاجتماعي والتنشئة الاجتماعية للتلاميذ حتى إذا ما بلغوا سنَّ المسئولية يكون قد تجمعت لديهم خبرات ومعلومات اجتماعية تُساعدهم على أن يكونوا نواةً اجتماعيةً ناجحةً مستقبلاً والمحصلة النهائية أنه لا المجتمع يُربي، ولا التعليم يُربي، فكانت المحصلة أن الشباب اليوم قد يتزوجون، ولكن لا يدرون لماذا يتزوجون؟ وهذه مصيبة لأنه طالما تزوَّج بلا رؤية، فإنه يُطلِّق بلا رؤية، ولذلك أقبل الشباب على الزواج غير الشرعي والذي يُطلقون عليه اسم الزواج العرفي من هذا المنطلق؛ لأن معنى الزواج والأسرة والمسئولية الاجتماعية غائبة عنه، ولا يعرف إلا الشهوة التي تلح عليه، فيجيب لها مطلبها ولكن بلا رؤيةٍ مسئولةٍ.