الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. 


وبعد؛ فلم تزل آيات كتاب الله العزيز الحميد تفرض سطوتها الروحية على العقلاء من الخلق، فيذعنون لها خاضعين، وكلنا نذكر كلام الوليد بن المغيرة عن القرآن: «وَاَللّهِ إنّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً، وَإِنّ أَصْلَهُ لَغَدِقٌ (أي كثير)، وَإِنّ فَرْعَهُ لَجُنَاةٌ (أي مثمر)». 


بل إنَّ المشركين بلغ من خضوعِهم لسلطانِ الحقِّ في القرآنِ أنهم سجدوا حينما قرأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم سورة ﴿النجم﴾ وسجد في آخرها، فقد أخرج الشيخان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّجْمَ بِمَكَّةَ، فَسَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ، غَيْرَ شَيْخٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى -أَوْ تُرَابٍ- فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ، وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا، فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا».


وفي رواية: «فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنَ القَوْمِ إِلَّا سَجَد»

وفي رواية: «وَسَجَدَ مَعَهُ المُسْلِمُونَ وَالمُشْرِكُونَ وَالجِنُّ وَالإِنْسُ».

(1) رومي يسلم بعد تدبر آية من كتاب الله

قال القرطبي في التفسير: ذَكَرَ أَسْلَمُ أَنَّ عُمَرَ رضى الله عنه بَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا رَجُلٌ مِنْ دَهَاقِينِ الرُّومِ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. 


فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: أَسْلَمْتُ لِلَّهِ. قَالَ: هَلْ لِهَذَا سَبَبٌ! 


قَالَ: نَعَمْ! إِنِّي قَرَأْتُ التَّوْرَاةَ وَالزَّبُورَ وَالْإِنْجِيلَ وَكَثِيرًا مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، فَسَمِعْتُ أَسِيرًا يَقْرَأُ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ جَمَعَ فِيهَا كُلَّ مَا فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَأَسْلَمْتُ. 


قَالَ: مَا هَذِهِ الْآيَةُ؟ قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ﴾ فِي الْفَرَائِضِ﴿وَرَسُولَهُ﴾ فِي السُّنَنِ ﴿وَيَخْشَ اللَّهَ﴾ فِيمَا مَضَى مِنْ عُمُرِهِ ﴿وَيَتَّقْهِ﴾ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ ﴿فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ﴾ وَالْفَائِزُ مَنْ نَجَا مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ. 


فَقَالَ عُمَرَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُوتِيتُ جوامع الكلم».

(2) طبيب فرنسي وربان إنجليزي يسلمان بعد أن قرآ ترجمة القرآن

وقال الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾: «نَظَرَ طَبِيبٌ إِفْرِنْسِيٌّ مُعَاصِرٌ فِي تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ، فَرَأَى أَنَّ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالطِّبِّ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصِّحَّةِ مِنْهُ - كَالطَّهَارَةِ وَالِاعْتِدَالِ وَعَدَمِ الْإِسْرَافِ - مُوَافِقٌ لِأَحْدَثِ الْمَسَائِلِ الَّتِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا رَأْيُ الْأَطِبَّاءِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، فَرَغَّبَهُ ذَلِكَ فِي تَأَمُّلِهِ كُلِّهِ فَأَسْلَمَ. 


وَنَظَرَ (مِسْتَر بَرَاوِن) وَهُوَ رُبَّانُ بَارِجٍ مِنَ الْإِنْكِلِيزِ فِي تَرْجَمَةِ مِسْتَر سَايِلْ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ لَهُ، فَاسْتَقْصَى فِيهِ الْكَلَامَ عَنِ الْبِحَارِ وَالرِّيَاحِ، فَظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ أَكْبَرِ رُبَّانِي الْمَلَّاحِينَ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ لَمْ يَرَ الْبَحْرَ قَطُّ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ أُمِّيًّا لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا، وَلَا تَلَقَّى عَنْ أَحَدٍ دَرْسًا، (قَالَ) : فَعَلِمْتُ أَنَّ هَذَا كَانَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ; لِأَنَّهُ حَقَائِقُ لَمْ يَعْلَمْهَا مِنِ اخْتِبَارِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَا بِتَلَقِّيهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُخْتَبِرِينَ. وَقَدْ أَسْلَمَ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى».


(3) الشيخ رشيد رضا يقدم درسا رائعا في أصول التعامل مع القرآن

قال الشيخ : «وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ فَأَكْثَرَهُمُ الْيَوْمَ يَسْمَعُونَ الْقَارِئَ يَتْلُو الْقُرْآنَ فَلَا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، وَلَا يَشْعُرُونَ بِأَنَّهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى سَمَاعِهِ، وَأَكْثَرُ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ لَهُ وَيُنْصِتُونَ يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ التَّلَذُّذِ بِتَجْوِيدِهِ، وَتَوْقِيعِ التِّلَاوَةِ عَلَى قَوَاعِدِ النَّغَمَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْصِدُ بِسَمَاعِهِ التَّبَرُّكَ فَقَطْ. 


وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْضِرُ الْحُفَّاظَ لِتِلَاوَتِهِ عِنْدَهُ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ أَكَابِرِ الْوُجَهَاءِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ التِّلَاوَةُ فِي حُجْرَةِ الْبَوَّابِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْخَدَمِ. 


وَإِذَا سَمِعْتَ بَعْضَ السَّامِعِينَ لِلتِّلَاوَةِ يَقُولُ: اللهُ اللهُ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ كَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ أَوْ مُرَكَّبَةٍ أَوْ صَوْتٍ لَا مَعْنَى لَهُ فَإِنَّمَا يَنْطِقُ بِهِ إِعْجَابًا بِنَغْمَةِ التَّالِي، حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَنْطِقُونِ عِنْدَ سَمَاعِهِ بِبَعْضِ الْأَصْوَاتِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْغِنَاءِ. 


دُعِيتُ مَرَّةً إِلَى حَفْلَةِ عُرْسٍ فَإِذَا أَنَا بِقَارِئٍ يَتْلُو بِالنَّغَمِ وَالتَّطْرِيبِ، وَبَعْضُ الْحَاضِرِينَ يَهْتَزُّ وَيَنْطِقُ بِتِلْكَ الْحُرُوفِ الْمُعْتَادَةِ فِي مَجَالِسِ الْغِنَاءِ، وَيَسْتَعِيدُونَ بَعْضَ الْجُمَلِ أَوِ الْآيَاتِ كَمَا يَسْتَعِيدُونَ الْمَغْنَى عَلَى سَوَاءٍ. 


وَكَانَ الْقَارِئُ يَتْلُو تِلْكَ الْوَصَايَا الصَّادِعَةَ مِنْ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، وَمَا يَتْلُوهَا مِنْ وَصْفِ الْقُرْآنِ وَهِدَايَتِهِ وَمَوَاعِظِهِ، وَتَوْبِيخِ الْمُعْرِضِينَ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾.


فَلَمَّا سَمِعْتُ مُكَاءَ أُولَئِكَ السُّفَهَاءِ وَأَصْوَاتَهُمُ الْمُنْكَرَةَ عِنْدَ سَمَاعِ هَذِهِ الْحِكَمِ الرَّوَائِعِ وَالْمَوَاعِظِ الصَّوَادِعِ، لَمْ أَمْلِكْ نَفْسِي أَنْ صِحْتُ فِيهِمْ صَيْحَةً مُزْعِجَةً، وَوَقَفْتُ عَلَى الْكُرْسِيِّ الَّذِي كُنْتُ جَالِسًا عَلَيْهِ وَوَبَّخْتُهُمْ تَوْبِيخًا شَدِيدًا، مُبَيِّنًا لَهُمْ مَا يَجِبُ مِنَ الْأَدَبِ وَالْخُشُوعِ وَالْخَشْيَةِ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَلَا سِيَّمَا أَمْثَالَ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَتَلَوْتُ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فَسَكَنُوا وَسَكَتُوا، إِلَّا وَاحِدًا مِنْهُمْ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، وَلَكِنَّهُ صَارَ يَتَظَاهَرُ بِأَنَّهُ يَهْتَزُّ مُتَخَشِّعًا، وَيُهَمْهِمُ مُعْتَبِرًا مُتَدَبِّرًا.


وَلِيَعْلَمِ الْقَارِئُ أَنَّ لِفَهْمِ الْكَلَامِ نَفْسِهِ دَرَجَاتٍ: 

فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَفْهَمُ مِنَ الْكَلَامِ إِلَّا مَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ إِجْمَالٍ وَإِبْهَامٍ بِحَسَبِ مَا تُفَسَّرُ بِهِ الْمُفْرَدَاتُ فِي مَعَاجِمِ اللُّغَةِ، أَوْ مَعَ الْمُرَكَّبَاتِ بِحَسَبِ قَوَاعِدِ النَّحْوِ وَالْبَيَانِ، كَكَوْنِ لَفْظَيِ الصُّمِّ وَالْبُكْمِ هُنَا مِنْ مَجَازِ الِاسْتِعَارَةِ مَثَلًا، وَهَذَا الْفَهْمُ قَاصِرٌ لَا يَتَّسِعُ عَقْلُ صَاحِبِهِ لِلتَّدَبُّرِ وَالتَّذَكُّرِ الْمَطْلُوبِ. 


وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ فَهْمُهُ تَفْصِيلِيًّا يَنْتَقِلُ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ إِلَى الْجُزْئِيَّاتِ، وَيَعْدُو الْمَفْهُومَاتِ الذِّهْنِيَّةَ إِلَى الْمَاصَدَقَاتِ، وَلَكِنَّهُ يَجْعَلُهَا بِمَعْزِلٍ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَتَصَوَّرُ أَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ لِغَيْرِهِ وَفِي غَيْرِهِ، بِأَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْكَافِرِينَ أَوِ الْمُنَافِقِينَ، لَا فِي أَمْثَالِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِمَا تَنْهَى عَنْهُ وَتَتَوَعَّدُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَصَاحِبُهَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ مَا أَنَّهُ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ.


وَإِنَّمَا الدَّرَجَةُ الْعُلْيَا لِلسَّمَاعِ أَنْ تَسْمَعَ فَتَفْقَهَ، وَتَعْقِلَ وَتَتَدَبَّرَ فَتَعْتَبِرَ وَتَعْمَلَ، حَتَّى لَا تَقُولَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾».


والله إنه لكلام من ذهب يحتاجه كل منصف متدبر لكتاب الله ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، جعلنا الله من أولي الألباب.