- الأسر البديلة: علماء النفس يعتبرونها الحل الأمثل

- علماء الاجتماع يرونها حلاًّ مبكرًا لمشكلة أطفال الشوارع

- الأسر غير المؤهلة مشكلة أكبر من اللقطاء

 

تحقيق: مروة مصطفى

مشكلة اللقطاء لا تُعدُّ مشكلةً جديدةً من نوعها؛ بل هي موجودةٌ منذ القدم، ولكن ما فجَّر المشكلة مؤخرًا هو تزايد عدد هؤلاء اللقطاء في مصر، حتى وصلوا إلى 14 ألفًا و287 لقيطًا يمثلون قنابلَ موقوتةً تهدِّد المجتمعَ بالانفجار في لحظةٍ ما، وكان قرارٌ وزاريٌّ قد صدَر برقم 181 لعام 1989م، وينظم العمل بنظام الأسر البديلة في مصر بعد أن تعددت الشكاوى؛ بسبب لجوء بعض الأسر- ممن لم يُرزقوا بأطفال- إلى سرقةِ أطفال حديثي الولادة من المستشفيات، وما يترتب على ذلك من مشكلات عديدة.

 

ولكن هل تحل الأسر البديلة مشكلة اللقطاء؟! سؤال نطرحه ليجيب عنه بعض المواطنين والمتخصصين:

 

تقول رانيا محمد (مهندسة كمبيوتر): أنا متزوجة منذ فترة طويلة، ولم يرزقْني الله بأطفال، ففاتحت زوجي برغبتي في كفالة طفلةٍ يتيمة من الدار، وبعدما اقتنع ذهبنا واخترنا (علياء) التي ملأت حياتَنا سعادةً وفرحةً وشغَلَت فراغًا كبيرًا في حياتنا، ومنذ أن دخلت بيتنا وقد بارك الله لنا في رزقنا، ونحن الآن نفكِّر لعلياء في تأمين مستقبلها، وتعويضها عما حُرِمت منه، ونتمنى أن تمرَّ الأيام لنراها (عروسةً) أمامنا، هنا فقط سنشعر أننا أكملنا رسالتنا معها.

 

(نوَّارة البيت)

أما سهير زكي (ربة منزل) فتقول: مرَّ على زواجي أكثر من 17 عامًا، وكنا نفتقد طفلاً يملأ علينا حياتنا، وأهل زوجي كانوا رافضين تمامًا فكرةَ كفالة طفل أو طفلة يتيمة من الدار، على الرغم من موافقة زوجي على ذلك، وبعد إلحاحٍ شديدٍ منا عليهم استطعنا إقناعَهم بصعوبةٍ، واخترنا (مها)، ومهما وصفتُ لكم فرحتَنا بها لن تتخيلوها، وخصوصًا فرحة جدتها وأعمامها التي لا تقل عن فرحتنا بها.

 

ولكن الآن ما يشغلني هو أن الأيام تمر بسرعة و(مها) تكبر، وسيأتي اليوم الذي ستسألني فيه من أنا؟! ولماذا الاختلاف في اسمها عن اسم زوجي؟! أسئلة كثيرة لا أعرف لها إجابة، ولا أعرف متى يكون الوقت الأمثل للإجابة عليها؟!

 

الطرد من المنزل

أما سيدة أحمد فتحكي قصةَ جارتها التي كفلت طفلاً يتيمًا اسمه أحمد، وأول ما تقوله: إن جارتي وزوجها رفضوا تعليمَه، وأرسلوه ليتعلمَ حرفةً تنفعه عندما يكبر، كما أنهم يعاقبونه بمنتهى القسوة؛ لذلك أصبح الولد شخصيةً غيرَ سويةٍ، وفي يوم من الأيام سرق منهم مبلغًا قدره 300 جنيه، وطلب مني أن أحمله له أمانةً، وأخبرني أنها راتبه الخاص، ولما علمنا بأمر السرقة طلبت منه أن يأخذ ما تركه عندي، وأبلغت أهله بما حدث، ولكنَّ ردَّ فعلهم هو ما جعلني أندهش.. لقد طردوه من المنزل عقابًا له، وظلَّ حوالي شهرين ينام في الشوارع وعاد لهم مرةً أخرى!!

 

أنا من البداية أرى أن مثل هذه الأسر والنماذج لا يُعتبر حلاًّ لمشكلةِ هؤلاء؛ بل في نظري هي مشكلة أسرة كهذه، تفتقد أسس التربية الصحيحة، ولا تدري ما أساليب العقاب المناسبة.. أعتقد أنها ستُخرِج نموذجًا سيئًا عبئًا على المجتمع، وليس فردًا سويًَّا كما نأمل.

 

حرمان وعطاء

تحكي لنا دولت محمد (أخصائية اجتماعية) قضتها مع الأسر البديلة، وتقول: أنا أعمل معهم منذ فترة طويلة، وأثناء عملي مع هذه الأسر رأيت أن معظم المشكلات التي قد تتعرَّض لها هذه الأسر هي مشكلاتٌ عاديةٌ يمكن التغلب عليها بحسن التصرف؛ لأن معظمهم أسر محرومة من الأطفال؛ لذلك فهم يقدِّرون قيمةَ الطفل، وهناك العديد من النماذج التي رأيتها بعيني، أتذكَّر منها الأسرة التي اشترت لطفلها شقة تمليك.

 

ولما كبرت زوجَتها من أحد أقاربهم، وأسرة أخرى ظلت أكثر من عشر سنوات محرومة من الأطفال، وبعد ما كفلوا طفلاً رزقهم الله بآخر تعويضًا عن حرمانهم سنوات طويلة، وغيرها كثير من النماذج المشابهة والمشرفة.

 

الكفالة داخل الدار

وعن تجربة الجمعية الشرعية ورفضها التعامل مع نظام الأسر البديلة تقول منى سعيد (مديرة دار القدس لرعاية الأيتام): لائحةُ الدار تنص على عدم إعطاء الأيتام لأسر بديلة؛ استشعارًا منَّا أنه نظامٌ غيرُ صحيح، فقد تطرأ على الأسرة ظروفٌ مفاجئةٌ تزلزل ترابطَها وتنتهي بتسليم اليتيم مرةً أخرى للدار فيؤثر ذلك تأثيرًا سلبيًّا على نفسيته، ولدينا نظامٌ آخر معمولٌ به، وهو كفالةُ اليتيم داخل الدار، وما هو إلا نوع من المشاركة في المناسبات والأعياد، وبالطبع نحن كأيِّ دار للأيتام نواجِه مشاكلَ نفسيةً يعاني منها الأولاد، مثل الاكتئاب والعصبية وضعف التحصيل الدراسي.

 

لذلك فإننا نستعين بأخصائيات نفسيات للتعامل مع الأولاد بأسلوب علمي وسليم، وها نجني ثمار ما بدأناه، فتخرَّج لنا أولادٌ في الجامعة وقُمنا بتزويج بنات من الدار.

 

لهم الجنة

وعن حكم الدين في فكرة الأسرة البديلة تقول أ. عبلة الكحلاوي (عميد الدراسات الإسلامية جامعة الأزهر): أمرنا الله ورسوله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- بالإحسان إلى اليتيم، فقال- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى، والأسرة التي تهتم بكفالةِ اليتيم لها أجرها وثوابها عند الله، ولكنْ دعونا نفرِّق بين الكفالة والتبني؛ فقد حرَّم الله التبني؛ منعًا لاختلاط الأنساب، فقال تعالى: ﴿ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ﴾ (الأحزاب: من الآية 5)، أما الكفالة ففيها يحتفظ اليتيم باسمه كاملاً، وهناك اتجاهٌ حديثٌ يمكِّن اليتيمَ من حمل لقب العائلة وليس اسم الكافل كاملاً.

 

وأضافت الكحلاوي قائلة: هناك نقطةٌ مهمة لا يمكن إغفالها، وهي ضرورة مصارحة الطفل بأنه ليس ابنًا حقيقيًّا للأسرة بطريقة لا تجرح مشاعرَه، ويطبق ذلك عند زواجه أو زواجها، فيجب أن يصارح الخاطب بالحقيقة؛ ولأن الغرض من كفالة اليتيم غرضٌ سامٍ لذلك لا يجب أن نوقِعَ أنفسنا في مخالفاتٍ شرعية لوجود شخص أجنبي على الأسرة، والآن توجد أجهزة حديثة يمكن للأم أن تستخدمَها وترضعَ الطفل خمس رضعات مشبعات؛ ليصبح ابنها بالرضاعة، وذلك مراعاةً لحقوق الله.

 

لقطاء في صدر الإسلام

يقول الدكتور محمود محمد عمارة في كتابه (تربية الأولاد في الإسلام): كان الدين الإسلامي سبَّاقًا في احتواء اللقطاء، ومن ذلك أن عمر- رضي الله عنه- كان إذا أتى لقيطًا فرض له مائة درهم، وفرض له رزقًا يأخذه وليُّه كل شهر، وكان المسلم مجهولُ النسبِ لا يجد غضاضةً في أن يعلنَ ذلك، ومن التراث الإسلامي جئنا بقصة أبي بكرة نفيع بن الحارث كما يسميه رجال الحديث، أعلن جهالةَ نسبه وكما روى الطبري: (أنا من لا يُعرف أبواه، فأنا أخوكم في الدين ومولاكم).

 

حلٌّ أمثل

ومِن صدر الإسلام إلى القرن الحالي سألنا الدكتورة إحسان محمود (أستاذ الأمراض النفسية بجامعة بنها) عن هذه القضية فقالت: من وجهة نظري أعتبر الأسرَ البديلةَ هي الحلَّ الأمثلَ لاحتواءِ الأيتامِ؛ لأننا إذا قارنَّاها ببدائِلها من مؤسساتِ الرعايةِ الجماعيةِ ودور الأيتام سنجد أن في هذه الدور يتمُّ تقسيمُ الأيتام إلى مجموعاتٍ تصل كل مجموعة إلى 5 أطفال، تتولى أمرَهم مشرفةٌ، ولا يوفر هذا النظام اهتمامًا كبيرًا؛ حيث تكون المشرفة مشتَّتةً بين هؤلاء الأطفال، لا تعطيهم الرعاية الكافية، وكان هذا الموضوع أحدَ أبحاثي، والذي توصلت فيه إلى وجود تشابه كبير بين المشكلات النفسية التي تصيب الأيتام، سواءٌ داخل الدور أو داخل الأسر، والتي يمكن علاجها منذ بدايتها وبحسن التصرف.

 

وأضافت الدكتورة إحسان قائلةً: على الجانب الآخر من البحث توصلت إلى أن الحالةَ الصحيةَ للأيتام داخل المنزل ومع الأسرة البديلة أفضلُ من صحة أقرانهم في دور الرعاية؛ ولكي يصبحَ اليتيم شخصيةً متوازنةً يجب أن نصارحَه منذ سنّ الإدراك أنه ليس ابنًا حقيقيًّا للأسرة ولكن بشكل لا يؤثِّر على نفسيته، وكذلك فإن الأمانةَ تحتِّم علينا مصارحةَ الخاطب للحقيقة، ولكن في حالة رفضه يجب أن يتكتَّم الأمر حفاظًا على مشاعر هذا اليتيم.

 

لذلك فإني أعتقد أن الأسرَ البديلةَ هي الحلُّ الأقربُ للطبيعي، كما أنه حلٌّ سهلٌ يوفر منفعةً متبادلةً لأسر كثيرة حُرِمت من أطفال، فهو حلٌّ للأسرة من جانب ورحمة باليتيم من جانب آخر.

 

قادرات على العطاء

وأخيرًا تقول الدكتورة سامية خضر (أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس): نحن كأساتذة اجتماع نَعتبر تجربة الأسرة البديلة تجربةً ناجحةً؛ لأنها إذا انتشرت في المجتمع ستكون قادرةً على حل مشاكل أطفال الشوارع وما يرتكبونه من سرقات ومحاولات اغتصاب فتيات، فوجودهم داخل أسرة من البداية قادر على تقويم سلوكياتهم، وتنمية مهاراتهم، واحتواء السلوك العدواني الكامن بداخلهم، واستغلاله فيما يفيد؛ بحيث يخرج للمجتمع شابًّا واعيًا قادرًا على مواجهة المشاكل ومتفهِّمًا لأمور الحياة.

 

وأخيرًا تضيف خضر قائلةً: قد أنتهز فرصة إثارة هذا الموضوع لأنتقد إصرارَ المؤسسات الحكومية التي تشترط وجودَ أسرة مترابطة لكي توافق لها على كفالة طفل يتيم، إنهم بذلك أغفلوا قطاعًا عريضًا من سيدات مطلقات وأرامل قادرات على العطاء وعلى استعداد كبير لرعاية مثل هؤلاء الأطفال.

 

لقد أثبتت الدراسات الحديثة أن الهرم السكاني بدأ يميل، ومع انتشار العشوائيات والعشش والفقر أصبح المناخ مناسبًا لوجود أطفال الشوارع، وإن لم يحتوِ المجتمع هؤلاء الفئات من البداية سيمثلون قنابلَ موقوتةً، لن تنفجر إلا في وجه المجتمع الذي أهملهم وحرمهم من حقهم.