عندما نتحدَّث عن الأقباط ورؤية الإمام البنا لهم يجب أن نفهم أن الرجل كان مؤسِّسًا لفكرة، وحسب المؤسس اكتشاف الأصول والذود عنها وإماطة اللثام عما غاب منها، فقد كان التيار الإسلامي في ذلك الوقت كما يقول المستشار طارق البشري يرى نفسه في مرحلة تاريخية تستوجب منه ترسيخ المبادئ العامة وليس في مرحلة معالجة الفروع، بالإضافة إلى ذلك يقول الدكتور عبد الحميد الغزالي- أحد القيادات البارزة في جماعة الإخوان-: "كان الإمام البنا يؤثر الناحيةَ العمليةَ والتدرجَ في الخطوات، والبعدَ عن مواطن الخلافات والقيامَ بتعميقِ معاني الشمولية" وعندما ترسخ الجذور والمقاصد العامة الناظمة للحركة يمكن تناول الواقع القائم وإشكالياته بمرونة أكبر وهذا أسلوبٌ تعرفه.

 

 المستشار طارق البشري

 

 البشري مرة ثانية.. يقول: "المعارضة الثورية في تصديها للواقع المرفوض، وهي رفضها لأصول الواقع المعيشي وسعيها لترسيخ القوائم الأساسية لدعوتها، حيث تتجنَّب أن تستدرج إلى الاهتمام بتفاصيلِ المشاكل وجزئياتها، وذلك حرصًا على الحشد المنظم والتبعية العامة وراء شعارات مركزة وواضحة، وتفادى أن يؤدي الاستطراد في التفاصيل إلى إثارة الخلافات.
وبالتالي ما قدَّمه البنَّا عن الأقباطِ أو قضايا أخرى كثيرة كان محكومًا بهذا المنطق ولا ينفك عنه، حيث بثَّ فكرته عن الأقليات في صورة متفرقات.. مؤتمر.. موعظة.. رسالة.. مقالة.. في قرية.. أو مظاهرة وبأسلوبه الخاص الذي يخاطب به الجميع، وبالفهم الذي ساد في عصره، ووفق ما هو متعارفٌ عليه بين مجتهدي زمانه.

 

لا طائفية في الإخوان

وفي رسالته إلى الشباب يقطع الإمام أي توجه طائفي لجماعته قائلاً: إن الإسلام عُني أدق العناية باحترام الرابطة الإنسانية العامة بين بني الإنسان كما أنه جاء لخير الناس جميعًا ورحمة من الله للعالمين، وحرَّم الاعتداء حتى في حالات الغضب والخصومة، وأوصى بالبر والإحسان بين المواطنين وإن اختلفت عقائدُهم وأديانهم، وإنصاف الذميين وحسن معاملتهم، فلهم ما لنا وعليهم ما علينا.. نعلم كل هذا فلا ندعو إلى تفرقة عنصرية ولا إلى عصبية طائفية.

 

ويرى في رسالة "دعوتنا في طور جديد"، وأما دعوتنا عالمية فلأنها موجهةٌ إلى الناس كافة؛ لأن الناس في حكمها أخوةٌ أصلهم واحدٌ وأبوهم واحدٌ ونسبهم واحدٌ، لا يتفاضلون إلا بالتقوى، وبما يقدِّم أحدهم للمجموع من خير سابغ وفضل شامله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ (النساء: من الآية 1) ، فنحن لا نؤمن بالعنصرية الجنسية ولا تشجيع عصبية الأجناس والألوان، ولكننا ندعو إلى الأخوة العادلة بين بني الإنسان".

 

والمقتبسات السابقة توضح أن حسن البنا لم يقدِّم طرحًا طائفيًّا ولا عنصريًّا؛ بل إنه لم يجد حرجًا أن يدعوَ جمهورَ المؤمنين بالله إلى الوقوف صفًّا واحدًا؛ لأن "القواعدَ الأساسيةَ للرسالاتِ جميعًا قد أصبحت مهددةً الآن من الإلحادية والإباحية، وعلى الرجال المؤمنين بهذه الأديان أن يتكاتفوا ويوجهوا جهودَهم لإنقاذِ الإنسانِ من هذين الخطرين".

 

وقد أرسل الإمامُ البنا خطابًا إلى محمد محمود باشا- رئيس وزراء مصر عام 1938م يطلب منه تطبيق الشريعة الإسلامية ومنع الحفلات الخليعة وأداء الفرائض ثم قال: قد يقال إن في الأمة عنصرًا ليس مسلمًا ولا يرضى حكم الإسلام، وجواب ذلك مدفوعٌ بالواقع؛ فقد عاشر هذا العنصر الإسلام قرونًا عدة، فلم يَرَ إلا العدلَ الكاملَ والإنصافَ الشاملَ، ولا تزال كلمة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب لأميره على مصر مدويةً في الآذان على كل لسان: "يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا" ثم كرَّر الطلب في خطاب بعث به إلى وزير الحقانية أحمد خشبة مفندًا أيَّ انتقاص من حقوق أهل الكتاب تحت زعم أن في مصر عناصرَ غيرَ إسلاميةٍ إن حُكِمت بأحكام الإسلام كان ذلك متنافيًا مع حرية الدين التي كفلها الدستور للمواطنين، وإن حُكِمت بغيرِ أحكام الإسلام كان ذلك نوعًا من الامتياز البغيض الذي حمدنا الله على التخلص منه.

 

هذه الشبهة مردودةٌ بجزئياتها لأن غير المسلمين إن عوملوا بتعاليم الإسلام لم يكن في ذلك اصطدامٌ بحرية الدين، لأن الحرية المكفولة هي حرية العقيدة وحرية العبادة والشعائر والأحوال الشخصية، أما الشئون الاجتماعية فهي حق الأمة ومظهر سيادتها، فهم فيها تبع للأكثرية فإذا ارتضت أكثرية الأمة قانونًا في هذه الشئون الاجتماعية يصرف النظر عن مصدره، فهو قانونٌ للجميع، وإن عوملوا بحسب شرائعهم مع الاحتفاظ بحقوق الدولة كاملة معهم فليس في ذلك امتيازٌ يخيف، والامام البنا هنا نراه يؤكد تمام تسليمه بالموقف الفقهي من الضمانة التعددية القضائية التي كفلتها أحكام الشريعة المبنية على احترام التمايز العقدي لطوائف الأمة وردهم لما يدينون عند الاختلاف بحسب ما تملي به عقائدُهم، ثم إلحاقهم بالمظلة القانونية والدستورية للأمة بكل ما يمثله هذا الإلحاق من مساواة ومشاركة وانتقال من سيادة الذمة الطائفية (إلى سيادة الدستور والمواطنة) الأغلبية والأقلية، وقد أشار إلى نفس النظر بعضُ المعاصرين مثل الدكتور أحمد كمال أبو المجد الذي يرى أن مبدأ المساواة في الحقوقِ المدنيةِ والسياسية المادي منها والمعنوي لا ينفي المبدأ المعمول به في الدنيا كلها من أن يكون حق الإدارةِ للأغلبيةِ وتظل حقوق الأقلية مصونةً ومحفوظةً ويفصل.

 

البنا والمواطنة

ومن بين الاتهامات الشائعة التي توجه للإمام الراحل أنه قد غاب عنه تأسيسُ موقف حازم من فكرة المواطنة، وأن مقولاته- والتي تتحدث عن أخوة العقيدة- هي تكريسٌ لوضعٍ طائفي يحرم غير المسلمين من الالتحام بإطار المواطنة الجامع، لأن ثمةَ تصنيفًا يترتب على ذلك يحول بين غير المسلم والوجود الفاعل داخل الوعاء القومي، وزاد بعضهم متهمًا البنا بأنه قدَّم أدبًا اقصائيًّا طائفيًّا يحرم الأقباط من إدارة شئون بلادهم مشاركةً لإخوانهم المسلمين وحرمانهم من التمتع بكل المزايا السياسية والاقتصادية التي كفلها الدستور لأي مواطن وإن الإخوان قد يهتفون لمسلم في باكستان ولا يعبأْون بجيرانهم من الأقباط.

 

وبداية ومن بديهيات التاريخ المعاصر يجب أن نسلم أن فكرة الجامعة الإسلامية أو أخوة العقيدة ليست فكرة البنا وحده، ولم يكن أول من أذاعها، حيث شاركه في ذلك الكثير أمثال جمال الدين الأفغاني ومصطفى كامل وخير الدين التونسي والكاتب المسيحي سليم البستان الذي كان من دعاة الدولة العثمانية، ويرى أنه لا مانعَ في ظل الوطنية أن يكون دين الدولة الإسلام ورصد هذه الحركة اللورد كرومر، حيث أشار في أحد تقاريره إلى وجود حركة وطنية في مصر ممتزجة بالحركة الإسلامية، ربما اقترب منها الوفدي الشهير حنا ويصا بتعبيره بقوله لا يوجد في دائرة الإسلام الواسعة ما يمنع التطور الوطني والجنس في دوائر أصغر والتحم بالفكرة أكثر الرمز القبطي الكبير مكرم عبيد: نحن مسلمون وطنًا ونصارى دينًا ويشرح الفكرة باستفاضة المفكر القبطي المعروف الدكتور يوسف خليل قائلاً: لا نستطيع من الوجهة الواقعية أن نتجاهلَ أثرَ الدين الإسلامي كقوةٍ محركةٍ لجمهرةِ الشعوب العربية حتى يومنا هذا، فالإسلام ليس مجرد دين وعقيدة، إنما قانون جامع لشئون الدين والدنيا معًا.. والقوة الموحدة في الإسلام لا تأتي من الانتماء إلى إيمان مشترك، بل ربما كان الأثر الأكبر فيها يرجع إلى التركيب الاجتماعي المشترك وإلى الأسلوب الواحد في الحياة اللذين يهيئهما الإسلام، بل ويرى القرآن الكريم كحافظٍ للغةِ العربيةِ؛ لأنه كما يقول: لا يخص الإسلام والمسلمين وحدهم، بل هو تراث المسيحيين العرب أيضًا، ومن ثم رأي المفكر المسيحي قسطنطين رزيق في كتاب الوعي القومي الصادر عام 1938م يجب على كل عربي إذن بصرف النظر عن معتقده الديني أن يدرس الإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وسلم من جهة أنه موحد العرب وجامع شملهم، حيث إن القومية الحقيقية لا يمكن بحال من الأحوال أن تتناقض مع الدين الصحيح.

 

والجامعة الإسلامية أو أخوة العقيدة في رأي البنا لا تنفك كثيرًا عن ما سبق من فهم لطبيعة الإسلام، حيث يراها إحدى دوائر النهضة الحضارية الاسلامية التي تضم دوائر الاستقلال الوطني وتحرير الأمة وبناء المجتمع الإسلامي الناهض، وقوامة الشريعة ثم القومية العربية بحسبانهما ضمير الإسلام ثم الجامعة الإسلامية وأستاذية العالم، ويعرف الإمام البنا الجامعةَ الإسلاميةَ بأنها رابطةُ إخاء للأمة الإسلامية التي هي أمةٌ متعددة الأعراق واللغات والأديان، وأن غير المسلمين جزءٌ من الأمة الجامعة لكل من يقر لها بالولاية السياسية مهما كانت عقيدته، لذلك لا حجة لمن يقول كما يرى: إن الأمة الواحدة من أمم الإسلام تضم عناصرَ مختلفةً تدين بغير دين الإسلام وبالتالي لا يوجد بين أفرادها إلا الجنسية القومية، والجواب على ذلك أن سماحة الإسلام وصلته تتسع لأبناء قومنا وإن كانوا على غير ديننا.. بل وإن تعاليم الإسلام تقضي على أبنائه أن يكونوا مع أهل التعاقد سواسية...، بل وقدم الإسلام باعتباره من معاني قوميتهم مشيرًا إلى أن الأقلية غير المسلمة من أبناء هذا الوطن تعلم تمام العلم كيف تجد الطمأنينة والأمن والعدالة والمساواة التامة في كل تعاليم ديننا ويعتبرون الإسلام معنى من معاني قوميتهم وإن لم تكن أحكامه وتعاليمه من عقيدتهم، فالإمام في شروحاته لا مانع لديه من استيعاب صيغة المواطنة بكل معانيها، ولكن دون أن تكون مانعًا من الانضواء تحت مظلة الأمة الجامعة أو العروبة، حيث يجب ألا يحول دون ذلك سببٌ عرقيٌّ أو جغرافيٌّ أو دينيٌّ، ويرى أن الوطنية والعروبة والإسلام دوائرُ تتلاقى ولا تتناقض إلا إذا كانوا يريدون بالوطنية تقسيم الأمة إلى طوائف تتناحر وتتباغض، أو أراد أقوامٌ أن يتخذوا من المناداةِ بالقوميةِ الخاصة سلاحًا لهدم الشعور بما عداها، فالإخوان المسلمون ليسوا معهم.

 

أو أرادوا بالقومية إحياء عادات جاهلية درست وإقامة ذكريات بائدة خلت، ومن أجل ذلك يؤكد أن الإخوان لا يقولون (فرعونية) (وفينيقية) وما فيها من اعتزاز بالجنس، وفي كل الأحوال هم يتلاقون مع جوهر الوطنية الرحبة والانتماء السامي؛ لأن حبَّ هذه الأرض وألفتها أمرٌ مركوزٌ في فِطَر النفوس من جهة مأمورية في الإسلام من جهة أخرى وتقوية الرابطة بين أفراد القطر الواحد.

 

وليظل للمصريين والمصرية في دعوتنا مكانها ومنزلتها وحقها في الكفاح والنضال؛ لأن الإخوان أشد الناس لوطنهم إخلاصًا، وهم يعملون لمصر، ويفنون في جهادهم؛ لأنها أرض الإسلام وزعيمة أممه، ويتساءل :كيف يقال إن الإيمان بالمصرية لا يتفق مع ما يجب أن يدعوَ إليه رجلٌ ينادي بالإسلام ويهتف بالإسلام.. إننا نعتز بأننا مخلصون لهذا الوطن الحبيب، عاملون له، مجاهدون في سبيل خيره وسنظل كذلك، وبالتالي يتحركون معتقدين أن هذه الوطنية هي الحلقةُ الأولى في سلسلةِ النهضةِ المنشودةِ وأنها جزءٌ من الوطن العربي العام، وكل هذه وحدات متلازمات تشد أزر بعضها البعض؛ لأننا حين نعمل لخير مصر نعمل للعروبة وللشرق والإسلام، وتلك هي المعادلة الحضارية التي تحكم فهم الإخوان.. فلا صدام بين الوحدات الثلاث، فالدين وثبةُ الوطن والعروبة ودوره الرقي بالروابط الطبيعية والاجتماعية والقطرية وإخراجها من حيزها الضيق لتكون جديرةً بالتلاحم بالروابط الأعلى حيث لا تنفصل ملحمة الأرض عن ملحمة السماء التي تظل للجميع ملهمةً، ومن العوامل المساعدة على البناء القومي ومصدر القوة والتماسك لتؤول في النهاية الجامعة الإسلامية إلى الجامعة البشرية ودار الإسلام إلى دار الإنسان، يقول الامام البنا: "عني الإسلام باحترام الرابطة العامة بين بني الإنسان، كما أنه جاء لخير الناس جميعًا ورحمة للعالمين، وقيادة العالم إلى الخير ومناصرة الفضيلة ومقارعة الرزيلة واحترام المثل.

 

خبرة المعايشة

ومن المهم ونحن نسرد قطوفًا من أدبيات الإمام نؤكد أن هذه الأقوال لم تكن معزولةً عن الواقع المعيشي، حيث اختلطت به وتداخلت معه، وكانت مغزولة في الحركة والسلوك والعلاقات لا سيما إذا تفهمنا أن هذه الآراء صادرةٌ من جماعة حركيةٍ تفكر بقدر حركتها وتعطي بقدر ما يتحمل الواقع وبقدر ما يؤمِّن مسيرتَها، وبالتالي من المفيد استفراغ الخبرات الميدانية والسلوكية؛ لأنها ذات مؤشر دالٍ، ويجب ألا يغيبَ في أي وجهةٍ دراسيةٍ، ومن المهم أن نشيرَ إلى المقالةِ التي نشرها أستاذ الاجتماع وعضو مجمع اللغة العربية التي نشرت بجريدة الإخوان المسلمين، لقد أخطأ وظلم من توهَّم أن في دعوة حسن البنا ذرةً من التعصب المقيت يتجلَّى في معاداةِ من ليسوا على دينه وعقيدته، وذلك لأن الرجل كان رقيقَ القلب مهذبَ النفس يفهم دينَه كما يجب أن يُفهَمَ على حقيقته، ويعلم أن من الأسس التي قامت عليها دعائمُ الإسلام ألا إكراهَ في الدين، وأني لأعلمُ علمَ اليقين أن الفقيدَ الراحلَ كان أخًا كريمًا وصديقًا صادقًا للكثير من أهل الرأي والفكر ممن هم على غير دينه.

 

وكان في حلقة الجدل والمباحثة يتخلى عن رأي بذله إلى رأي صائب جاء يغايره في الرأي أو في العقيدة، ومثل هذه الصفات التي كان يتحلى بها الفقيد تتنافى مع ما يلصقه البعض بالدعوة من تهم قامت على التوهم.

 

الإمام الشهيد

 وفي ذكرى الإمام الشهيد نشر الرمز القبطي مكرم عبيد مقالةً بجريدة الإخوان – 13 فبراير1952 تعتبر من الوثائق والشهادات الهامة في حق دعوة الإخوان ومؤسسها يقول فيها:
"تفضلت مجلة الدعوة الغراء فطلبت إليَّ أن أكتب كلمةً في ذكرى الراحل الكريم الذي شاءت له رحمةُ الله أن يغادرَ هذه الدنيا إلى جوار ربه الرحمنِ الرحيمِ كما شاءت لنا نحن رحمةُ الله أن يظلَّ الراحلُ الذي فقدناه ماثلاً بيننا بذكراه وبدعواه..

 

وهل هذا الراحل الماثل إلا فضيلة المرشد المغفور له الشيخ حسن البنا؟

أي نعم.. فإذا كنتم أيها الإخوان المسلمون قد فقدتم أخاكم الأكبر الخالدَ الذكر، فحسبكم أن تذكروا أن هذا الرجل الذي أسلم وجهه لله حنيفًا قد أسلم روحه للوطن عفيفًا.

 

حسبكم أن تذكروه حيًّا في مجده، كلما ذكرتموه ميتًا في لحده، وإذا كان الموت والحياة يتنازعان السيطرة في مملكة الإنسان ويتبادلان النصر والهزيمة فيتساويان، فالغلبة للحياة مع الذكرى، وللموت مع النسيان.. لهذا فالميت حي لديك إذا ذكرته والحي ميت إذا نسيته.

 

وما من شك أن فضيلة الشيخ حسن البنا هو حيٌّ لدينا جميعًا في ذكراه.. بل كيف لا يحيى ويخلد في حياته رجلٌ استوحى الدين في هدي ربه وفي الدنيا وحي قلبه.

 

اذكروه أنتم أيها الإخوان ثم اذكروه، ففي ذكراه حياةٌ لكم، ومن ذا الذي يقول بهذا هو مكرم عبيد صديقه المسيحي الذي عرف في أخيه المسلم الكريم الصدقَ والصداقةَ معًا.. ولئن ذكرت فكيف لا أذكر كم تزاورنا وتآزرنا إبان حياته، ولئن شهدت فكيف لا أشهد بفضله بعد مماته، وما هي وايم الحق إلا شهادة صدق أُشهِد عليها ربي، إذ ينطق بها لساني من وحي قلبي، بل هي شهادة رجل يجمع بينه وبين الفقيد العزيز الإيمان بوحدة ربه، وبوحدة شعبه، والتوحيد في جميع الأديان المنزلة لا يكفي فيه أن توحد الله، بل يجب أن نتوحد في الله كما أن وحدة الوطن لا يكفي فيها وحدة أرجائه، بل يجب أن تتوافر لها قبل كل شيء وحدة أبنائه.

 

ولقد كان الإخوان المسلمون والكتلة الوفدية هما الهيئتين الوحيدتين اللتين تتبادلان الزيارة في دار الإخوان ونادي الكتلة، بل كان لي الحظ أن يزورني رحمه الله في منزلي، وأن نتبادل خلال حديثٍ طويلٍ المشاعرَ الشخصيةَ والوطنيةَ، وكنت أراه في حديثه أبعد ما يكون عن الشكليات والصغائر، مما جعلني أعتقد أنه رجل قلَّ مثيله بيننا في التعمق تفكيرًا وفي التنزه ضميرًا.

 

ولقد زرته- رحمه الله- إثر موته في منزله فكانت زيارةً لن أنسى ما حييت أثرَها الفاجعَ والدامعَ، ولقد هالني أن أجد قوةً من البوليس تحاصر الشارعَ الذي به منزل الفقيد، ولولا أن ضابط البوليس عرفني فسمح لي بالمرور لما تيسر لي أن أؤدِّي واجب العزاء، ولئن نسيت فلن أنسى كيف كان والده الشيخ البار متأثرًا بهذه الزيارة حتى إنه قصَّ علينا- والدمع يفيض من عينيه- كيف منعوا الناس من تشييع جنازة الفقيد، ولم يسمح للمعزين بالعزاء في منزله، وراح الوالد الكريم يشكرني ويدعو لي دعواته المباركات التي ما زلت أتبرك بها، ولو أني قلت له إنه واجب العزاء هو فرض واجب الأداء، فإذا ما قصرت فيه أنا أو أي مصري كان في ذلك تنكر وعدم وفاء.

 

إخواني..

أي نعم.. إخواني.. أيها الإخوان المسلمون.. أنتم إخواني وطنًا وجنسًا، بل إخواني نفسًا وحسًّا، بل أنتم لي إخوان ما أقربكم إخوانًا في الوطنية.. إخواني إيمانًا، ولما كانت الوطنية من الإيمان فنحن إذن إخوان في الله الواحد المنان، وإذا ما ذكرتم اليوم الفضيلة في قبرها فاذكروا أيضًا ما كان بذكراه هو على الدوام إذ يذكر الحرية في سجنها.

 

فلنطالب إذن بتحرير بلادنا وتحرير أولادنا المساجين المساكين فإن في الإفراج عنهم عزاءً وجزاءً في وقت معًا".

 

في الإسماعيلية

أراد بعضهم أن يُحدث فتنةً بين الإخوان والمسيحيين في مطلع الدعوة- والإمام البنا مدرس في الإسماعيلية- فكتب عريضةً بتوقيع"مسيحي"، ذكر فيها أن "المدرس المسلم المتعصِّب حسن البنا يرأس جماعةً متعصبةً اسمها(الإخوان المسلمون)، وأنه يهين ويضطهد التلاميذ المسيحيين، ويفضل التلاميذ المسلمين عليهم، وطالب كاتب العريضة المسئولين بنقل هذا المدرس المتعصب بعيدًا عن الإسماعيلية حتى لا تكون فتنة.

 

 وحُوِّلت هذه العريضة على ناظر المدرسة، فاستاء المسيحيون منها جدًّا، وجاء وفدٌ منهم إلى المدرسة معلنًا استنكاره (على رأس هذا الوفد راعي الكنيسة الأرثوذكسية) وكتب كثيرٌ من أعيان الأقباط- وكذلك الكنيسة "بختمها" وتوقيع راعيها- عرائضَ وخطابات استنكار، وأرفقها الناظر بتقريره الذي ختمه بقوله: أرجو وزارة المعارف ألا ترهقنا بمثل هذه المجهولات، وأن تحقق فيها بمعرفتها، بعد أن ثبت أنها جميعًا أمورٌ كيديةٌ لا يُراد من ورائها خير.

 

في قنا بالصعيد

وحينما نُقل حسن البنا سنة 1941م إلى "قنا" بصعيد مصر؛ نتيجة ضغط الإنجليز على حسين سري باشا- رئيس الوزراء- تسابَق كثير من المنافقين ودعاة الفتنة إلى نشر إشاعة بين الأقباط في قنا، تصور حسن البنا والإخوان المسلمين مبغضين للأقباط.. عاملين على الإضرار بهم.. فكيف قضى الإمام البنا على هذه الفِرية؟!

 

الجواب في السطور الآتية من رسالة بعث بها حسن البنا من قنا إلى والده- رحمه الله- بالقاهرة "جمعية الإخوان بقنا تسير بخطًى موفقةٍ، وكانت عندنا بالأمس حفلةٌ كبيرةٌ دعونا إليها كل الطائفة القبطية وعلى رأسها المطران، وأقبلوا جميعًا لم يتخلف منهم أحد، وكانت صفعةً قويةً لمنافقي المسلمين الذين يتزلفون إلى هؤلاء بالفتنة، ولقد كنت صريحًا جدًّا- في لباقة- وأنا أبسِّط فكرة الإخوان بصورة حازت إعجاب الجميع، والحمد لله، وكل شيء على ما يرام".

 

"خريستو".. وكيل حسن البنا

وحينما رشَّح نفسه في الانتخابات النيابية سنة 1944م في عهد وزارة أحمد ماهر باشا عن دائرة الإسماعيلية كان وكيله في لجنة "الطور"- التابعة لدائرة الإسماعيلية- يونانيًّا مسيحيًّا متمصِّرًا يُدعى "الخواجة باولو خريستو" وكانت هذه اللفتة مثارَ سخريةِ قادة الحزب السعدي الحاكم، وخصوصًا أحمد ماهر باشا، ومحمود فهمي النقراشي باشا.

 

زيارات وشهادات

وكان المسيحيون- على مستوى مصر كلها- يَشعرون بروح الودِّ والسماحة المتبادلة بينهم وبين الإخوان، وخصوصًا في المناسبات الدينية، وحرص الإخوان على أن ينشروا في صحفهم أخبار هذه الزيارات، ومثال ذلك الخبر التالي المنشور في صحيفة (الإخوان) بتاريخ 10/11/1946م.

 

"زار نيافة مطران الشرقية والمحافظات دار الإخوان المسلمين بالزقازيق يوم عيد الأضحى) سنة 1365هـ للتهنئة بالعيد، وأذاع نيافته نشرةً مطولةً بعنوان )هدية العيد) تدور حول معنى الاتحاد رمز الانتصار، وقال في آخرها: أشكر جمعية الإخوان؛ لأنهم إخوان في الشعور.. إخوان في التضامن.. إخوان في العمل".

 

الأديان الثلاثة في منزل

وأطرف هذه الوقائع كلها، وكانت أواخر سنة 1927م ننقلها بالنص من مذكراته".. بعد أربعين يومًا من نزولنا إلى الإسماعيلية، لم نسترِحْ للإقامة في البنسيونات، فعوَّلنا على استئجار منزل خاص، فكانت المصادفة أن نجد دورًا أعلى في منزل استؤجر دوره الأوسط لمجموعةٍ من المواطنين المسيحيين اتخذوا منه ناديًا وكنيسةً، ودوره الأسفل (الأرضي) لمجموعة من اليهود اتخذوه ناديًا وكنيسةً، وكنا نحن بالدور الأعلى نقيم الصلاة، ونتخذ من هذا المسكن مصلًّى.. فكأنما كان هذا المنزل يمثل الأديان الثلاثة، ولست أنسى "أم شالوم" سادنة الكنيسة، وهي تدعونا كل ليلة سبت لنضيء لها النور، ونساعدها في "توليع وابور الجاز"، وكنا نداعبها بقولنا: إلى متى تستخدمون هذه الحِيَل التي لا تنطلي على الله..؟! وإن كان الله قد حرَّم عليكم النور والنار يوم السبت- كما تدَّعون- فهل حرَّم عليكم الانتفاع أو الرؤية؟ فتعتذر وتنتهي المناقشة بسلام".

 

رسالة إلى البطريرك

وكان فضيلة المرشد قد أرسل رسالةً للأنبا (يوأنس) بطريرك الأقباط الأرثوذكس في مصر عبر جريدة الإخوان الأسبوعية في 16 مايو 1936 م جاء فيها:

نحن في مصر لا نملك إلا أن نقدِّم ما تسخو به الأكف من مال لمساعدة هؤلاء.. أبطال فلسطين الذين ألمت بهم الفاقةُ حتى أن لجنة التموين والإغاثة بالقدس تصرف يوميًّا مائة وأربعين قنطارًا من الدقيق لإطعام الجائعين، ومن أجل ذلك توجهنا إلى غبطتكم راجين أن تشملوا هؤلاء المجاهدين الأبطال بعطفكم الأبوي فتأمروا بإمداد أبناء فلسطين ما تبقى من أموال لجنة مساعدة الأحباش إلى اللجنة العربية بالقدس، ونعتقد أن أعضاء اللجنة يسرهم تحقيق هذا الرجاء، فيكونوا بذلك قد قاموا بخدمة الجارتين العزيزتين، في وقت واحد في محنة متشابهة، وإن رأيتم فضلاً عن ذلك أن تتكرَّموا بدعوةِ المحسنين من المصريين بالتبرع لهذا الغرض النبيل فهو العهد بكم والمأمول فيكم ولكم الشكر مضاعفًا