د. مجدي الهلالي

من المسلَّمات أنه إذا وعد الله عز وجل أحدًا من عباده وعدًا فإنه سبحانه لا يخلفه مهما طالت السنون وادلهمَّت الخطوب وتشابكت الأحداث، ولنا في قصة يوسف عليه السلام وإخوته أكبرُ دليل على ذلك، فالله عز وجل قد وعد يوسف بالاجتباء والتمكين من خلال الرؤية التي أراها الله إياه وعبرها له أبوه يعقوب عليه السلام ﴿إِذْ قَالَ يوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ (يوسف: 4) لقد تحقَّقت هذه الرؤيا بعد سنوات طويلة، وبعد أحداث مريرة تعرَّض لها يوسف عليه السلام، ولو تأمَّلها الواحد منا وتخيَّل أنه يعيش في أحداثها لشعر أن الأمور تسير في اتجاه مضاد، وأن على يوسف أن ينسى الرؤيا ويضرب عنها صفحًا، ولكنَّ الإرادةَ الإلهيةَ التي تحرك الأحداثَ وتدبِّر الأمورَ كانت لها حكمةٌ من وراء كل مشيئة تشاؤها ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 216).

 

فإخوة يوسف يتآمرون عليه ويلقونه في الجُبِّ عُرضةً للموت، ولكنَّ الله عزَّ وجلَّ يوجِّه نظرَ رجلٍ من الناس إلى الجُبِّ فيلتقط يوسف، ويبيعه لعزيز مصر، وينتقل يوسف إلى بلد بعيد عن بلده، ويكبر في قصر العزيز، ويحدث من امرأة العزيز ما يحدث، وينتهي الأمر بدخوله السجن.. كان من الممكن أن يقرِّر القصر طرده خارج البلاد، لكن إرادة الله تريد أن يدخل السجن في هذا التوقيت، ويقابل الفتيين ويحسن إليهما فيطمئنا إليه ويقصا عليه ما رأياه من رؤى ويَعْبُرها لهما.

 

وتمضي السنون ويوسف عليه السلام في غياهب السجن، ويُرِي الله مَلكَ مصر رؤيا عجيبة يعجز الحاشية عن تفسيرها، ويذكِّر الله عزَّ وجلَّ ساقي الملك بأمرِ يوسف الذي كان معه في السجن ويحسن تعبير الرؤيا، فيسرع إليه، فيفسر له يوسف عليه السلام الرؤيا لتكون سببًا في خروجه من السجن وتوليه الوزارة، ثم يأتي الله بإخوته إليه بصفته وزير الخزانة، ويعرفهم الله له بعد هذه السنوات الطويلة ولا يجعلهم يعرفونه؛ لحكمةٍ عظيمةٍ منه سبحانه، ولتكون النهاية السعيدة في الوقت الذي حدده العزيز الحكيم، ويوحي الله ليوسف عليه السلام بطريقة يأخذ بها أخاه، وتتوالى الأحداث، ويكشف يوسف أمره أمام إخوته ﴿قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف: 90).

 

ويطلب يوسف من إخوته أن يُحضروا الأهل جميعًا، فيأتوا بالفعل، وإذا به يرى تحقق الرؤيا التي رآها منذ سنوات طويلة ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْويلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾ (يوسف: 100)، وفي خضمِّ هذه الأحداث في اتجاه تحقيق وعده له ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبَّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ (يوسف: 100).

 

إن المتأمل لقصة تمكين يوسف عليه السلام ليجد أمرًا عجبًا.. فبعد أن كان في السجن متهَمًا بأبشع تهمة إذ به يخرج منه مرفوع الرأس، بل ومتوليًا وزارة مصر، وذلك في غضون ساعات؛ ليكون ذلك درسًا عظيمًا لأصحابِ الدعواتِ بأن الفرج والنصر يأتي بهما الله من حيث لا يحتسب أحد، وبهذا المعنى خُتِمَت السورة ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُ