يروي الأستاذ الهضيبي في هذا المقال النادر- الذي ننفرد بنشره- قصةَ حياته من الميلاد حتى وفاة الإمام الشهيد، فماذا يقول..

 

"ولدت من أبوين عاديين في عرب الصوالحة من أعمال مركز شبين.. ولم يكن أبي متميزًا في شيء يُذكر.. كان يصلي ككل رجال جيله، وكان كريمًا كطابع أهل هذا العصر، بارًّا بالضعفاء والمساكين، وإن امتاز بشيء فقد يكون اتساع الأفق، كان لا يعيش في عصره، بل كان يسبق معاصريه بمائة عام على الأقل.

 

كانت العصا في يد كلِّ أب يقوِّم بها معوَّج أولاده، ولا أذكر أن أبي ضربني مرة، ولا قبَّلني مرة، كان وقاره وهيبته وعظمته كافيًا لإقرار مبادئه في نفوسنا.

 

وأذكر له رحمه الله حرصَه الشديد على أن أتعلمَ وأتمَّ تعليمي وأصبحَ ذا شأن، كان يتحدث بين رفاقِه القلائلِ الذين كان يزورهم ويزورونه فإذا هو متحدثٌ بارعٌ ساحرٌ برغم بساطة تعليمه وسذاجة ثقافته.

 

دخلتُ كتاب القرية لأحفظ القرآن، ولحسن طالعي لم يكن (سيدنا) بالرجل القاسي ذي العصا والفلقة، بل كان شيخًا طيبًا صالحًا لم يضرب واحدًا منا مرة واحدة، وساعدنا على حفظ كتاب الله.

 

المحامي الساحر

وذات يوم كان أبي في (المندرة) يتحدث إلى زائريه ويتحدث زائروه إليه، ولفت سمعي صوتُ واحد من الزوار، تتبعته، أعجبتني بل سحرتني طريقته في الحديث فأنستني كل شيء، جذبني رنين صوته إلى (المندرة) التي لم أدخلها مرةً واحدةً في وجود أبي، وجلست أتطلع إلى الساحر، وانتهت السهرة، وخرج الرجل ذو الحديث اللذيذ الشائق وسألتُ أبي: مَن هو؟

- محامٍ

- وكيف أصبح محاميًا؟

- تنتهي من دراستك وتدخل مدرسة الحقوق لتخرج محاميًا.

- ومن هذه اللحظة، وكان عمري عشر سنوات قرَّرت أن أدخل مدرسة الحقوق لأصبحَ لبقًا ساحرًا مثل هذا الزائر، وتتابعت السنون والأحداث، وكبر معي عزمي وتكثفت رغباتي في مدرسة الحقوق، ولم أغيِّر خطتي فدخلتها.

- إلى الأزهر:

  - استعد للسفر

 - إلى أين؟

 - إلى القاهرة لتدخل الأزهر.

 - وهل يؤدِّي الأزهر إلى مدرسة الحقوق؟

 - لا

وانفجرتُ باكيًا، ولكنها إرادة أبي التي لا يقف أمامها شيء.

سافرت وقطعت صلتي بمدرسة الحقوق، ولكنَّ دموعي لم تنقطع، دخلت الأزهر وبدأت في تجويد القرآن، ولم يستطع علماء الأزهر جميعًا أن ينسوني الساحر.

 

وذات يوم جاء أبي إلى القاهرة ودخل عليَّ فوجدني قد كتبت على ورقة "فلان المحامي" ووضعتها على مائدة قريبة، وقرأها أبي، ولم يكد ينتهي منها حتى قال لي: لا تذهب غدًا إلى الأزهر.

 

وفي اليوم التالي كنت في عداد طلبة مدرسة باب الشعرية الابتدائية.

 

الدراسة

كنت في المدرسة الابتدائية الأول باستمرار، وفي المدرسة الثانوية كنت تلميذًا وسطاً، وفي كلية الحقوق كنت متأخرًا، ولا أذكر أني كنت طالبًا ثائرًا.. بل تلميذًا نظاميًّا.. أؤمن- وما زلت- وأفضِّل الأغبياء المنظمين على العباقرة الفوضويين.

 

لم أشترك في مظاهرة واحدة طوال مدة التلمذة، اللهم إلا جنازة مصطفى كامل.. وما زلتُ أذكر أنني مرة دخلت المدرسة وحدي وجلست لأن المظاهرة في ذلك اليوم لم تكن لسبب وجيه يستحق الإضراب.

 

وكنت معروفًا لزملائي، يحتكمون إليَّ في خلافاتهم ومنازعاتهم الشخصية، وكنت دائمًا محل ثقة أساتذتي برغم أني كما قلت لم أكن طالبًا نابهًا.

 

كنتُ أصلي منذ صباي، وإن لم تكن صلاتي بانتظام فقد كنت أجمع الفروض لأؤديها معًا.
وفي مدرسة الحقوق وقعت في ضائقةٍ ورفعت رأسي إلى السماء أبحث عن الفرج من الضيق، وكان ربي قريبًا مني فانفرجت الضائقة، ومن يومها قرَّرت ألا أجمعَ فرضًا على فرض بل أؤدِّي الصلاة بانتظامٍ تام، ومن لحظتها حتى كتابة هذه السطور وإلى يوم أن أموت إن شاء الله لن أخلفَ ما عاهدت الله عليه.

 

قصة زواجي

وتخرجتُ في مدرسة الحقوق عام 1915م، والتحقتُ بمكتب الأستاذ حافظ رمضان، وقد كنت في ذلك الوقت أسكن بمنزل رجل عالم فاضل وكان له ابن اتخذتُ منه صديقي الوحيد في القاهرة، وكم تمنيت أن تكون لهذا العالم الفاضل ابنة اتخذها شريكة لحياتي، ولم يخيب الله أملي فرأيتها مصادفةً ذات يوم، وفي اليوم التالي لحصولي على ليسانس الحقوق ذهبت إلى والدها أطلب يدها.

 

وقال لي العالم الفاضل: أليس من الأفضل أن يتقدَّم والدك بهذا الطلب؟

قلت له في بساطة: لقد تقدَّم والدي يومًا عندما أراد أن يتزوَّج من والدتي، أما أنا فأتقدَّم لأني أنا الزوج لا والدي.

 

واقتنع الرجل الطيب، ودعوتُ أبي ليشهدَ عقد قراني، والتقيت به، وكنت الوحيد الذي أعلم أن هذا التصرف سيعجب أبي لأنه كما قلت كان لا يعيش في عصره، بل سقط من حسابه الكثير من التقاليد التي كانت تسجن هذا العصر وراء أسوارها الجامدة، وقال لي أبي وهو يصافحني: لقد تمنيتُ على الله دائمًا أن يحدث هذا منك فتريحني من أثقل مهمة على أب، وهي اختياره لابنه ورقة يانصيب رابحة.

 

وهكذا تزوجتُ، وبدأت أعمل في المحاماة، ولكن الأبواب كانت أضيق من أن تتسع للناشئين، وضاق بي الحال، وعزَّ العمل والأمل في القاهرة، وبيني وبين نفسي قررت الهجرة وراء الرزق.

 

الهجرة

وقعت في يدي خارطة للقطر المصري وبدأت أنقل أصبعي على بلادها المختلفة، وكانت أصبعي فوق سوهاج عندما ارتفع صوت المؤذن يعلن صلاة العصر "الله أكبر الله أكبر" قررت أن أختار سوهاج.

 

وفي مساء هذا اليوم قرَّرت أن أفاتحَ شريكةَ حياتي في أمر الهجرة، أمر الغربة عن الأهل، ولم أكن أشك في امتثالها لرغباتي وبرغم هذا فقد كان هناك خيط رفيع من الشك يلتف حول قلبي، وقبل أن أفاتحها جاءتني لتقول: ومطلوب قضاة في السودان.. لماذا لا نسافر؟
لقد كنت في حرج من الهجرة إلى سوهاج فإذا بها تقترح السودان.

 

وسافرت إلى سوهاج وبحثت عن بيتٍ وعن مكتب وتم لي ما أردت، وأراد الله أن تكون سوهاج فاتحة خير في حياتي، فإن الله فتح عليَّ فتحًا لا يخطر ببال أحد، وفي أقل من عام كنت من المحامين المعدودين في سوهاج.

 

واشتعلت الثورة المصرية الكبرى، ولأول مرة في حياتي وقفتُ لأخطب في الجموع المحتشدة، ويومها آمنتُ بالمظاهرات، وآمنتُ بالتكتل، وآمنتُ بمصر الثائرة العنيفة، وبمجرد انتهاء الثورة ظل إيماني بالتكتل وبمصر، ولكن ذهب إيماني بالمظاهرات فعدت إلى كراهيتي لها.

 

الإيمان بالقضاء والقدر

وذات يوم وصلني فجأة خطاب من وزارة الحقانية يقول لي فيه الوزير أنه "قد تمَّ تعييني في القضاء بناءً على الطلب الذي قدمته"، ولا أذكر أني قدمتُ طلبًا وأنا المحامي الناجح الذي بدأ يرتفع اسمه وتعلو أسهمه.

 

ووصلني بعدها بأيام خطابٌ من صديق يهنئني فيه على هذا التعيين ويقول لي "لقد سمعت أنك مجهد في المحاماة، لهذا قدمتُ الطلبَ ووقعته باسمك فأرجو ألا تعتذرَ حتى لا أُتَّهمَ بالتزوير".
وأوقعني خطاب وزارة الحقانية في حيرة، هل أدخل القضاء أو أظل في المحاماة؟ ولا أدري لماذا اخترت القضاء، وإلى اليوم ما زلت أسائل نفسي: هل أصبت أو أخطأت؟ ولا أكاد أجد جوابًا شافيًا.

 

أول لقاء بفكرة الإخوان

ظللت أطوف بالبلدان من مركز إلى مركز ومن مديرية إلى مديرية ومن محكمة إلى محكمة.. وهكذا مضت حياتي رتيبة عادية لا تستحق الذكر بلغة برقيات ميادين القتال.. إلى صيف 1944م.

 

كنت في القرية واجتمعت بلفيف من شباب البلدة وأخذنا نتحدث في مختلف المشكلات العامة.. وهالني ما سمعت.. سمعت شبابًا محدودي الثقافة والتعليم يتكلمون في المسألة الوطنية كأحسن ما يتكلم المفكرون السياسيون.. ويتحدثون في المسائل الدينية كأحسن ما يتحدث العلماء المتمكنون.

 

وعجبتُ لهذا، فسألتهم عن مصدر هذا العلم، فقالوا إنهم ينتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين، وأن مطبوعات الجمعية ومنشوراتها وتعاليمها تصلهم بانتظام.. وطلبت منهم أن يزودوني بهذه المطبوعات.

 

ولم أنمْ هذه الليلة حتى الصباح، فقد ظللت أقرأ وأقرأ حتى الفجر، ثم صليت الفجر.. ولم تكد تطلع الشمس حتى اعتبرت نفسي جنديًّا في هذه الجماعة الكبرى، وكان هذا أول لقاء لي بفكرة الإخوان.

 

ومن هذا اليوم أصبحت أعد نفسي أخًا لهم جميعًا، أتتبع نشاطهم وصحفهم وأنباءهم، واتصلت ببعضهم وأنا مستشار.

 

وذات يوم كان محددًا عقد اجتماع ضخم سيخطب فيه الإمام الشهيد حسن البنا، وقيل لي إن دعوةً رسميةً ستصلني لحضور الاجتماع ولم تصل الدعوة.

 

وعلمت فيما بعد أنه كانت هناك أوامرُ لمصلحة البريد من وزارة الداخلية بتمزيق الدعوات الخاصة بالإخوان المسلمين، وقد مُزقت الدعوة التي وُجهت إليَّ.

 

وبرغم هذا فقد قرَّرت أن أحضر الاجتماع بأي ثمن ونزلت أنا وأربعة من زملائي المستشارين واتجهنا نحو الاجتماع وكان في الجيزة، ودخلنا السرادق الكبير، فلم نجد موضعًا لإصبع لا لقدم، وبرغم ذلك فقد شققنا طريقنا، وعرفنا بعض المحامين الأقباط الذين حضروا الاجتماع فقدموا لبعضنا مقاعدهم، ولكني أصررت على أن أجلس على الأرض لأستمع إلى حسن البنا.

 

وكم سمعتُ خطباء وكنت أتمنى في كل مرة أن يسرعوا إلى النهاية، وهذه المرة كنت أخاف أن يختم حسن البنا خطابه، كنت في قلقٍ مستمر من أن ينتهي قبل أن أشنف أذني وعقلي وقلبي من هذا السحر.

 

مائة دقيقة انقضت عليه وهو يجمع قلوب المسلمين في قبضة يده، فيهزها كما يشاء وكما يريد، وانتهت خطبته وردَّ إلى المستمعين قلوبهم إلا قلبي أنا فقد ظل في يده.

 

أول لقاء مع الشهيد

وازددتُ اقترابًا من الإخوان.. بدأت أتصل بهم وأعرف بعضهم.. إلى أن جاءت ليلة.. كنت في مكتبي أراجع بعض القضايا.. ودق الجرس ولم يكن من عادتي أن أفتح الباب.. ولكن لا أدري لماذا قمت.. ولماذا ذهبت، ولماذا فتحت الباب؟

لأجد حسن البنا

وتعانقنا..

ودخل إلى بيتي.. وجلسنا نتحدث في شتى الشئون

وصلينا العشاء معًا.

وخرج المرشد.

وبدأت أضع عقلي بعد قلبي في خدمة الإخوان.

 

آخر لقاء مع الإمام الشهيد

كانت الساعة الحادية عشرة مساء ودق الجرس وفتحت الباب، ودخل حسن البنا يحمل إليَّ آخر أنباء مفاوضاته مع الحكومة، ولا أعلم لماذا كنتُ منقبضًا.. لماذا كنتُ ضيقَ الصدر.. لماذا تجمعت فوق طرف لساني كلمة (القتل).

 

كنت أحس أن هذا الرجل سيُقتل.. ستغتاله يد أثيمة.. فإن الحكومة- أي حكومة- لا يمكن أن تعجز عن قتل رجل أعزل إلا من الإيمان.

 

وأراد أن ينصرف.. وصافحته.. وإذا بي أعانقه وأقبله.. ولا أكاد أمسك دموعي أو أخفيها.. وابتسم رحمه الله وقال: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا".

 

وابتلعه الظلام.. وفي اليوم التالي ابتلعه الظلم.. فقد اغتالت الحكومة المصرية في 12 فبراير 1949 مواطنًا مصريًّا اسمه حسن البنا.. وتعهَّدت هذه الحكومة لا بإخفاء معالم الجريمة فحسب.. ولكن بمكافأة القاتل.

حسن الهضيبي