الإمام المودودي يكتب: في رثاء الإمام المرشد حسن الهضيبي

الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: المصاب العظيم برجل الدعوة والجهاد حسن الهضيبي

الداعية المجاهد محمد الراشد: الهضيبي.. معلم الصمت الشامخ

 

الإمام المودودي يكتب: في رثاء الإمام المرشد حسن الهضيبي

كتب الإمام أبو الأعلى المودودي مؤسس الحركة الإسلامية في شبه القارة الهندية يقول:
"من المصادفات التاريخية الرائعة أن الأيام التي بدأ فيها الأستاذ الشهيد حسن البنا رحمه الله بحركة البعث الإسلامي في مصر هي نفس الأيام, على وجه التقريب في القارة الهندية الباكستانية, وليس هناك فرقٌ بين عمْر الحركتين إلا يسيرًا جدًّا يكاد لا يتجاوز السنتين, أما العصر الذي واجهته الحركتان فهو متجانس تمامًا.

 

ثم بقينا لا نعرف عن الإخوان شيئًا ولا يعرفون عنا شيئًا لسنوات عديدة، رغم وحدة الهدف ووحدة الطريق، وبعد أن مضى على هذا الوضع مدة من الزمن قرع أسماعَنا صوتٌ بليغٌ يأخذ بمجامع القلب وينفذ إلى سويدائه فالتفتنا إليه فإذا هو صوت الإمام الشهيد حسن البنا، ببيانه القوي، وأسلوبِه المشرق، وحلاوته الربانية، وإذا مصدره القاهرة التي كانت ترزح حينذاك تحت نير الحكم الملكي المستبد والاستعمار الإنجليزي الغاشم، وأدركنا أن هذا الرجل الملهم أنشا حركةً باسم (الإخوان المسلمين) التي تعمل لنفس الغايات والمبادئ التي تعمل لها الجماعة الإسلامية في القارة الهندية الباكستانية.

 

كما أن الإخوان كذلك أدركوا بعد فترة من الزمن دعوة الجماعة الإسلامية وأهدافها وآمالها, ثم تلاقت الدعوتان, وتعارفت الأرواح وتجانست القلوب وتوثقت عرى الألفة والتعاون, وتوحَّدت الآمال ولا شيء يفصل بينهما إلى اليوم من ناحية الغاية والهدف, ومن حكمة الله البالغة وقدره المقدور أن نال مؤسسو حركة الإخوان المسلمين ومرشدها الأول حسن البنا الشهادة في سبيل الله, ثم جاء مرشدها الثاني وقام بواجبه أحسن القيام، وها قد لقي ربه أخيرًا, أما الذي أنشأ الحركة الإسلامية في القارة الهندية الباكستانية فهو باقٍ على قيد الحياة ليتحمَّلَ آلام فقدان زميليه الجليلين أسكنهما الله فسيح جناته، ونحن الآن في صددِ رثاء الشيخ الهضيبي, والعين تدمع والقلب يحزن، وإنا بك أيها الشيخ الهضيبي لمحزونون.

 

وللأسف البالغ أن الذين يقدِّرون حركة الإخوان المسلمين وخدماتها حقَّ التقدير هم قليلون جدًّا في بلادنا؛ لأن الدعايةَ التي قامت بها القوى المعادية للإسلام ضلَّلت الكثير من الناس, ولكنَّ أولئك الذين عرفوا بهم جيدًا هم يعلمون علم اليقين أن العمل الإسلامي الذي تمَّ في الفترةِ الأخيرةِ في البلاد العربية بصفةٍ خاصةٍ وفي الدول الأخرى بصفةٍ عامةٍ، والجهود التي بذلت فيها لبعث الوعي الديني والخلقي لتبصير المسلمين عامتهم وخاصتهم بالإسلام الصحيح.. كل هذه كانت ثمرة جهاد الحركة الإسلامية التي أنشأها الأستاذ الشهيد حسن البنا ونمَّاها الأستاذ الهضيبي وعبد القادر عودة وسيد قطب رضي الله عنهم.

 

أيها الإخوة الكرام.. لو قُدِّر لأحدكم أن يتجوَّلَ في العالم العربي لرأى بأم عينيه من الخليج إلى المحيط أن أي رجل يتحمَّس للإسلام ويعض عليه بنواجذه ويتمتع بالفهم الإسلامي العميق والغيرة على دين الله والسلوك الإسلامي الحميد فهو من الإخوان المسلمين، ينتمي إليهم، أو يتأثر بدعوتهم، أو على الأقل له صلة بهم, حتى في أمريكا وأوروبا، كل أولئك الذين تراهم مشبَّعين بروح الإسلام من الشباب العرب معظمهم من أتباع هذه الحركة, إلى أن صارت (الإخوانية)- إن صحَّ التعبير- رمزًا للإسلامية, فأيما رجل التقت فيه الثقافة الحديثة بالتدين اعتبره الناس بدون بذل الكثير من الفكر أخًا من الإخوان ملتزمًا أو منتسبًا أو متأثرًا أو مستفيدًا؛ ولهذا عندما أصيبت بعض البلاد العربية بداء اللادينية والقومية والأنظمة الأخرى المعادية للإسلام أصبح الأمر فيها أن كل شاب يتجه إلى الجامع ويصلي بانتظام لاحقته المباحث وطاردته!! ولقد كان فضل الله تعالى على البلدان العربية كبيرًا، إذ بدأت حركة الإخوان المسلمين في هذه المرحلةِ من التاريخ التي أخذت فيه البلدان العربية تُصاب بأدواء العلمانية والقومية والانحلال الخلقي ولا ندري ماذا سيكون أمر هذه البلدان بعد كل ذلك لو لم يقدر الله لحركة الإخوان أن تبرز إلى الوجود وتمسك بالموقف وتقف في وجه التيارات المدمرة لكل قيمة فكرية أو خلقية.

 

وفي هذه المناسبة من الجدير بالإشارة إلى أنه قبل 25 أو 30 سنة عندما كانت حركة باكستان في قمة النشاط فإن جميع أولئك الذين كانوا مُتَعرِّين من الشعور الإسلامي أو المتحمِّسين للقومية والعلمانية في البلاد العربية كانوا من مؤيدي (المؤتمر الوطني الهندي) وزعيمه (المهاتما غاندي) الذي كان يحارب فكرة قيام باكستان، ففي هذه الدوَّامة العاتية من الأفكار الزائفة والدعوات المنحرفة كان الإخوان المسلمون هم الوحيدين في تأييد فكرة باكستان والدعوة إليها, بل هم لا يزالون يناصرون باكستان في الملمَّات ويدافعون عنها في كافة المجالات, لا نزال نذكر كلمة الدكتور مصطفى السباعي- رحمه الله- في إحدى المؤتمرات الإسلامية: "باكستان لا تحتاج إلى تعيين سفرائها في البلاد العربية، فإننا معشرَ الإخوان نعتبر أنفسنا سفراء لباكستان, الدولة التي قامت على الإسلام", ومع هذا فقد كان غريبًا أنه عندما تتابعت على الإخوان حلقاتٌ متصلةٌ من الاضطهاد والتنكيل لم نَرَ هنا إلا قلةً من الناس تعاطفت معهم وتألمت بآلامهم, وأغلب الناس قد تضلَّلوا بدعايةِ الأعداء من افتراءات ملفَّقةٍ واتِّهاماتٍ كاذبةٍ أُلصقت بهم, وعندما صبّت على الإخوان تلك الضربات القاسية التي اقشعرت منها الجلود وتندَّى منها جبين الإنسانية، حيث ذهبت ضحيتها خيرة قادتها وخيرة شبابهم لم يفقد هذا البلد (باكستان) من حبَّذ هذه الإجراءات, وبار المقيمون بها.
وندعو الله تعالى بإخلاص وصدق أن يغمر الله تعالى الشيخ حسن الهضيبي بفضله وحنانه ويعلي درجاته في جناته ويجزل مثوبته لما قام به من تضحيات وخدمات، وينتقم بمحض عدله من الذين اضطهدوه واضطهدوا زملاءه طيلة عشرين سنة, ويكتب للإخوان أجرًا حسنًا لما صبروا واستقاموا وتحملوا من المصاعب ما لا يتصوره إنسان, وخدموا الحركة الإسلامية في غياهب السجن والمعتقلات.

 

وندعو الله تعالى أن يُعلي درجات المجاهدين من الإخوان الذين قاتلوا اليهود في حرب فلسطين فاستبسلوا وقاموا ببطولات رائعة, فالذين نالوا الشهادة في هذه الحركة نسأل الله أن يتقبل شهادتهم, والذين جاهدوا وحققوا ما عاهدوا الله عليه أعطاهم خير ما يَجزي به عباده المجاهدين.

 

نسألك اللهم أن ترفع درجاتِ الإمام حسن البنا في الملأ الأعلى وأن تجعلَه من المقرَّبين لك؛ لأنه هو المجاهد الذي أنشأ حركة الإخوان المسلمين وغيَّر مجرى حياة ألوف مؤلفة من الناس ونفخ في روعهم حب الجهاد والاستماتة في سبيل الله, وأنشأ منها جيلاً مؤمنًا صامدًا صابرًا لم يستطع العدو أن يميلَ به عن جادة الحق أو يمحوَ آثار الحركة الإسلامية، رغم ما صبَّ عليها من الظلم والعدوان والعذاب.

 

اللهمَّ ربنا تقبَّل بفضلك وكرمك خدمات الذين شُنقوا في سبيلك، كالأستاذ عبد القادر عودة والشيخ محمد فرغلي والأستاذ يوسف طلعت وزملائهم وسيد قطب وزملائه عبد الفتاح إسماعيل ومحمد هواش، واكتب لهم ما كتب للشهداء الأبرار من أجر وعطاء، واجعلهم من الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.. وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا.
المجاهد عمر الأميري: الهضيبي "قضى نحبه" وجاء دور "من ينتظر"
كتب الداعية الكبير المجاهد بهاء الدين الأميري- من قيادات الحركة الإسلامية في سوريا- يقول:

"نشرت جريدة (الأهرام) القاهرية في زاوية صغيرة لا تلفت النظر من ركن الوفيات في عددها الصادر يوم السبت 16 من شوال 1393هـ خبرًا صغيرًا قد يكون جل الذين يطلعون على الجريدة, ولا سيما في أنحاء العالم العربي لم يلتفتوا إليه، وهذا هو الخبر بنصه:
"فقيد الإسلام والعروبة.. ودَّعت أسرة الهضيبي بعرب الصوالحة أمس عميدَها المرحوم المجاهد الكبير الأستاذ حسن الهضيبي، واقتصر العزاء على تشييع الجنازة تحقيقًا لرغبة الفقيد.. وإنا لله وإنا إليه راجعون".

 

وهكذا مرَّ الخبر دون أن تتحدَّثَ عنه الإذاعات وتكتبَ عنه كبريات الصحف والمجلات العناوين الضخمة في صفحاتها الأولى, ولولا الصدفة لما اطلعنا على هذا الخبر الصغير في ألفاظه الكبيرة جدًّا في معناه العظيم في موضوعه ومغزاه!!

 

حسن الهضيبي هو المرشد العام للإخوان المسلمين الذي خلف الإمام الشهيد حسن البنا مؤسس الجماعة وأول مرشد عام لها, وقد وُلِد في مدينة عرب الصوالحة من أعمال القليوبية القريبة من القاهرة, من أسرة ذات دين ووجاهة, وكرم وشهامة, وقد بدأ دراسته في بلدته, ثم انتقل إلى القاهرة وفيها درس الحقوق, ونال إجازتها بتفوق, وعُيِّن قاضيًا؛ حيث ظل يرتقي في مناصبِ القضاء، وكان معروفًا بشدة النزاهة والتحرِّي في إحقاق الحق, محفوفًا بالتقدير والإكبار من زملائه ورؤسائه، حتى ارتقى إلى رتبة مستشار ممتاز, وهو المنصب الذي كان يشغله؛ حيث انتُخب وبويع مرشدًا عامًّا للإخوان المسلمين, واستمرَّ يشغل هذا المقام حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى, رضي الله عنه وأرضاه.

 

تاريخ دعوة الإخوان المسلمين- كبرى الجماعات الإسلامية خلال ربع القرن الأخير- تاريخٌ ضخمٌ كبيرٌ خطيرٌ، لا تستوعبه سطورٌ، ولا تفيه ولو جزءًا يسيرًا من حقِّه معالجة سريعة بمناسبة هذا الفقد الأليم, ولا بد للأقلامِ مع الأيامِ أن تنصف الحق وتسجل بتحرٍّ وصدق هذه الحقبة من تاريخ الدعوة الإسلامية, وجهادها المقدس، وإنا لنرسلها بهذه المناسبة إهابةً خاصةً ملحةً إلى كبار أبناء هذه الدعوة البررة إلى المبادرة بالقيام بهذا الواجب وإصدار موسوعة دعوة الإخوان المسلمين, يسهم فيها كل أعضاء الجماعة بما عنده من حقائق ووثائق.

 

والذي نريد أن نسجله اليوم- مع أصدق دعائنا إلى الله أن يجزي الراحل الغالي أحسن الجزاء عن جهاده الصادق وأن يعوض الأمة الإسلامية عنه خيرًا- اعترافًا بالحق وشهادةً لا نبتغي بها إلا وجه الله, وتسجيل المواقف البطولية والإيمان الصابر المثابر والحكمة العاقلة العاملة, وحسن التدبير, والرضا والشكر لله جل جلاله في السرَّاء والضرَّاء والسلامة واللأواء, ممَّا هو من أخلاق رجال الله الصالحين والصديقين الصامدين, وإن كل ذلك كان يتحلَّى به المرشد الفقيد الأستاذ حسن الهضيبي أكرم الله مثواه.

 

كان حسن الهضيبي رحمه الله مقدرًا مرموقًا, مستريحًا لعمله في القضاء, مستشارًا في أرقى مناصب الدولة, وكان سعيدًا بوئامه مع أسرته ونجابة أبنائه, والكفاية الكريمة في رزقه, وقد كان صديقًا حميمًا ومستشارًا ناصحًا حكيمًا للأستاذ الشهيد حسن البنا شخصيًّا دون أن تكون له سابق علاقة أو انتساب إلى جماعة الإخوان المسلمين.. وهي في عنفوان نفوذِها وتسابق كبار الناس على خطب ودِّها والاعتزاز بإعلانِ الانتماء إليها بشكل أو بآخر, بيدَ أن الأستاذ الهضيبي لبث في أجوائه الخاصة, مؤْثرًا أن يعملَ لِلَّهِ من خلال أسرتِه ووظيفتِه وبيئتِه وعزلتِه, ولما وقع اختيار الإخوان المسلمين عليه, وفاوضوه في قبول مقام الإرشاد العام, اعتذر بعدم معرفته السابقة بتشكيلات الجماعة وبما يعتقده في نفسه من عدم الجدارة وما هو في طبيعته من العزوف عن المواقع العامة والجماهيرية التي هي بالضرورة من مستلزمات قيادة الجماعة الإسلامية.

 

ولما أصرَّ عليه كبار الإخوان وطالبوه بأن يقبلَ الاضطلاع بمهام هذا المقام لإلحاح الحاجة إليه, ولأداء حق الله فيه- مهما كلَّفه ذلك من تضحيات- استجاب لداعي الله وترك ما كان فيه من حياةٍ مطمئنةٍ مستقرةٍ لا عنَت فيها ولا إرهاق وقال: إني أعلم أنني أقدم على قيادة دعوة استُشهد قائدُها الأول قتلاً واغتيالاً, وعُذب أبناؤها وشُرِّدوا وأوذوا في سبيل الله, وإني على ما أعتقده في نفسي من عدم الجدارة بأن أخلف إمامًا مصلحًا مثل حسن البنا رحمه الله لأقدم وأنزل عند رغبة الإخوان أداءً لحقِّ الله جلِّ وعلا، لا أبتغي إلا وجهه, ولا أستعين إلا بقدرتِه وقوتِه.

 

كانت قوى البغي والطغيان- بمختلف أجنحتها من صهيونية واستعمار صليبي غربي وماركسي شرقي- قد أدركت أن دعوة الإخوان المسلمين هي الخطر الحقيقي الأكبر على بغيها وعدوانها؛ لأنها امتدادٌ من أصالةِ الإسلام على سُنن الراشدين والمصلحين، وأن فيها روحًا من سلفيةِ ابن تيمية وابن عبد الوهاب, فأجمعوا كيدَهم على محاربتها والقضاء عليها, وهكذا بدأ المرشد العام حسن الهضيبي حياته الجديدة في مكايدة لا تهدأ ومعاناة لا تنقطع، وقد امتُحنت الجماعة- وهو على رأسها- مرات, وسُجن وعُذب وحُكم عليه بالإعدام، ثم بعد ذلك بالأشغال الشاقة المؤبَّدة، وأُجبر على ممارستها فعلاً، وهو يسمع ويرى إعدام وتعذيب كبار أعوانه وإخوانه وأبنائه وأحبائه وقد رغب إليه أن يتهاون في حقِّ الدعوة أو يهادنَ وهو في ذروةِ المحنةِ فرفض بإباءٍ وصبرٍ في مضاء ومرض بالذبحة الصدرية فأُخرج للعلاج ثم أُعيد للاحتجاز!!

 

ومرَّت فترة المحنة الأولى، فأُطلق سراحه وعاد إلى العمل الجادِّ والجهاد المتواصل الصادق, وجرت معه مفاوضات ليتراضى ويلين, فما زاده ذلك إلا ثباتًا في الحقِّ وإمعانًا في الجهاد، يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، لم يهُن، ولم يستكن، ولم يبدِّل تبديلاً.

 

وكانت المحنة الثانية أشدَّ ضراوةً وأكفر عداوةً، وكان قد شاخ وأضرَّ به المرض ومشقة السعي في طريق محفوفة بالمعارك والمواثر، وحُكِم عليه من جديد وبالسجن وبالأشغال الشاقَّة وأُعدم وعُذِّب أعوانُه وإخوانُه بين سمعه وبصره، وهو هو كالطَّود الذي لا يتزعزع, واشتد عليه المرض فطُلب إليه إطلاق سراحه استثناءً, فأبى وطلب أن يعمَّ الإنصاف سائِرَ المعذَّبين والمعتقلين من أبناء الجماعة المؤمنة الصابرة.

 

ودار الدهر دورتَه وأخذَ الله من قضى عدلُه أن يأخذَهم أخذَ عزيزٍ مقتدر, وأُطلق سراح الهضيبي وجماعته فوجًا بعد فوج, وكان إعدام العلماء الأعلام والمجاهدين الصادقين أمثال عبد القادر عودة, ومحمد فرغلي, وسيد قطب, وما لقيه الإخوان من اضطهاد وتعذيب وما كان بهم من صبر واحتساب وصمود أكبرَ عاملٍ على نَشْرِ الدعوة وتعلُّق الشعب المصري بأهداب الإسلام, وإقباله على الله ومطالبته لحكامه أن ينطلقوا به من قواعد دينه وإيمانه، وساعد على ذلك ما وجده الناس في الإخوان وقادتهم من أسوة حسنة, وما وقع في الأمة الإسلامية وبمصر من نكباتٍ في ظلِّ الحكم الذي حجز الإسلام عن المعركة؛ حيث كانت النكبات ليس فقط في فلسطين بل في كل دنيا العروبة والإسلام يوم استبعد الإسلام من الميدان ولم يتمكن جنودُه المؤمنون من خوض المعركة.

 

وفي عام 1392هـ كتب الله لحسن الهضيبي أن يعدَّ بالحجِّ والتقى بمحبيه ومكبريه في رحاب المشاعر المقدسة، وقد أنهكته الشيخوخة وترك العذاب والمرض في جسمه أقوى الآثار وأصبح مجرد فكر وقَّاد, وروح مشرق، ومثل حي للمجاهد المؤمن الأبي, وكان يُحمل حملاً إلى مجالس محبيه ومريديه، فنعموا منه بالتحيةِ المباركةِ والكلمةِ الطيبةِ والدعاء الصالح، وعاد إلى مصر من حجه المبرور يربِض في عرينِه كالأسدِ الهصور، لم تفارقْه البسمةُ، ولا خَبَت إشراقاتُ روحه وفكره ساعة, وكانت معركة رمضان المبارك، وأكرمه الله أن يسمَعَها تخاض بجند الله وفي سبيل الله, ونشيدها وترديدها: العزة لله, والله أكبر ولله الحمد.

 

وفي يوم الجمعة وبدر شوال في كبد السماء يصل بنوره بين رءوس الشهداء ومنازل الأنبياء فاض الروح الطهور, وانطلق حسن الهضيبي إلى الرفيق الأعلى يُهلل له ويتلقَّاه في أعلى عليين شهداء المسلمين في الفردوس الأعلى في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر.

 

وفي الأرض يأبى حسن الهضيبي أن يُقام بمناسبة وفاتِه أي عزاء إلا تشييع الجنازة وفق السنة الشرعية ويجري العمل بوصيته، ونحن على يقين أنه لو فسح المجال وخلِّي بين أبناءِ هذا الجيلِ من المؤمِنِين الصادقين وما يريدون لما تخلَّف منهم واحدٌ عن أن يشيعَ هذا الجثمان الغالي, ولكن هكذا كانت رغبة الفقيد, وهكذا تمَّ الأمر ووصل إلينا النبأ صدفةً عن طريق إعلان صغير في ركن الوفيات من جريدة (الأهرام).

 

إنها أخلاق الأئمة الشهداء والصالحين، ففي كنف الله ورحمته ورضوانه أيها الأخ الكبير الحبيب والمجاهد الجليل العظيم, وفي حِمى الله وتسديده وتأييدِه دعوة الإسلام، وعزاء يا رجال الدعوة ومضاء مضاء، ندفع بالتي هي أحسن، وندعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة, لا يلتوي بنا درب ولا يعوقنا خطبٌ إلى أن نلقى اللَّهَ على الإيمان والإحسان وهو عنا راضٍ، وعزاء يا إخواني أبناء الفقيد وأسرته, وإننا جميعًا لأبناؤه وأسرته, ووداعًا أبا إسماعيل إلى أن نلتقي على وعد الله وعهده، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: المصاب العظيم برجل الدعوة والجهاد حسن الهضيبي

وكتب العالم الجليل محدث الشام الشيخ عبد الفتاح أبوغدة يقول:

"لقد هزَّ نبأ وفاة والدنا الأستاذ المرشد الغالي قلوب المؤمنين, فقد آثره الله إلى جوارِه الكريم, ورحل عن هذه الدار, بعد أن ترك فيها أجلَّ الآثار بجهادِه وجلادِه المشهودِ له به, وعزَّ المصاب بفقده على كلِّ نفس مؤمنةٍ في ديار الإسلام, وكانت خسارة المسلمين برحيله جسيمةً, فقد نذر حياته للذَّود عن الإسلام, صدقًا في القول, وإخلاصًا في العمل, وتربيةً للمؤمنين, وإعدادًا للمجاهدين, ورعايةً لشباب الجيل في رحاب الإيمان.

 

ولقد علَّم الأجيال عزيمة الأبطال وثبات الرجال, وكانت حياته صورة دعوية؛ إيمانًا وصبرًا, ورعاية للحق وجهرًا به وثباتًا عليه, دون مهادنةٍ أو مساومة, مع التعذيب الشديد, والأذى العاتي الذي ناله بسبب صلابته في الحق, وثباته عليه في وجه الظلم والظالمين, ومع شيخوخته في السن وأمراضه التي لحقته- من جرَّاء التعذيب والإيذاء- وصاحبته طوال المحنة القاسية, فلله تلك النفس المؤمنة, الصابرة المحتسبة, المسلمة المجاهدة, المؤثرة لما عند الله, الطالبة لثواب الله ورضوانه, بالصبر على ما تلقَّاه من تعذيب الطغاة والظالمين, التي لقيت ألوان العذاب في سبيل الله, وما انحرفت ولا ضعفت ولا استكانت لغير الحق, حتى لقيت وجه ربها راضيةً مرضيةً إن شاء الله.

 

ولقد أكرمني الله تعالى وعددًا وافرًا من أبنائه ومحبيه- الذين ربَّاهم ورعاهم- بلقائه في رحاب بيت الله الحرام, في حج العام الفائت, بعد غياب طويل, ولهفة وحنين, وسعدت القلوب بلقياه, واطمأنت النفوس بمَرآه, وشهدت العيون بالنظر إليه- بعد صبره وجلاده, وصدور الحكم عليه من الظالمين بالإعدام, وإبقاء الله له بعد زوال رأس الطغيان والطغاة- شهدت رجل الصبر والقوة والبسالة النادرة العظيمة, الذي إذا جدَّ الوغى كان أخطب الخطباء بعزيمته وتضحيته وجهاده وإقدامه.

 

ثم شاء الله أن يكون لقاؤنا به لقاء الوداع, فلا رادَّ لمشيئة الله, وقد رضينا بما قدر الله وقضاه, وإننا- بعون الله سبحانه- على العهد ثابتون, وعلى نهجه سائرون, حتى نلحقَ به ويجمعنا معه اللقاء الذي لا فراق بعده, في كنف رحمة الله وفضله إن شاء الله, مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.

 

رحم الله فقيدنا الكبير, وأكرم مثواه, وجعل الجنة مأواه, وأعلى مقامه في منازل الأبرار والأخيار, وجزاه عن جهاده أكرم الجزاء والإحسان, وعوَّض المسلمين عنه خير خلف, وألهم أبناءه وإخوانه جميل الصبر, وحسن العزاء, وإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

الداعية المجاهد محمد الراشد: الهضيبي.. معلم الصمت الشامخ

وكتب الداعية المجاهد محمد أحمد الراشد من قيادات الحركة الإسلامية في العراق يقول:
"يخطئ زعماء الأحزاب السياسية العرفية, وقادة الأفكار الأرضية, والحاكمون أجساد الناس بقوانين الجاهلية خطأً عظيمًا حين تقديرهم مدى النجاح الذي يحققونه، يفهمون أن تسلطَهم وقمعَهم للمخالفين يصفانهم بالنجاح التاريخي ويؤهلانهم لاستمرار وتأثير.

 

وليس أمرهم كما فهموا أو زعموا, فإن مبلغ زعاماتهم وفكرهم وحكمهم لا يتعدَّى نهاية غلبتهم وبداية سطوة منافس لهم من أنفسهم جديد, تذروهم ريح الأيام, ويظل قادة دعوة الإسلام أقوى منهم دومًا، فإن الناجحَ من ملك العصر, وحكم القلوب، وكانت له النهايات.. قد يكون القائد المسلم سجينًا, ممنوعًا بضيق الجدران وأثقال الحديد عن الحركة، لكن روحه التي بين جنبيه تظل أوسع من عوالم سجانه.

 

وقد لا يؤثر عنه حرف مقابل كل خطبة يخدع بها الطاغية أتباعه, لكنَّ صمته يظل أقوى من بلاغة الباطل إنه الصمت عن حروف اللين, يهب القائد المسلم قوته.. ويومها في زمن التابعين فخر المحدث الفقيه إبراهيم التميمي بمنقبة الربيع بن خيثم فرواها للأجيال وقال:
"أخبرني من صحب الربيع بن خيثم عشرين عامًا ما سمع منه كلمةً تُعاب".. يفخر أن صان الربيع لسانه عشرين عامًا من أعوام العافية والرخاء.

 

واليوم نفخر نحن دعاةَ الإسلام بمنقبة الهضيبي, ونرويها للأجيال: أن قائدنا خبرناه عشرين عامًا, من أعوام المحنة والسجن, ما سمعنا منه كلمة من اللين, أو حرفًا يعاب.

 

وهذا هو الصمت الصعب لا صمت الزهاد, كانت حاجة المعركة إلى قائد يعلِّم الدعاة الصمت الشامخ والاستعلاء على كلمة العيب, ولم تكن الحاجة إلى قائد خطيب وكاتب.

 

كانت الحاجة إلى الرجل الكامل, فالكتب إنما هي صواب أو خطأ ينتهي إلى العقل, ولكنَّ الرجل الكامل صواب ينتهي إلى الروح, وهو في تأثيره على الناس أقوى من العلم، إذ هو تفسير الحقائق في العمل الواقع.

 

وكان الهضيبي رحمه الله ذلك الكامل, كان صوابًا خُتم له بموقف ثبات، صواب سيظل ينتهي إلى أرواح دعاة الإسلام في كل مكان وكل جيل يمدها بالتثبيت.

 

ولم يكتب الهضيبي إلا كلمات, لكنه أقوى من العلم وكتابات الكتاب في التأثير, بما خلف من مواقف صلابة تفسر حقائق المعركة الإسلامية مع صور الجاهلية الحديثة.. كان كمالاً لم تنقص منه أنصاف الحلول، فأصَّل وحَفِظ للدعوة معسكرها المستقل, وأبى كل محاولة للتقريب.

 

وأدرك أنه الوادي السحيق يقوم بيننا وبينهم, ذلك الوادي الذي يجب أن تشير إليه خوارط الدعاة, وتبيَّن عمقه واستحالة نصب الجسور بين جانبيه, الوادي الذي رآه بديع الزمان النورسي وصفه في مثانيه العربية, يبيِّن من خلال صفة فقه ثبات أمثال الهضيبي من القادة على المفاضلة المستعلية.

 

نداءٌ عربي ينبعث من جبال تركيا خاطب محذرًا: أيها الدعاة: "لا تتقربوا إلى المدنيين بالمسامحة الدينية والتشبه, ظنًّا منكم أنكم تصيرون سرًّا بيننا وبينهم, وتملأون الوادي نبتًا, كلا, إن المسافة بيننا في غاية العمق, لا تملأونه, بل تلتحقون بهم أو تضلون ضلالاً بعيدًا".

 

يدعوهم بالمدنيين, هؤلاء أهل الجاهلية جريًا مع الاصطلاح القديم في نظرية في المفاصلة واضحة, أيام اشتداد جبروت أتاتورك.. ويرى التقرب والتسامح خطوةَ التحاقٍ بالكفر لا محالة, ولذلك لما كان ذاك الوادي الذي في غاية العمق حقيقةً وجب أن يكون مَن يشرف عليه جبلاً في غاية الشموخ, كجسد العمق.

 

القلب الجبل الذي لا يزيله شيء أول القلوب التي وصفها السري السقطي, فإنه رأى أن القلوب ثلاثة:

قلب مثل الجبل لا يزيله شيء, وقلب مثل النخلة, أصلها ثابت والريح تميلها, وقلب كالريشة, يميل مع الريح يمينًا وشمالاً.. فكان قلب الهضيبي تلك الهضبة وذاك الجبل, لم يزلْه عن جوهرِ الدعوةِ الذي عرفت به تهديدٌ أو حبالٌ تُلف مرةً بعد مرةً حول أعناق الذين معه, ولم تمِلْ به ريحُ إغراء أو تقذفه اليمين والشمال.

 

وقد يربأ البعض بأنفسهم عن ميل غير منتظم كميل الريشة حين تطير بها الريح في الفلاة وتقعد, ويرون الفضيحة في ذلك الصعود والهبوط الذي لا تضبطه الموازين, فيفلسفون لأنفسهم صعودًا وهبوطًا تنظمها مقاييس الهندسة في منظر جميل من الدوران, مبررًا مقننًا, لكنه يبقى دورانًا ليس بثبات.

 

ولذلك أباه الهضيبي أيضًا, واختار لنفسه المحلَّ الواحدَ الثابت, وكان المركز لم يشأ أن يتناقلَه صداع الأهواء والأماني والرخص, ولا أن يصيبه دوار الدوران.

ينفذ وصية صاحبه عبد الوهاب عزام في مثانيه:

فاثبتنْ, والزمان بالناس ماضٍ     والزم القطب لا يصبْك الدوارُ

 

فلزم القطب الثابت, والضعفاء من حوله يدورون، والتزم القطب الكاتب والبعض لدقيق حروفه لا يفهمون، ثم أتم ثباته في القطب بإغماض الجفن، فإن المكوث في المركز غير كافٍ للوقاية من الصداع ومجرد النظر ورؤية الدوران تدير الرأس أيضًا وتأتي بالدوار.

 

فثالثة كانت المثاني تناديه, كان القدر ناسبًا بين المرشد القائد الثاني ونصائح مختلف المثاني, لكنها المثاني الفارسية هذه المرة: أن يدعَ الحرص ويقنع ويزهد, ويغمضَ جفنه عن عرض الدنيا ومتاعها؛ فإن الصدف لا يحفل باللؤلؤ الثمين ما لم يغتمض.

 

ولقد لبَّى الهضيبي رحمه الله, وأغمض جفنه في بدايته عن الزوائل, وزهد حقَّ الزهد, وخاف الله ولم يخف طاغيةً, فغمض جفنه في نهايته على ثبات ومفاصلة وكلمة صلبة عالية، وبقي على من يخلفه في القيادة أن يواصل هذا الثبات المغتمض الصامت، في شموخ أمام وادي المفاصلة العميق، وأن يردد مع سيد:

أخي ستبيد جيوش الوحك أشواقها

ويشرق في الكون فجر جديد

ترى الفجر يرمقنا من بعيد

 

فذلك الذي أكده هرقل لأبي سفيان حين قال: "سألتك: كيف كان قتالكم إياه؟ فزعمت أن الحرب سجال ودول, كذلك الرسل, تبتلى, ثم يكون لهم العاقبة".. وكذلك أيضًا أتباع الرسل في كل قرن أيضًا, يبتلون, ثم تكون لهم العاقبة.. بل هو الابتلاء طريق التمكين, كما قرَّر الشافعي لما سُئل: "أيهما أفضل للرجل: أن يمكَّن أو يبتلى؟" كأنَّ دعوة الإسلام وصلت يومًا ما بلا تمحيص وتدريب وراء القضبان وتحت المشانق, وفوق أمشاط الحديد، فقال الشافعي: "لا يمكَّن حتى يبتلى".

 

حتمًا مفروضًا.. قد يطول هذا الابتلاء وسير الظلماء أو يقصر كيفما شاءت حكمة الله, لكنَّ المهمَّ أن يقوم في هذا الطريق مؤذن بعد مؤذن, يهدون الناس ممشاهم.

كلما أظلم الطريق واعيا     وتناجت بيأسها الركبان

أبصر الركب للمنازل نارا    وهداهم إلى الديار أذان 

 
ولقد رفع الإمام حسن البنا رحمه الله صوتَه عاليًا بأذان أيقظ النيام, وخلفه الأستاذ الهضيبي رحمه الله فوفَّى وصدع بأذان ثانٍ أزال عن القلوب وحشة الطريق، وكأنه لمثل هذا اليوم كان نداء داعية اليمن القاضي محمد محمود الزبيري رحمه الله- قتيل طريق الابتلاء هذا- يريد أذانا ثالثًا:

يا دعاة الإسلام تاريخكم ضـ      خم ولكن هل فيكم من يعيده؟

ورنت من نوافذ الزمن الـ         خالي إليكم عيونه وشهوده 

 

فلقد أخذ الهضيبي مكانَه بجدارة في هذا التاريخ الضخم المشرف، وإن العيون لتتطلع إلى هذه الدعوة الرائدة المباركة اليوم، بعد نصف قرن من مولدها: هل فيها من يعيد تاريخ قادتها؟!
ذلك المأمول إن شاء الله وبعونه، فإنها دعوة معطاءة وهبت رجالها لفلسطين وللقنال ولمعركة الحرية في مصر، وأيسر من ذلك أن تهب ثالثةً رجلاً للصمت الشامخ يفتح الله على يديه.