هذا الحوار نُشر في الموقع بتاريخ 13/9/2003م، ولأهميته نعيد نشره مرةً أخرى.


في هذا اللقاء المبارك نرحب بأستاذنا الكبير الأستاذ "محمد مهدي عاكف"، وهو أحد رجالات الحركة الإسلامية، وله جهد بارز في الدعوة إلى الله- عز وجل- في داخل مصر وخارجها.

والأستاذ "عاكف" رجل غني عن التعريف؛ عاش في ظل الدعوة، وفي رحاب جماعة (الإخوان المسلمين) منذ فترة الأربعينيات، ودخل معتقلات وسجون الحقبة الناصرية، وقضى فيها فترات وسنوات طوال، ثم مَنًّ الله على الدعوة بأن خرج رجالها، وخرج الأستاذ "عاكف" من المعتقل في منتصف السبعينيات، ثم عاد إلى عمله في وزارة التعليم قطاع الشباب، فتولَّى المدير العام في هذه الوزارة، ثم بعد ذلك انتقل إلى الندوة العالمية للشباب الإسلامي مستشارًا لها، ثم جاء اختياره ليسافر إلى ألمانيا ليقود العمل الإسلامي في الخارج.

وإذا أردنا أن نستقصي أعمال وعطاء الأستاذ "عاكف"، فإننا سنقضي وقتًا، ولكننا نكتفي بهذا القدر من التعريف به، وندخل مباشرة مع سيادته لنحاوره في العديد من القضايا التي تهم العالم الإسلامي، وتشغل بال المسلمين في الداخل والخارج.

* في البداية نود أن نأخذ نبذة عن حياتكم نشأةً وتعليمًا، وما إلى ذلك؟

 
** بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فاسمي "محمد مهدي عثمان عاكف"، من مواليد سنة 1928م في قرية اسمها (كفر عوض السنطية)- مركز أجا- دقهلية، والدي- رحمه الله- كان رجلاً ميسورًا، ولي أحد عشر أخًا وأختًا من أم واحدة، وعشنا عيشة طيبة مباركة ميسرة، وبدأ تعليمي في المنصورة الابتدائية، ثم انتقلت إلى القاهرة حين انتقل إخوتي إلى الجامعة، ودخلت (مدرسة فؤاد الأول) الابتدائية، ثم تعرفت على (الإخوان المسلمين) في بداية الأربعينيات؛ حيث كنت أسكن في منطقة تسمى (السكاكيني)، وكان فيها إخوان من (الإخوان المسلمين)، بدءًا بالأستاذ "إبراهيم الطيب"، و"عادل تمام"، والدكتور "حنفي الأبيض"؛ وهو أستاذ كبير الآن، ومجموعة طيبة من (الإخوان)، وكنت شابًّا في حوالي الـ(12) من عمري وكنا نذهب إلى الشعبة؛ شعبة (السكاكيني)، وكان فيها كل ما يحتاج إليه الإنسان، من ثقافة وفكر وتعليم ورياضة، وأمضيت حياتي في المدرسة الثانوية (فؤاد الأول الثانوية)، وقد بُذل فيها جهد طيب؛ حيث إن المدرسة كانت للوفد، وكان عدد تلامذتها في هذا الوقت حوالي 400 طالب من أبناء الباشاوات والبهوات، ونحن أولاد الفلاحين الذين جاءوا من المنصورة، وظل الحال حتى سنة 1944م، حتى تمكن (الإخوان المسلمون) من السيطرة على المدرسة من كل النواحي، منها: النواحي الرياضية- وأنا رياضي- والنواحي الثقافية، والاجتماعية، وكان لنا في كل فصل مندوب للإخوان المسلمين، وكنت مسئولاً في ذلك الوقت عن (مدرسة فؤاد الأول) الثانوية، وكانت المدارس الثانوية في ذلك الوقت معقل من معاقل (الإخوان المسلمين)، وهي: (مدرسة فؤاد الأول) الثانوية، التي سميت فيما بعد بـ(الحسينية الثانوية)، ومدرسة الخديوية، ومدرسة الإبراهيمية، ومدرسة شبرا، والسعيدية، وكان الناس يحبونهم، حتى الأساتذة كانوا يحترمونهم، ويرشدونهم، وكانوا ينظرون إلينا نظرة احترام، ونحن على قلة ثقافتنا، ولكن اعتزازنا بديننا وبأخلاقنا وبقيمنا يلفت أنظار الناس إلينا. 

 وبعدما تخرجت، تم تعييني في (مدرسة فؤاد الأول) الثانوية، وكانوا قد فصلوني من كل المدارس الأميرية، ولم أرجع إلى القاهرة إلا بعد ذهاب "صدقي" باشا، وكان ناظر المدرسة اسمه "السيد هاشم"، وكان معروفًا بالشدة والقوة، وكنت أصغر مدرس في المدرسة، فكان "السيد هاشم" حينما يترك المدرسة يقعدني على مكتبه ويقول: انظر إلى احترام الناس إلينا، وإلى تقدير الآباء، يأتي الواحد منهم من الخارج فيقول: عندي ابني خذه معك، فالآباء كانوا يطلبون منا أن ندخل أبناءهم (الإخوان المسلمين)؛ لما تميز به (الإخوان) في ذلك الوقت من الجدية والأخلاق والتمييز، والحمد لله رب العاملين.

أكملت تعليمي الثانوي، ثم بعد ذلك أراد الوالد أن يدخلني الكلية الحربية، وقد انسحبت من دراستي فيها، ودخلت كلية الهندسة، وهنا الموقف الذي حدث بيني وبين الأستاذ "البنا"؛ وهو الذي رشحني للنظام الخاص، فمكثت قدر سنتين لم أرَ الأستاذ "البنا".

* من كان مسئولك في هذه الفترة؟

** كان رجلاً اسمه المهندس "قدري الحني"، وفوجئت بالأستاذ "البنا" يقول: أنت معي، وبعد استعراض حال (الإخوان) قال لي الأستاذ "البنا"- رضي الله عنه وأرضاه- : "يا عاكف- وهو يعلم أنى رجل رياضي- أليس لنا أحد بالمعهد العالي للتربية الرياضية؟"، لم يقل لي: اذهب إليه، ولكن قال: "ليس هناك أحد؟"، فعدت إلى كلية الهندسة أفكر، وكان لي صديق اسمه "صلاح حسن"؛ هذا من المجاهدين الكبار، وقد استشهد في معركة (الكرامة) في الأردن سنة 67، وقلت له: يا "صلاح"، هيا ندخل معهد التربية الرياضية، فوافق، ودخلنا معهد التربية العالي بالهرم، فكان فتحًا مبينًَا.

ودخول هذا المعهد أحدث لي في البيت ارتباكًا شديدًا؛ ولأن كل إخوتي مهندسون، فقد سخروا من هذا العمل، وكانوا يقولون ساخرين: "هب، هب، شمال، يمين"، ويظنون أنه لعب فقط من وجهة نظرهم هم، وظل الحال فترة طويلة، حتى تصالحنا بعدها لما فهموا أهمية هذا العمل، ثم- وأنا في المعهد- تم حل جماعة (الإخوان المسلمين) سنة 1948م، وقتل "النقراشي"، وقُبض عليَّ، ووصلت إلى (الهايكستب)، ومن (الهايكستب) إلى (الطور)، وعدت إلى المعهد لأحصل على دبلومة المعهد في سنة بدل سنتين.

وكنت من المتفوقين، ورفض البوليس السياسي في هذا الوقت تعييني في القاهرة، فاخترت أن أعمل في مدرسة طنطا الثانوية.

* هل كان لكم نشاط بارز في فترة الجامعة؟

** يا سيدي، بدأ العمل بالجامعة منذ الإمام "البنا"– رحمه الله– وكان وقتها يحاضر الناس، وتنشر دعوته على كل المستويات في وقتٍ سيطر ونشط اتجاه الإلحاد والعلمانية في جو الجامعة، وقد كان يستحوذ على اتحاد الجامعة، الذي زاد نشاطه ليشمل كل النواحي الثقافية والاجتماعية والرياضية، ولم يجد الشباب متعته إلا في الثقافة الإسلامية ونشاط (الإخوان)، الذي ملأ الساحة المصرية ذاك الوقت، ومن بين ذلك المعسكرات التي أقيمت في الإسكندرية والمنيا والفيوم ومرسى مطروح، وكان في داخل المعسكر كل أنواع الأنشطة.

وأذكر- وأنا رئيس لقسم الرياضة والطلاب، وهذا غير قسم الجوالة بالطبع- عقدنا عدة معسكرات طلابية، منها: معسكر ساحل المعمورة بالإسكندرية، أجرته من الحارس العام على أموال الملك لمدة 4 أشهر بمبلغ 30 جنيهًا، وكان الاختيار على أساس أنه لا يدخله النساء، وبالفعل لم يدخل أحد سوانا، وكذلك ذهبنا إلى معسكر في حلوان، ونحن أصحاب فكرة مصيف بمصر لما أقمنا بها معسكرًا في أوائل الخمسينيات، وكان كله عبارة عن غابة من البوص، وكذلك معسكر عزبة البرج في دمياط، وكانت كل هذه المعسكرات في وقت واحد، فمثلاً: معسكر حلوان كان لخريجي المدارس الثانوية المقبلين على الجامعة، نعدهم لدخولها، وكان عددهم 500 طالب على مستوى القطر المصري، وكانوا من (الإخوان)، وظلوا معنا أسبوعين، عرفوا فيها كيف يتعايشون مع جو الجامعة.

* نرى أن حديثكم هذا عن فترة كانت العلاقة فيها بين السلطة و(الإخوان) إلى حد كبير كانت هادئة؛ فما تعليقكم؟

 

** في الحقيقة، إن الحكومة في هذا الوقت لم تكن تتدخل بأي حال من الأحوال ضد أي نشاط في الجامعة، ولا في الهيئات أو الأحزاب، وكانت الحرية مطلقة، والسلطة كانت تطلق من يتحدث بكامل حريته، حتى المؤتمرات كانت تقام دون اعتراض من السلطة وقتها، ولم يكن الحال على هذه الصورة السقيمة التي نراها الآن على الساحة العربية، ولم نر هذا إلا يوم أن سيطر الحزب الواحد بداية من عهد الاشتراكية، وقد أثر هذا على الحياة السياسية في مصر.

ففي الماضي كانت الجامعة المصرية فيها حرية ممتازة، والحرم الجامعي لم يجرؤ أحد على انتهاكه، وكانت له قدسية لا ينال منها أحد، وكان الطلاب على قدر كبير من الحرية، وحياتهم في كل الجوانب كانت تتسم بحرية التعبير وبصورة راقية. 

 وأذكر بعد دخولي كلية الحقوق في جامعة (إبراهيم) (عين شمس الآن)، وكنت حاصلاً وقتها على بكالوريوس التربية الرياضية، أقمنا معسكرات الجامعة للتدريب على السلاح والذخيرة الحية لمحاربة الإنجليز في القناة، ولم نأخذ إذنًا من أحد، وساندنا الأساتذة وعمداء الكليات، كان منهم: أ. "عثمان خليل" عميد الحقوق، و"مرعي كامل" عميد الهندسة، والأستاذ "كمال حلمي" أستاذ الكيمياء بإحدى المدارس، وكنا نتدرب في معامل الجامعة على صناعة المتفجرات، وكان وقتها "محمد كامل حسين" مدير الجامعة.

انظر للفارق بين الأمس واليوم، فبالأمس صنعت المتفجرات لمحاربة الاستعمار في الجامعة، وبعلم منها، وهذا المدير نفسه دعاني يومًا لعمل معسكر تدريب للحرب في القناة، وكان ردي عليه يومها بأننا خارجون على القانون، وهو رجل موظف؛ فماذا قال لي؟ قال لي: شرف عظيم يا بني أن أشارككم جهادكم، وكان معي الأخ "حسن دوح"- رحمه الله- الذي صحبني، ونعم الرجل والسند.

* هل ترون أن هذه الصورة بين الطلاب وأعضاء هيئة التدريس هي الصورة المثالية؟

** أقول: إن هذه هي الصورة الطبيعية، والتي يجب أن تكون في العلاقة بين التلميذ وأستاذه، أساسها الأبوة والطيبة والاحترام، وكنا- ونحن مدرسون- يحبنا الطلاب ونحبهم، ونحافظ عليهم، وعندما كنت مدرسًا بـ(مدرسة فؤاد الأول) عرفت كل تلاميذي بأسمائهم، وأحيانًا كنت أعرف الآباء والأمهات، وأقوم بزيارتهم في البيوت، وكانوا على اتصال بي تليفونيًّا يحكون مشاكل الأبناء في المدرسة وخارجها لدرجة أن بعض المدرسين ظن يومًا أن لي جواسيس بالمدرسة، ولكن الآباء- لقربي منهم ومن أبنائهم- كانوا يحكون لي هذه المشاكل.

* من المسئول في رأي سيادتكم عن غياب هذه الصورة الجميلة، والعلاقة الطيبة الطبيعية بين التلميذ وأستاذة؟ ولمصلحة من؟

** المسئول هو غياب الحرية، ويتمثل ذلك في وجود الحزب الواحد منذ أن كانت الاشتراكية والنظام الديكتاتوري والاشتراكي الذي قضى على الحريات والقيم والمبادئ، ولا تصدق أن تقدمًا سيحدث في ظل غياب الحرية، التي إذا ما غابت حل كل شر، وغاب كل خير.

* هل يمكننا أن نسمي الحرية بأنها الحياة والفريضة الغائبة؟

** نعم، هي الحياة والفريضة الغائبة.

* متى انضممت إلى حركة (الإخوان المسلمين)؟

** انتميت إلى حركة (الإخوان) في بداية الأربعينيات (1940م أو1941م)، وكنت طالبًا في المدرسة، وتعرفت عليهم في مسجد المدرسة من خلال بعض الإخوة الكرام، بعد ذلك دُعيت إلى مقر الشعبة بجوار بيتنا، وبعدها ارتبطت بجماعة (الإخوان المسلمين)، وجذبني إلى هذه الحركة والجماعة منذ كنت صغيرًا الأسلوب اللطيف والراقي الذي يتعامل به (الإخوان)، وزادني انبساطًا اهتمامهم أيضًا بالرياضة، التي كنت أحبها، وكبرت معهم حتى أصبحت مسئولاً، ومطلوبًا مني أن أحضر لقاء ومحاضرات الأستاذ "البنا"- رحمة الله عليه- وكانت تعقد كل يوم خميس، ولقاء الثلاثاء، وأحيانًا كنت لا أجد ثمن المواصلات (ستة مليمات أجرة الترماي)، فنمشي على الأقدام من (السكاكيني) حتى مقر المركز العام.

* هل تذكر لنا أول لقاء مع الأستاذ "حسن البنا"؟ وما تركه من أثر في نفسك؟

 

** أنا لا أذكر ذلك، إنما أذكر أن الإمام "البنا" كان يعرف شدة أبي وعدم السماح لأحد من إخوتي بالتأخر عن البيت بعد الساعة الثامنة، وأنا كذلك، وكان- رحمه الله- إذا تأخرت محاضرته عن الثامنة يسمح لي بالانصراف؛ حتى لا أغضب أبي، وكنا نجلس معه منذ كنا مسئولين في المدارس الثانوية، وكان قسم الطلبة وقتها يخضع للمرشد العام مباشرة؛ وذلك لأهمية هذا القسم، وهو النبض الحقيقي لحركة (الإخوان)، وكان يعرفنا جيدًا بأسمائنا، وفي نهاية كل عام تدعو كل مدرسة مدرسيها في حفل شاى بالمركز العام للإخوان المسلمين، يحضره الإمام الشهيد "حسن البنا" ومن معه من (الإخوان) الكثيرين كنوع من التعارف، وكان هذا من الأشياء الطيبة.

* أين كنتم حين اغتيل "حسن البنا"؟ وكيف تلقيتم هذا النبأ الحزين؟

** اغتيل "البنا" في 12 من فبراير 1949م، وكانت الحكومة وقتها قد قبضت علىَّ في ديسمبر 1948م، وأودعتني في معتقل (الهايكستب)، ومنه إلى معتقل (الطور)، وعرفنا فيه خبر مقتل "البنا"- رحمه الله- وكان لمقتله على نفوسنا كبير الأثر، وكان بيننا علماء وفقهاء، أذكر منهم د. "عبد العزيز كامل"، الذي بكى بكاء شديدًًا؛ فما بالك بالشباب، وكنت منهم؟!

* ماذا استفدتم من دروس فترة اعتقالكم قبل وبعد الثورة، أو في الفترة الأخيرة كذلك؟

** يا سيدي، كما تعرف أن المعتقلين كان عددهم ما يقرب من 3000، وكان حوالي 500 منهم من الطلاب، وذلك في اعتقالات سنة 48، وقد عشنا سنة في (الهايكستب)، ثم انتقلنا إلى معتقل (الطور)، وهذه الفترة الزمنية تعلمنا فيها الكثير والكثير، وتربينا.. وكان من أساتذتنا ومشايخنا المعتقلين الفضلاء فضيلة الشيخ "محمد الغزالي"، والأستاذ "محمد عبد الحميد"، والشيخ "سيد سابق"، والشيخ "الشعشاعي"، وقد أثر هؤلاء بعلمهم فينا وقدوتهم، فكان المعتقل معسكر تربية دائم، وعلى أرقى مستوى تربويًّا، وقد كتب عن هذا الشيخ "القرضاوي" في مذكراته الأخيرة، فكنا من الفجر حتى العشاء في نشاط متنوع ودائم وشامل لكل الجوانب الروحية والعقلية والبدنية، وكانت تنظم المحاضرات والدروس وحلقات الذكر وكتابات للعلماء؛ ولذلك فكل الذين تخرجوا في السجن صاروا من علماء الأمة الآن.

* هل يمكن أن تذكر لنا موقفًا مشهورًا لا تنساه، تحديدًا في هذا المعتقل؟

** نعم لما كنت في (الهايكستب)، وكنت في قمة فتوتي وشبابي، فضلاً عن كوني رياضيًّا، كان معنا في المعتقل بعض اليهود، وحين وقعت الهدنة الأولى بانتهاء الحرب في فلسطين، كانت بالنسبة للمسلمين نكبة، ولليهود فرحة كبيرة، عبروا عنها في السجن بإقامة حفلة شربوا فيها الخمر، وأثناء الحفلة كان معي عشرون شابًا مصريًّا وطنيًّا، بعضهم من أبناء الذوات والباشوات والأثرياء، عزمنا على إفساد هذا الحفل والتنكيد عليهم بعد أن لعبت الخمر برءوسهم، فأحضرنا زجاجات الكوكاكولا الفارغة، وملأناها بالرمال، وقمنا كذلك بإطفاء الأنوار في المعسكر، وقذفنا بهذه العبوات الرملية عليهم؛ ليتخبطوا كالعميان، فيصيبهم الفزع، ثم ذهبنا بسرعة إلى أسرتنا وجلسنا كأن لم يكن، وكان معنا آخر اسمه "كمال فريد" ابن اللواء "فريد حلمي" باشا ينتظر، وقد قدم لنا كوبًا من الشاي باللبن احتفالاً بنجاح المهمة، ولما جاء قائد المعسكر- وكان صعيديًّا واسمه "عبد الحفيظ"- ناداني وقال: عملتها يا "عاكف"، وكان جزائي النقل إلى معسكر (الطور)، وبالطبع كانت هذه التصرفات من تلقاء نفسي، ونابعة من شخصي واجتهادي أنا وهؤلاء الشباب، وكنا في غرفة واحدة نحن العشرين، وقد عزَّ علينا ألا نجاهد، وهؤلاء يفرحون ويسعدون بهدنتهم، فاجتهدنا في إزعاجهم رغم أنهم معنا طوال اليوم دون مشاكل.

* أستاذنا الكريم، مر عليكم خمسون عامًا في جماعة (الإخوان المسلمين)؛ فماذا لو استقبلتكم من أمركم ما استدبرتم، أو لو عادت بكم الأيام إلى الوراء؟ هل ستختارون هذا الطريق مرة أخرى؟

** أحمد الله على أن جعلنا منتمين إلى جماعة (الإخوان المسلمين)، ورغم أني في صغري لم أشعر بهذه النعمة، وكنا متحمسين للإسلام والعمل الإسلامي وللحفاظ على الأخلاق الإسلامية والقيم، وكلنا ولدنا مسلمين ولآباء مسلمين، لكن النعمة الكبرى أنني منتمٍ لهذه الجماعة، التي تحمل همَّ الدين والدعوة؛ الدِّين الشامل لكل جوانب الحياة، والدعوة، خاصة في هذا الوقت الذي تخلى كثير من الناس عن الدفاع عنه، دون (الإخوان) الذين يضحون بكل شيء من أجله، ويقدمون الكثير، والحمد لله الذي هدانا لهذا ووفقنا.

وقد بالغ أحد (الإخوان) مرة فقال: لو أن "البنا" بعث مرة ثانية- وهذا مستحيل- وحاول أن يشككني في هذا الطريق ما صدقته، وسأظل متشبثًا به ولن أعدل عنه، وهذا على عكس مفهوم بعض الشباب الذين يرون أن فكر (الإخوان) ودعوتهم ورسائل "البنا" شيء قديم.. أما شعوري أنا، فكلما قرأت في رسائل الإمام "البنا" وجدت أنها روح جديدة تسري في دماء هذه الأمة؛ لتنهض بها من غفوتها، وتجدد لها الدماء، وما زال هذا الإحساس يتجدد رغم الشيبة وخبرة الزمان وتجارب الحياة وسعة الثقافة وكثرة الترحال والأسفار، وقد شاركني هذا المعني أحد الدكاترة والعلماء العرب، واسمه "عثمان" من لبنان؛ حيث قال: كلما عدت إلى رسائل الإمام "البنا" وقرأتها، وجدت نفسي تلميذًا أمام عالم كبير يتعلم منه، وكنت أعلم أن واحدًا ممن يخالفون شعوري وعاطفتي تجاه فكر (الإخوان) يجلس في حضرة أستاذه اللبناني، وما لبث إلا أن غير رأيه وتعاطف مع أستاذه، الذي يحبه ويتأثر به، والله الهادي إلى سواء السبيل.

* الأستاذ "عاكف"، أما وقد صاحبت- خلال رحلتك الطويلة- جميع مرشدي (الإخوان)؛ من "البنا" حتى الأستاذ "مصطفى مشهور"- المرشد العام الخامس للإخوان- فنرجو أن تحدد لنا انطباعك عن كل واحد منهم على حدة، مع توضيح ما تعلمته منه أيضًا؟

** لقد تعلمت من هؤلاء الرجال الكثير والكثير، ولا يتسع المقام للحديث عن هذا؛ ولذلك انطباعي عن "البنا" أنه رجل واسع الأفق والمعرفة، وكان له قلب يسع الناس جميعًا، حتى خصومه، وانطباعي عن "الهضيبي" أنه كان رجلاً ربانيًّا ملتزمًا، وحارسًا للحق، ولا يخاف في الحق لومة لائم، وتعلمت منه، وأثَّرَت في نفسي بعض مقولاته، ومنها ما قاله لي: "يا عاكف، من أراد الجنة فلا يرى لنفسه حقًّا على أحد"، فغرس في نفسي معنًى جميلاً؛ وهو أن تكون حياتنا كلها لله، وعلمني أيضًا كلمة صائبة حكيمة؛ وهي: "لا ينقص من قدرك أن يهاجمك أحد من الناس، ويتهمك بالباطل، ولكن الذي ينتقص من قدرك هو تصرفك أنت"، و"لو أدرك الناس هذه الحكمة، ما كثر لغطهم، وهذه مصيبة العصر، والمرض العضال المنتشر بين المسلمين"، ثم قال: "نحن مع الله، ومع دعوة الله، ومع الحق، ونسأله دائمًا أن نكون حيث أمرنا".

* لكن ماذا عن علاقة حضرتك بالأستاذ "عمر التلمساني"؟

 

** هذه علاقة وثيقة بدأت منذ الأربعينيات، وكان لي الأب والأخ والحبيب، رغم أني كنت أختلف معه، ولم يُفسد ذلك الاختلافُ الودَّ الذي بيننا، بل كان قدرُه عندي كبيرًا والعلاقة وثيقةٌ، وكنت معجبًا به.

* وفي أي شيء اختلفت معه؟

** كان الأستاذ عمر يرى أن الشورى معلِّمة وليست ملزِمة، من الوجهة الفقهية، وهذا رأي فقهي بالطبع، وكنت أرى الرأي الفقهي الآخر بأنها ملزمة؛ ولأنه عاش حياةً فيها السموُّ والرقيُّ والعظمةُ، وأنا عشتُ في المصاعب والمشاكل العصرية التي لازمَت الدعوةَ فكنتُ أصرُّ على أنها مُلزِمة، وكنت أختلف أيضًا مع الدكتور "خميس"، وفي الحقيقة أن "التلمساني" كانت له مواقف خالدة، فضلاً عن الطيبة والأدب والحياء، وكان رجل المواقف الصعبة ولا مثيل له في ذلك.

ومن تلك المواقف التي أذكرها: لما كنا في سجن (المحاريق) وكان لنا إخوة في سجن (ليمان طرة)، وعلمنا أن الحكومة قتلت منهم 22 رجلاً في الزنازين، وأرادوا أن يُعيدوا الكرة معنا في سجن (المحاريق)، فأرسلوا لنا ضابطًا اسمه "إسماعيل همت"؛ ليكرر المأساة من أجل تأييد "عبد الناصر"، ومن جبروت هذا الرجل الضابط أن جمَعَنا أنا والأساتذة "التلمساني" و"صلاح شادي" و"العدوي" و"صالح أبو رفيق" في غرفةٍ أو صالةٍ كبيرةٍ، ووجَّه إلينا مدفعًا وخيَّرنا هذا الضابط بين تأييد "عبد الناصر" أو القتل.

وكان موقفًا صعبًا برز فيه ثبات وصمود ورجولة (الإخوان) في الشدائد، فماذا كان رد فعل الأستاذ "عمر التلمساني"- رحمه الله- بالذات- ومن معه؟؟ قال: شُلَّت يدي إن أيدت "عبد الناصر"، وافعل ما بدا لك، فتخاذل الضابط وتراجع، رغم أنك كنت ترى الأستاذ "عمر" في ظاهره هينًا لينًا، لكنه في الحق قويٌّ مثل "الفولاذ".

وفي مرة طلب مني الأستاذ "عمر" أن أذهب إلى (ميونخ)، وكنت أعرف الحياة والأوضاع هناك، وكان السوريون يعملون هناك، ورفضت بداخلي- لكنَّ جنديتي أبَت العصيان- وذهبت متفائلاً بدعائه لي بالتوفيق، وكان الفتح والبركة العظيمة والنجاح للدعوة هناك.

* ما رأيكم أو انطباعكم عن شخصية الأستاذ "حامد أبو النصر"؟

 

** كان الأستاذ "حامد أبو النصر" رجلاً دمث الأخلاق، وعلى مستوىً عالٍ من الالتزام برأي (الإخوان)، ولا ينفرد وحده برأي، رغم كِبر سنه ووضعه كمرشد.

* وهل للمرشد أن ينفردَ برأي دون آخر؟

** نعم.. اللائحة تعطيه هذا في بعض الأحيان.

* حتى وإن كان مخالفًا لرأي المجموع؟

** لو عُرض الموضوع على المجموع ورأوا شيئًا فهو ملتزم بتنفيذه، لكن على المجموع أن يحترم رأيه، خاصةً إن كان مهمًا.

* هل كان سفركم لمدة طويلة إلى السعودية وألمانيا- بعد فترة الاعتقال والسجن- بمثابة تفريج وترويح عن هذه الفترة؟

** لا ياسيدي، في الحقيقة لقد عشنا في السجون عشرين سنة، وأتذكر مقولةً للأستاذ "مصطفى مشهور" آنذاك: "اعمل لسجنِكَ كأنك تعيش فيه أبدًا، واعمل لإفراجِك كأنك تخرج غدًا".. فلم نضيِّع دقيقةً واحدةً، وكنا في السجن نقرأُ الجرائد والمجلات، ونمارِس كل أنواع الرياضة، ونقيمُ الحفلات في المناسبات وفيها المسرحيات والتمثيل، وأذكر "تمثيلية" بعنوان (انزل يا باشا)، وكانت على أعلى مستوى، وألَّفها الأستاذ "عبد الرحمن البنداري"، وقد أعجب بها مدير السجن والمحافظ- وكان حاضرًا وقتها- وتعجَّبوا من هذا النشاط والقدرات التي يتمتع بها (الإخوان).

 

والسجن في هذه الفترة كان أهون من السجن في أيام عبد الناصر؛ لأن أيام "عبدالناصر" كنا نكسر الحجارة، والحديد في أرجلنا، أما الأيام الأخيرة فكنا نعرف أخبار العالم من خلال الراديو، وبالتالي فلم تكن رحلتي وسفري للترفيه والترويح، وإنما كانت رسالة نؤديها لله تعالى.

* نرجو إلقاء الضوء على مدة سفركم للخارج، خاصةً بعد انقطاعكم عن العالم بالسجن...

** في الحقيقة بعد خروجي من السجن لم أشعُر بغربة بين الناس؛ لأني- كما قلت- لم تنقطع معرفتي- ومن معي- عما يدور حولنا من أخبار، وكنا نعيش الأحداث، ولمَّا خرجت من السجن توليت وظيفةَ (مدير عام الشباب) بوزارة التربية والتعليم، وجعلتني هذه الوظيفة ملمًّا بالأحداث والواقع؛ ولذا لما خرجت وسافرت وعملت بالندوة العالمية للشباب الإسلامي كنت موفَّقًا من الله، فأقمت أكبر معسكرات للشباب، شاهدها العالم الإسلامي.

وكانوا يظنون أني خارجٌ من السجن، وتصوراتي ومعرفتي للأحوال ليست على المستوى المطلوب، لكن انبهروا بالتنظيم، وحسن الإدارة، والهمة العالية، وسعة الثقافة التي تعلمتها من (الإخوان) ومعاشرتهم، وهذا من دأبهم وسماتهم في أي مجال بالطبع، وماليزيا وبنجلاديش واستراليا ومالي وغرب إفريقيا الإسلامي.. أقمنا فيها أكبر معسكر إسلامي ضخم للشباب سنة 80، وكل هذا بتوفيق الله وفضله، نحمد الله.

* الأستاذ "عاكف": علل بعض الشباب سفر بعض دعاة (الإخوان) عقب الخروج من المعتقلات أن وراء ذلك الحاجة إلى المال، وتحسين الأوضاع الاقتصادية؛ مما تسبب في فراغٍ ونقصٍ هائلٍ في الدعاة والمربين عند (الإخوان) آنذاك.. فما رأيك في ذلك؟.

** هذا غير صحيح بالمرة؛ بدليل أني لما خرجت من السجن جاءتني عروض كثيرة جدًا من دول الخليج للعمل بها، خاصةً من جامعة الكويت وجامعة قطر وجامعة محمد بن سعود، والملك عبد العزيز، ورفضت كل ذلك وقلت: كفاني غربة في السجن20 عامًا، ولكن خرجت عند التضييق علىَّ من وزير التعليم وقرارِه بنقلي من الإسماعيلية إلى القاهرة، وكنت مستقرًا ولي بيت... إلخ. وخرجت وقتها رئيسًا لبعثة التعليم إلى الحج عام 1976م، وعرض عليَّ العملُ في الندوة العالمية للشباب الإسلامي بالسعودية، وهذه ثغرة وجدتُ نفسي سأجيد فيها، وكان هذا العمل العالمي يراود خيالي، وكنت أحلم به وأنا في السجن؛ لأن الشباب كان وقتها متعطشًا للإسلام، وأنا أحب الشباب بطبيعتي، وقد من الله عليَّ بحفظ القرآن في السجن، وكان عندي خطة ومنهج تصورته وأنا بالسجن نجم عن العطاء الذي تعلمته فترة سجني من العلماء والشيوخ، فضلاً عن زواجي وخلافي مع الوزير.

وحقق الله أملي ووفقني بعمل كل هذه المعسكرات وفي كل القارات، وأذكر موقفًا أعتز به وأنا في تركيا- عند افتتاح المعسكر الإسلامي بها- حيث كان الوزير التركي حاضرًا، وأعدوا في البرنامج فقرةً للرقص المخالف للدين في مجتمع الشباب، وكان هذا شيئًا عاديًا هناك، وقلت وقتها لسيادة الوزير كيف- ونحن نمثل أكبر هيئة إسلامية عالمية- نقدم هذا الغث للشباب؟؟ فأجابني بقوله: لا تنس أننا دولة علمانية، فقلت له: لكني جئت لأعمل مع الشباب المسلم في تركيا، فاقتنع بالفكرة، وشعرتُ بسعادة بالغة، حيث أديت دوري، ونهيت عن منكر، وأُلغيَت هذه الفقرة من البرنامج بأمر الوزير بعد إقناعه، وهذه بركة الحركة.

* هل وجدتم أثناء عملكم في حقل الدعوة بالخارج صعوباتٍ ومشكلاتٍ؟

** نعم.. صعوبات ومشكلات كثيرة، لكن بالصبر وسعة الصدر والرفق والمنطق السليم وإحسان القول كنا نتغلب عليها، وقد واجهنا بعض المشكلات، خاصةً من الإخوة السوريين، وكذلك في أمريكا، حيث إنك تجد في هذه البلدان كل الاتجاهات والاختلافات في المشارب والبيئات والظروف المحيطة بالدعوة في كل قطر، خاصةً من الناحية الأمنية، لكن بالتنسيق والتنظيم كنا نتغلب على هذه المشكلات، وكان مبدأي الإعلان عن هويتي وفكري دون مواربة، وكنت أدعو إخواني إلى ذلك أيضًا، وظللت مدة سبع أو ثماني سنوات أقنع الناس في أمريكا بذلك، حتى أعلنوا عن"MAS" يعني (MuslimeAmirecan) بحمد الله.

وقد أختلف مع الذين يرون أن الإعلان عن الهوية والعمل مع (الإخوان)، والانتماء لفكرهم مشكلةٌ، وهذا رأيي، وقد عشت موقفًا وأنا في لندن مع (الإخوان) العراقيين، عبَّرت فيه عن هذا الرأي عمليًا، حيث كانوا يصدرون جريدةً في لندن، دون ذكر أسمائهم أو الجامعة، وجاء واحد من البوليس وأخبرهم بأنه يعلم بأن محرري الجريدة من العراقيين، وكنت معهم، واقترحت عليهم أن يُكتبَ اسمي بالكامل، وطبيعتي وإيماني بفكرتي تجعلني دائمًا أُعلن عن هويتي واتجاهي دون مواربة، وأجِد مقابل ذلك الاحترامَ والتقديرَ؛ لعلمي أن الآخر يعلم بداخله أني على الحق، خاصةً إذا تعاملتُ معه بأسلوبٍ راقٍ وبخُلُق كريم، لكنَّ علينا أن نَعذر بعضَ المنوطِ بهم الأعمال الأمنية؛ وذلك لأنه مأمور من سيده، وقد يفعل شيئًا غيرَ مقتنع به.

* الأستاذ "محمد مهدي عاكف": عرفنا عنكم بعض المواقف الشجاعة التي كانت من الممكن أن تسبب لكم ما لا يُحمد عقباه، فهلا ذكرت لنا موقفًا منها؟ 

 

** في رأيي أن ما يعتبره الناس شجاعةً أراه واجبًا وموقفًا حتميًّا تفرضه الظروف، ويفرضه الواقع وسرعة اتخاذ القرار دون تردد، خاصةً إذا كنتَ على الحق وتودُّ نصرةَ مظلومٍ، ومن أمثلة هذه المواقف أن الأستاذ "الهضيبي"- رحمه الله- كان قادمًا من سورية إلى مطار (ألماظة) بالقاهرة، وكان وقتها الخلاف بين "عبد الناصر" و(الإخوان) في غاية ذروته، وخشي (الإخوان) على "الهضيبي" من رجال "عبد الناصر"، وكانت التعليمات بألا يذهب أحد من (الإخوان) إلى المطار؛ مخافة الاحتكاك والتلاحم مع البوليس.

 واختاروني لهذه المهمة وقالوا: لا يذهب لإحضار الأستاذ من المطار سوى "عاكف"، وذهبت للمطار فوجدتُ مجموعةً كبيرةً من (الإخوان) عكس ما توقعت، ودخلنا المطار، ومعنا خمس أو ست سيارات لحماية المرشد، وكان عندنا أخبار توحي بالاعتداء عليه، وكان معنا سيارة مسلحة، وكان معي مسدسان، وصدرتْ أوامرُ المسئول بأن يَخرج المرشد فقط- ويحتجزوا بقية الناس- فقلت بأعلى صوتي: سيخرج كل الناس، وآخر سيارة خروجًا سيارة المرشد، وجاء حكمدار القاهرة، وجاء "أحمد صالح" من البوليس السري، وأعطيتهم مهلة خمس دقائق فقط، وإلا سيحدث ما لا يحمد عقباه، إذا لم يخرج كل الناس سالمين.

وبعد ثلاث دقائق كانت الأعصاب فيها متوترة، وكان معي الدكتور "خميس"- الذي كان خائفًا فأمرته بالركوب فنفذ الأمر، حتى إنه كان يعلق بعد ذلك على الموقف مازحًا يسألني: هل تعرف لماذا حُكِم علىَّ بالإعدام؟ ثم يجيب من يوم حادث المطار وبسببك أنت.

* أستاذ "عاكف" حدثنا عن تجربة (الإخوان) في مجلس الشعب المصري، وكنت واحدًا منهم، والدروس المستفادة منها؟

** في الحقيقة كانت تجربة (الإخوان) في برلمان ودورة 1987م تجربةً ثريةً بالخبرات والعمل السياسي ودخول العمل السياسي من بابه، وكان لـ(الإخوان) في هذه الدورة حضورٌ ملموسٌ وسمتٌ خاصٌ، من حيث الالتزام باللوائح والقوانين البرلمانية، وسعة الأفق، والالتزام بالسمت الإسلامي الراقي، واحترام الرأي الآخر وقبوله، وكانت الحكومة تقدِّر وتثمِّن آراءنا، وكان "المحجوب"- رئيس المجلس- في الحقيقة رجلاً مؤدبًا معنا، خاصةً أن (الإخوان) كانوا دائمًا يتكلمون في المصالح العامة ومراقبة الحكومة كهدف أساسي للمجلس، وكذلك مراقبة ومناقشة القوانين والميزانية... إلخ، وكان للأستاذ "مأمون الهضيبي" دور فعَّال في ذلك، ولم يشغل عضوٌ من (الإخوان) نفسَه بمصالحه الشخصية؛ مما أضفى عليهم احترامًا خاصًا، وأنا شخصيًا استفدت كثيرًا في مجال السياسة، وكيف تصنع الأحداث من المنبع..

* ما رأيكم فيما يتم من اعتقالات واتهامات لشباب (الإخوان)؛ بحجة حيازة بعض الكتب الفكرية، والانتماء للجماعة، وأحيانًا بإقامة الخلافة الإسلامية؟

** والله أنا أتعجب من هذه الاتهامات، وأتعجب من محاكمة فكر (الإخوان) من الحكومة ورجال الأمن والمحاكمات العسكرية، رغم أن هذا الفكر (الإخواني) يحمل في طياته كل مقومات السعادة والإنسانية واحترام الآخر!!

وأرى أن هذا الانتماء لهذا الفكر شرف ما بعده شرف، والترويج له يستحق التكريم، وهم يعلمون ذلك جيدًا، ويعلمون أن جماعة (الإخوان) من أكثر الفئات محافظةً واحترامًا للقوانين والدستور، وما يلاقيه الشباب من تعسف وظلم واضطهاد هو في ميزان حسناتهم والله ناصرهم بإذن الله، وإن لم ينصر الله هذا الدين على أيدينا فسينصره على يد غيرنا.

ومن أعجب العجب أنَّ تهمتي التي حوكمتُ بسببها سنة 1996م هي أني أريد أن أنشر الإسلام في العالم، فهذه تهمة عندهم، وقلت لهم: ليتني أحوز هذا الشرف، وأقيم الدعوة الإسلامية العالمية وأنشرها في كل البقاع، ويغيب عنهم أن الله ناصر دينه، وأن دعوتنا منتشرةٌ بالفعل في كل العالم، ولن يطفئ اللهُ نورَها أبدًا مادامت على الحق، وهاهي ثمارها في تركيا وماليزيا وغيرها من الأقطار.

* الأستاذ "عاكف": بعد رحلة طويلة على طريق الدعوة، والعمل مع الشباب والطلاب، ولكم باع طويل في هذا... نود أن تقدم للشباب نصيحةً موجزةً؟

** نصيحتي للشباب هي قوله الله تعالى:﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (هود: 112)، وأقول لهم: لا تسمعوا للمُرجِفين والمغرضين، ولا تشغلوا أنفسكم إلا بما فيه نفعُكم، وتحابُّوا، وليعذر بعضكم بعضًا، وترفَّقوا في النصح، وتخلَّقوا بأخلاق القرآن ورحمة الله، واصبروا على البلاء.

* الأستاذ عاكف، بعد هذا الحوار والتساؤلات والقضايا التي تناقشنا فيها.. هل ترى سيادتك أن هناك سؤالاً أو قضيةً كان ينبغي أن نطرحها وفاتنا ذلك؟

** والله كنت أود أن أضيف أو أتحدث في أمر ملحٍّ ومهم، وهو (أمانة الكلمة)، التي غابت عند بعض الناس من الكُتاب ورجال الإعلام في عصرنا، وخاصةً الذين أصبحوا أبواقًا للإجرام والسياسة الأمريكية، التي تقف ضد القيم والمبادئ الأخلاقية والإنسانية، وهذه تحتاج إلى وقفة طويلة، وتوضيح وبيان أكثر، وندعو كل هؤلاء أن يقفوا مع الحق، ويعرفوا (أمانة الكلمة) ومسئوليتها أمام الله، وأنهم محاسبون عليها، وعليهم أن يذكروا الآخرة والحساب والجنة والنار ونذكرهم بذلك.

وختامًا... نشكر أستاذنا على هذا الحوار الثريّ، والرؤى الواضحة، ومعًا يتجدد اللقاء... وجزاكم الله خير الجزاء.