كنا ثلاثة، ودار الحوار حول ما يتعرض له الإخوة والأخوات من أذى، بعد الانقلاب الدموي، من الجميع، حتى الأقارب والزملاء والجيران - إلا من رحم ربي، فقال أولنا: إن هذا أمر زاد عن الحد، ولا حل سوى مقابلة الأذى بالأذى والسب بالسب، فاستدرك الثاني: إن هذا سلوك لا تعرفه دعوتنا، ولا يقره الدين، وما الفرق إذًا بينك أيها الداعية وبين عامة الناس من الجهال الذين لا يفقهون أمور دينهم؟!، وضرب هذا الأخ الفاضل - وهو من البارزين إعلاميًا- مثلا قال: حدث في رمضان الماضي، في إحدى المناطق الشعبية، أن أذن المغرب وأبناء هذا الحي من الفقراء والبسطاء كبار السن يقفون في طابور لا آخر له يصرفون مقرراتهم التموينية، وقد بلغ بهم التعب منتهاه حتى أغشى على عدد كبير منهم - يستطرد الأخ: والله ما استطعنا أن نقف مكتوفي الأيدي، مع العلم أن من بين هؤلاء من حاربنا بكل ما أوتي، ومنهم من رقص أمام اللجان الانتخابية دعمًا للقاتل السفاح.. إنما قمنا -أنا وعدد من الإخوة- بإمداد هؤلاء بالماء والطعام والدواء، وظللنا في خدمتهم ليلتنا تلك حتى انفض طابورهم..

قال الأول: هذه (دروشة!!) هؤلاء الناس يعتبروننا (سذج!!) يأكلون خيرنا، ثم لا يتورعون عن حربنا ورفع سيوفهم علينا إذا وجدوا في ذلك مصلحتهم. واستطرد: وعلى المسلم الحق ألا يلدغ من جحر مرتين، كفاكم (طيبة زائدة) يحسبها هؤلاء (خيبة وغباء).. لقد تعرضنا -ومازلنا- لتضييق وملاحقات لذنب لم نقترفه من أناس مددنا إليهم أيدينا بالعطاء، فمدوا إلينا ألسنتهم وأيديهم بالفحش والإيذاء.

قلت للأول: أما أنت فلم تع بعد معاني العفو والتسامح في الإسلام، ولم تفقه سير الأنبياء والدعاة مع أقوامهم، وتابعت: إن ما تقوله لا يرقى إلى فكر الداعية، بل هو تفكير حزبيين غاياتهم تبرر وسائلهم، عكس الدعاة الذين يلزمهم صبر وثبات وتضحيات، وعدل وعفو وكظم غيظ رغم ما ينالهم من أذى وما يقع عليهم من بطش ونكال..

واستطردت: يفهم بعض الإخوة -خطأ- معنى العفو عن المدعوين، إذ يعتبرونه انبطاحًا ومذلة، وهذا مخالف لما يجب أن يكون عليه الدعاة، الذين لا ينازعون المدعوين جاهًا ولا سلطانًا، وإنما يدعونهم إلى الدين والنجاة، فإن أخلصوا في دعوتهم وتحملوا من أجلها فقد وفقوا وهدوا وفازوا بالحسنى، وإن امتنعوا ولم يصبروا زاغوا وخسروا كل شيء.

لقد ترجم الإمام البنا -رحمه الله- ما جاء في الكتاب والسنة بخصوص هذا الأمر في جملة بليغة، أراها عنوان الداعية ورمزًا لمن يريدون الخير لأبناء أوطانهم، يقول: «كونوا كالشجر يرمى بالحجر فيعطى أطيب الثمر».. وهذا ترجمة لقول الله تعالى على لسان أنبيائه -عليهم السلام: "وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ" [إبراهيم: 12]؛ ردًا على إخراج أقوامهم لهم من أوطانهم حيث قالوا: "لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ" [إبراهيم: 13].

إن هذه معادلة كونية لا تتبدل: حيثما يكون هناك دعاة يكون هناك تكذيب وتضييق وإيذاء، لكن العاقبة للمتقين الصادقين الصابرين: "وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ" [الأنعام: 34].. وهناك ضريبة -تدفع مقدمًا- هي حق على كل داعية ثمنًا للجنة التي يسعى لها، وهذه الضريبة بالأفعال وليست بالأقوال "أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ" [البقرة: 214].

قد يستهجن البعض منا هذه المعادلة، فلا عجب فقد استهجنها بعض الأنبياء في بداية رسالاتهم؛ إذ كيف يقدمون الهدى والرشاد فيقابلون بالعتو والإجرام، لكنه قدر الله في أنبيائه ودعاته؛ ليعلم الصادق من الكاذب ومن يستحق شرف الرسالة للدعوة ومن لا يستحق ذلك.. يقول الله تعالى على لسان مؤمن آل فرعون: "مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ" [غافر: 41].. حتى يقول: "فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ" [غافر: 44]، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء الوحي فزع وذهب -بصحبة خديجة- إلى ورقة بن نوفل فقال له ورقة: «ليتنى أكون حيًا حين يخرجك قومك، فاستغرب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أومخرجى هم؟! قال ورقة: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا أوذى».

ولا يحسبن أحد أن غفراننا لأبناء قومنا وتجاوزنا عن الجاهلين منهم يعنى القبول بالإهانة والركون إلي الظالمين وتلقى صفعاتهم، أبدًا إنما يكون العفو عن أناس نحسب أن من ورائهم خيرًا للدعوة وكسبًا للدين، أما ما نقدمه من خفض للجناح فهو حسبة لله، يقول الله تعالى: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" [آل عمران: 159]، ويقول صلى الله عليه وسلم: «ليس أحب إلى الله من جرعة غيظ كظمها العبد لوجه الله». ويقول صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» [مسلم].

إن مما وعينا من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم -وهو الحريص على قومه الطامع في هدايتهم- أنه لاقى ما لم يلقه أحدٌ من أذى- وهو النبي المرسل الذي يوحى إليه- ورغم ذلك لم يقابل هذا الأذى بمثله، ولم يعتد ولم ينقم، بل زاده هذا النكال إصرارًا على العفو والحلم، والإحسان إلى من كادوه ومكروا به..

في يوم ذهابه إلى الطائف تعرض لأشد أنواع الأذى كما علمنا، فلما نزل عليه جبريل بأمر من ربه عرض عليه تكليف ملك الجبال بإهلاك من آذوه وعنتوه، غير أنه رفض ذلك، مؤملا أن يخرج الله من أصلاب هؤلاء المشركين البؤساء من يعبد الله لا يشرك به شيئًا- وقد كان.

أما يوم فتح مكة، فكان يومًا مشهودًا؛ إذ دان له أهل هذه البلدة أجمعين، وكانت لديه القوة والسلاح ما يهدر به دم من يريد ممن أخرجوه من قبل وآذوه في أهله وأصحابه، إلا أنه اعتبر هذا اليوم -رغم هذا الجو المشحون- يوم مرحمة، فقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء، لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين.