محمد- مصر

أنا نادمٌ على ذنوبي وأريد أن أكفِّرَ عنها، ونفسي أصلي، ماذا أفعل؟

 

المفتي: الدكتور عبد الرحمن عويس (الأستاذ بجامعة الأزهر):-

وما الذي يمنعك من التوبةِ والعودة إلى الله تعالى، إنَّ من فضل الله تعالى على عباده ومن رحمته بهم أنه لم يغلق في وجوههم بابَ التوبة؛ بل فتح أمامهم هذا البابَ على مصراعيه، فهو يبسط يدَه بالليل ليتوبَ مسيءُ النهار، ويبسط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيءُ الليل، حتى تشرقَ الشمس من مغربها.

 

وإذا كان التكوين الخلقي للإنسان قابلًا للمعصية فهذا من تكوينه ومن تركيبته التي خلقه الله عليها، فإن من شأن المسلم ألا ينساقَ وراءَ معاصيه أو يندفعَ وراء نزواته وشهواته؛ بل لا تصدر منه المعصية إلا في ساعة غفلة وفي لحظة تمكَّن فيها داعي الشهوة من قلبه، وسيطر على عقله وكيانه، فاندفع في طريق المعصية، فاقترفها، ولكنه بعد أن فعلَ ما فعل لم يفتخرْ بما صنعه، ولم يتباهَ بما اقترفه وارتكبه، بل تراه كئيبًا حزينًا على معاصيه وآثامِه، نادمًا على فعله، متحسرًا على معاصيه، يحاول جاهدًا ما استطاع أن يتخلص من ذنبه، وأن يتوبَ من معصيته، وفي أمثال هؤلاء يقول الحق سبحانه:

﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)﴾ (آل عمران).

 

إنهم لا يصرُّون على المعصيةِ، ولا يتعمَّدون اقترافَ الذنب، وإنما لو بدرت منهم المعصية سارعوا بالتوبةِ والإنابةِ والرجوع إلى الله تعالى.

 

ونرى أيضًا أنَّ الحقَّ سبحانه يطالب عبادَه المسرفين على أنفسهِم أن يبادروا بالتوبةِ والرجوعِ إليه سبحانه، حيث يقول في محكم كتابه:

﴿قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)﴾ (الزمر).

 

من هنا فإنَّ على المسلم العاصي أن يبادرَ إلى ربِّه بالتوبةِ والرجوع إليه سبحانه، ولكن حتى تكونَ التوبة توبةً صحيحةً مقبولةً لا بدَّ لها من عددٍ من الشروط حتى تكونَ توبةً صحيحة:

 

1- الإقلاع عن الذنب، والبعد عن المعصية، ومفارقة مواطن الإثم والفجور، فلا يُعقل بحال من الأحوال لمن هو قائمٌ على الذنب مصرٌّ على المعصية.. لا يُعقل لمثل هذا توبة، وإنما لا بدَّ له من أن ينخلعَ انخلاعًا تامًّا عن المعصية، وأن يبتعدَ عن رفقةِ السوء وأصدقاء السوء الذين يشجعونه على المعصية ويجرونه إليها.

 

2- الندم على ما بدر منه وما فعله من قبلُ من المعاصي والآثام، يندم ويعضُّ أصابعَ الندم لأسبابٍ كثيرة:

 

- يندم لأنه قد عصى ربَّه الذي خلقه ورزقه وأنعم عليه نعمًا لا تُحصى ولا تُعد، وكان ينبغي عليه أن يقابلَ نعمةَ ربه بالشكر والحمد والطاعة، ولكنه قابلها بالمعصية والجحود ونكران الجميل.

 

- يندم لأنه حينما ارتكب المعصيةَ ظنَّ أنه لا يراه أحد، مع أن ربَّه كان ناظرًا إليه، ومطلعًا على أمرِه كلِّه، بل هو أقرب إليه من حبل الوريد.

 

- يندم على عمره الذي ضاع منه وعلى شبابه الذي ولَّى، وهو رأس مال حياته الذي فرَّط فيه وخسره في ميادين المعاصي والفجور، وإن ربه سائله يوم القيامة عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، فماذا هو قائلٌ لربه يوم القيامة حينما يسأله عما فعله في حياته.

 

3- العزم على عدم العود إلى المعصية بعد ذلك أبدًا مهما تحمَّل في سبيل ذلك من متاعبَ وآلام ومشاق، وإن التائبَ قد يجد من المشقة والألم عند تركه للمعصية ما لا يمكنه تحمله كمدمن المخدرات مثلاً لو أراد أن يتركها، فقد لا يمكنه ذلك نتيجة لشدة الألم الذي يشعر به مما يسبب له انتكاسةً فظيعة، فكذلك التائب عن الذنب يشعر بلوعةٍ في نفسه وحرقةٍ في قلبه نتيجة لبعده عن ملذاته وشهواته الحرام، فلا بد له من تحمُّل مثل هذا الألم حتى يمكنه أن يتخلَّص من أسرِ المعصية وسيطرتِها على نفسه وقلبِه وكيانِه وبدنه.

 

4- رد المظالم إلى أصحابها، فلو أن هناك مظلمة لأحد من الناس في مالٍ أو عِرض أو غيره فينبغي أن تُردَّ هذه المظالم لأصحابها؛ حتى يقبلَ الله التوبةَ من صاحبها، وإلا يأتي صاحبها يوم القيامة وهو من المفلسين كما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي، من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أُخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طُرح في النار" (رواه مسلم).

 

5- أن تكون التوبة قبل الغرغرة، وقبل أن يشرفَ العبد على الموت، ويكون على أبواب الدار الآخرة، فلو أنه أخَّرها وأجَّلها حتى هذه اللحظة فلا تُقبل، حيث يقول الحق سبحانه:
﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)﴾ (النساء).

 

فهذه شروط التوبة المقبولة، وينبغي على العبد المسلم أن يبادرَ إلى ربه بتوبةٍ نصوح، حتى لا يكونَ من الهالكين، وربُّه يدعوه إلى ذلك، حيث يقول سبحانه:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(8)﴾ (التحريم).

 

فيبادر العبد المذنب إلى التوبةِ، وينخلع عن المعصية، ويترك صحبة السوء وقرناء المعصية، ويهجر مواطن الإثم والفجور كالملاهي والبارات والخمارات..، ويبحث له عن صحبةٍ صالحةٍ تعينه على طاعةِ الله وعبادته، ويحرص على أن يرتادَ المساجدَ ومجالسَ العلم والذكر، فهذا مما يعينه على كمالِ توبته، ويساعده على رجوعِه الكامل إلى الله تعالى.