" الحب مرض في الدماغ !" 
مقولة مشهورة عن ابن حزم الظاهري الأندلسي تصف الحب بمعنى العشق ، ويمكن القياس عليها حين نستبدل الشهرة بالحب ، فالشهرة عذاب قاتل لمن تتمكن منه ، وخاصة في المجالات الفنية والأدبية والإعلامية ، حيث يشعر الشخص بأن وجوده الدائم في دائرة الضوء ، وتكرار اسمه ، مسألة ضرورية له تشبع روحه المتعطشة للتحليق حول الآذان والأسماع ، وأمام العيون والأبصار .  
وقد ذكّرني بذلك الكاتب يوسف زيدان ، المسئول السابق بمكتبة الإسكندرية ، حيث  أعلن في مباغتة تثير كثيرا من علامات الاستفهام أنه يعتزل الحياة الثقافية بسبب التكريم الذي لاقاه إسماعيل سراج الدين - مدير مكتبة الاسكندرية - مع وجود قضايا ضده معروضة على القضاء . وأشار زيدان إلى أن هناك خلافاً بينه وبين سراج الدين، دفعه – كما يقول – إلى الاستقالة بعد سبعة عشر عامًا ، وذكر أن سراج الدين  يُحاكم منذ ثلاثة أعوام  ويدير المكتبة فى الوقت ذاته، وكان قد أحيل إلى النيابة فى 107 قضايا، جرى التصالح فى بعضها وذهب بعضها الآخر إلى المحكمة وظلت الجلسات تؤجّل حتى كان التأجيل رقم 15 منذ أسبوع، إلى جلسة شهر ديسمبر القادم! 
وأشار زيدان إلى وصف جابر عصفور، وزير الثقافة الانقلابي،  منذ عامين لسراج الدين بأنه "كذّاب" ومع ذلك، أصدر قراراً فور تولّيه وزارة الثقافة الانقلابية بضمِّه لعضوية المجلس الأعلى للثقافة.. ثم يصدر رئيس الوزراء الانقلابي قرارا بتكريم سراج الدين وتعيينه مستشارا ثقافيا لرئاسة مجلس الوزراء .  
وبناء على ذلك أُعلن زيدان أنه سيتوقّف في الحال عن أى نشاط ثقافىٍّ فى مصر والبلاد العربية، وسينقطع عن الكتابة الأسبوعية فى جريدتى الأهرام والوطن ( وأى جريدة أخرى ) وسيكفُّ عن كل الاجتهادات التثقيفية والصالونات الثقافية والندوات واللقاءات الفكرية ... وأنه لن يعود عن قراره هذا، ما دام سراج الدين باقيًا فى مكانه مديرا لمكتبة الإسكندرية (أو تُعلن المحكمة براءته من القضايا التى يُحاكم فيها ).. ومادام قائد الانقلاب ، وهو "رئيس مكتبة الإسكندرية" بحكم القانون ، لم يتدخّل شخصياً فى هذا الأمر، حيث لا فائدة تُرجى من أى جهدٍ ثقافىٍّ يُبذل فى هذا الوطن المنكوب المسمّى مصر!
هذاهو ملخص البيان الذي تناقلته المواقع والقنوات الفضائية عن يوسف زيدان ، وأنا  سعيد به ، وبالتأكيد كانت سعادتي ستكون أكبر لوكان الاعتزال لأسباب عامة وقومية وتخص الملايين ، وليست ناتجة عن خلاف شخصي بينه وبين إسماعيل سراج الدين.
لقد سمعت عن يوسف زيدان عندما كان مدرسا وفصل من جامعة الإسكندرية – فرع دمنهور بحكم محكمة ، ثم عرفت أنه التحق بمكتبة الإسكندرية ذات الامتيازات المادية والمعنوية التي تفوق مرتبات الجامعة الضئيلة ، واسترحت في داخلي لأن الرجل وجد وظيفة تلائم مؤهله العلمي ، وشق طريقه عبر وسائط المؤسسة الثقافية  الرسمية ليشارك بالكتابة ، والتأليف ، وتألمت للحملة الإرهابية التي شنها المتمردون الطائفيون على روايته " عزازيل "، وكتبت دراسة نقدية طويلة عنها ، وتوسّمت من خلالها أنه سيكون إضافة إلى المدافعين عن الحريات العامة والقضايا القومية ، ولم أطمح إلى دفاعه عن القضايا الإسلامية ، مع أنه متخصص في الفلسفة الإسلامية والتصوف لأنه لو فعل ، فسوف تحاصره المؤسسة أو الحظيرة الثقافية ، وسوف تعزله عن الصحافة والثقافة جميعا ، لأنها معادية للإسلام ورافضة له وتصفه بالإظلام !
ولكن يوسف زيدان صدمني ، وآلمني . لا أشير إلى دوره في مكتبة الإسكندرية التي استضافت أعداء الإسلام من الكتاب والمفكرين المحليين والعرب والأجانب ، واحتفت بهم ، وأغدقت عليهم ، ولكن موقف يوسف الغريب من تأييد الانقلاب ، وعدم رؤيته للدماء التي سفكها الانقلابيون منذ جريمتهم الدموية في يوليو2013 حنى يومنا هذا ، وتجاهله لدموع الأرامل والثكالى واليتامي نتيجة قتل أزواجهم وأبنائهم وآبائهم ، جعله يتهاوى في بركة الدماء الممتدة التي صنعها العسكر حين انقضوا على الإرادة الشعبية ، وصادروا الحريات ، وكمموا الأفواه ، وعزلوا الكتاب قسرا وعنوة ، وحلّوا الأحزاب ، واستباحوا الناس والجامعات ، فقتلوا واعتقلوا وفصلوا وطاردوا المئات من الأساتذة والطلاب والموظفين والتجار ، ومارسوا التطهير الديني والعنصري في مختلف المؤسسات ، وقسّموا الشعب ، واكتظُت السجون والمعتقلات بعشرات الألوف من أشرف الرجال والنساء وأنبلهم ،وأشاعوا  الرعب والذعر والخوف في أرجاء المجتمع .. كل هذا وأكثر منه لم يره يوسف زيدان أو غض الطرف عنه ، ولم يدفعه إلى اعتزال الكتابة والنشاط الثقافي ، مثلما دفعه صراعه الشخصي مع إسماعيل سراج الدين ، وهو يعلم جيدا طبيعة القوي التي تقف من وراء إسماعيل سراج الدين ، وهي القوى ذاتها التي عينته في المكتبة ، وجعلته يتمرغ في العملة الصعبة ، ويمرح في رحلاته السياحية الفاخرة على امتداد العالم !
اعتزال يوسف زيدان لا يعبر عن موقف مبدئي للأسف ، ولكنه مناسبة لتتدخل الجهات الرسمية كي يعود إلى المكتبة مرة أخرى ويمارس طموحاته الخاصة ، أويحقق الشهرة التي تضنيه وتعذبه ، وتشبع لديه نزعة الاستعلاء والعنجهية ، فضلا عن تركيزالأضواء والأخبار عليه مرة أخرى .
بالطبع لا أطالب يوسف زيدان ولا غيره من السادة الذين فرضهم النظام العسكري الفاشي على العقل المصري منذ ستين عاما ، أن يقتدوا مثلا برجل مثل أنطونيو جرامشي الفيلسوف والمناضل الماركسي الإيطالي، الذي سجنه الديكتاتور موسوليني حتى قضى في السجن عام 1937بسبب التعذيب طوال عشر سنوات ، ولا برجل مثل بندتو كروتشة (1866 - 1956) الفيلسوف والناقد الإيطالي الكبير الذي واجه الطاغية موسوليني أيضا ، ورفض أن يهرب خارج إيطاليا ، وظل يدافع عن الحرية حتى هلك الطاغية ، وبقي كروتشة رمزا حيا يحترمه الطلاينة ويقدرونه، ولا برجل مثل الشاعر خليل حاوي الذي فضل الانتحار على العيش في ظل هزيمة قومية ونظام متهرئ !
للأسف ، يوسف زيدان وأشباهه لايفكرون في الحريات العامة ولا الديمقراطية ولا كرامة المصريين ، بل يباركون الاستبداد ، ويدافعون عن القمع ، ويخوضون في دماء الأبرياء بالصمت أو التجاهل أو تأييد القتل خارج القانون، تحت ذرائع هشة وسخيفة وغير منطقية ، ثم يدّعون بطولات ممجوجة وشجاعة دونكشوتية .
أبسط ما طالب به يوسف زيدان كان إيقاف الدراسة في الجامعات لمدة سنتين ؛ حتى يستتب الأمر للانقلاب والحكم العسكري الدموي الفاشي . فهل هذا من البطولة يا يوسف ؟