حكمت محكمة جنايات القاهرة السبت الماضي بعدم جواز نظر دعوى جنائية ضد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، وبرأت المحكمة وزير داخليته حبيب العادلي، و6 من كبار مساعديه، في قضية قتل المتظاهرين في ثورة 25 يناير، كما برأت مبارك ونجليه ورجل الأعمال الهارب حسين سالم، من تهمة "الفساد المالي"، وهو حكم لا يبدو مفاجئاً البتة فمع هذا الحكم تكون آليات الادعاء العام والقضاء في مصر، قد استكملت إجراءاتها للثورة المضادة، في سكّة موازية، ما كان لقطارها أن يصل الى هذه المحطة لولا الانقلاب العسكري الذي جرى في 3 تموز/يوليو 2013، والذي أطاح بمحمد مرسي، أول رئيس مدني مصري منتخب في التاريخ.


وكي نفهم طريقة اشتغال "الدولة العميقة" المصرية، يجب أن نجزي شخصيتين ساهمتا في هذا القرار حقهما:


الشخصية الأولى هي عبد المجيد محمود، النائب العام المصريّ أيام حسني مبارك، والذي استمر في منصبه لمدة عامين بعد حصول ثورة 25 يناير 2011، وكان ذلك بقوة "الدولة العميقة" التي كانت تعتبره الحارس الأخير لشرعيتها بعد اهتزاز ثم سقوط الشرعيتين التنفيذية (مبارك وأعوانه) والتشريعية (البرلمان المصري المزوّر). أصدر محمود قرارًا عام 2011 مهّد لبراءة مبارك الحالية، منطوقه أن "لا وجه لإقامة دعوى جنائية ضد مبارك"، وبذلك لم يوضع مبارك على لائحة الاتهام الأولى التي ضمّت العادلي ومساعديه، بل تمت أضافته بعد الإحالة بشهرين.


والشخصية الثانية هي محمود كامل الرشيدي، القاضي المتعاطف مع مبارك والمسؤول عن إصدار الحكم، والذي دفعته رقة قلبه وحساسيته للبكاء أثناء حديث مبارك في الجلسة ما قبل الأخيرة، كما دفعته شفقته على مبارك إلى الأمر بعدم إغلاق باب قفص الاتهام خوفاً من تأثير ذلك على صحته.


وكي نعطي الحقّ لأهله نقول إن مؤسستي الرئاسة والقضاء المصريتين، ما كان لهما النجاح في إعادة عقارب الساعة المصرية الى الوراء لولا تضافر عاملين مهمين: الأول هو النخبة المصرية المعارضة للإسلاميين، والتي مهّدت الطريق السياسي لعودة ضباط الجيش والأمن للاستيلاء على السلطة ومحو منجزات ثورة 25 يناير، والغطاء الإقليمي العربيّ الذي استطاع إخراج النظام المصري من عزلته الدولية، وأمن له ملاءة مالية كبيرة.


ليس غريبًا أن نعلم مثلاً أن المستشار عبد المجيد محمود، كوفئ في أيلول/سبتمبر الماضي بإعارته للعمل مستشارًا بمحكمة النقض بإمارة أبو ظبي، وأن حسني مبارك تلقّى أمس تهنئة هاتفية من ملك البحرين شكره فيه على "مواقف مبارك المشرفة تجاه مملكة البحرين"، كما لو أن مبارك عاد (أو ما زال) رئيسًا.


ولتظهير الصورة أكثر وأكثر قام ممثل الادعاء المصري أمس الأحد بتقديم مرافعة تتهم جماعة الإخوان المسلمين بالمسؤولية عن أحداث ثورة 25 يناير فيما يسمى قضية "اقتحام السجون"، الحكم بحبس مرشد الجماعة و25 متهماً آخرين 3 سنوات لـ"اهانتهم القضاء"، فيما يستمر سجن الرئيس الأسبق محمد مرسي والكثيرين من شخصيات حكمه، إضافة إلى الآلاف من المنتسبين وأنصار الجماعة، وكذلك الكثيرين من الناشطين المدنيين من اتجاهات غير إسلامية.


وبهذه الأحكام المشينة للقضاء المصري يضيع دم متظاهري 25 يناير، وهو أمر دعا الكثير من الصحف للسؤال: "اذا كان مبارك وحبيب العادلي ومساعدوه الستة أبرياء… إذن من القاتل؟"، وتوقع محامي مرشد جماعة الإخوان، تلبيس القضية للجماعة، باعتبارها الضحية المثالية، فهناك موجة عالمية وعربية تحمّل الإسلاميين جرائم الأنظمة والطغم، وتجعلهم كبش المحرقة الذي لا يستطيع الدفاع عن نفسه بسبب استهدافه بقوانين الإرهاب وبالقمع والاعتقالات.


ومهما بدًا الأمر سورياليًا، فهناك دلائل عديدة على اتجاه دولة الأمن والعسكر المصرية الى ما نقوله، والدليل على ذلك قول اللواء هاني عبد اللطيف، المتحدث الرسمي باسم وزارة الداخلية المصرية قال في برنامج على فضائية مصرية أمس إن "التاريخ سوف يكشف عن القاتل الحقيقي للمتظاهرين أثناء الثورة، والمتسبب في صناعة الفتنة بالشارع المصري" وليكون الأمر واضحًا لمن لا يفهم قال اللواء: "البعض قام بسرقة ثورة 25 يناير، لكن الشعب المصري قام بالتصدي لذلك".


يكشف حكم البراءة لمبارك وأركان حكمه بجلاء الطريقة التي اتبعتها "الدولة العميقة" المصرية لإعاقة نشوء عدالة ثورية في مصر، وهي آلية تدرجية تم استكمالها لاحقًا بإعادة الاستيلاء على السلطة.


لسان حال المنتصرين اليوم يقول: "حكمت المحكمة بشطب ثورة 25 يناير" غير أن عودة شعار «الشعب يريد إسقاط النظام" الى شوارع مصر ربما تقول للحكام الحاليين إن الثورة لم تنته، أو أن الثورة الحقيقية لم تبدأ بعد.


*القدس العربي