عاتبنى أحدهم: ألم يكن من الأفضل للإخوان أن يتجنبوا تلك المتاعب، وأن يرضوا بالواقع الذى يعيشه الجميع؟ قلت: وهل يرضيك هذا الواقع؟! أجاب: لا يرضينى بالقطع، لكن ها قد رأيت ماذا فعلوا بشباب الجماعة وشيوخها؟ قلت: هذا أمر يستوعبه الإخوان، ويقدرون تبعاته، وهم على يقين أنه لا تصح دعوة من دون تضحيات، ومن دون مواجهة مع أهل الباطل..
قال: لكنهم -كما تعلم- لا يستطيع أحد أن يقف فى مواجهتهم. قلت: لن يكونوا -مهما بلغ سلطانهم- فى عنف وإجرام من سبقوهم من الطغاة والمستبدين الذين زالت الأرض من تحت أقدامهم وكانوا عبرة لمن يعتبر. قال: ولماذا لا نرضى بالواقع ونكيف أنفسنا معه؟ أجبت: لأنه واقع مرير لا يقبل به سوى العبيد؛ هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لأن من يرض بهذا الواقع يرض غدًا بواقع أمرّ منه؛ قد يكون مقرونًا بالكفر -عياذًا بالله- فهل ترضى بذلك؟
أجاب: لا، بالطبع لكن إلى متى سيظل هذا الصراع ومتى تحسم هذه الفوضى؟ قلت: عندما تدرك أنت ومن على شاكلتك أن ما يجرى ليس صراعًا سياسيًا كما صوروه لكم، بل هو صراع أفكار، ومعركة بين حق وباطل، وأنه لن يحسم إلا بتلك التضحيات. تركنى صاحبى وهو متردد، داعيًا -على عادة أهلنا الطيبين- بإصلاح البلاد والعباد..
قلت: من المؤكد أن صاحبى هذا لم يقرأ التاريخ، ولم يطالع قصص الأنبياء، ولا يعرف حقيقة الإخوان، فإن ما يجرى للإخوان من قتل وسحل وسجن وملاحقات إنما هو ضريبة الإصلاح التى يدفعها المخلصون لدينهم وأوطانهم، وقد دفعها من قبل الأنبياء والرسل الكرام، وسوف يدفعها من سار على دربهم حتى قيام الساعة، فإن الصراع بين الخير والشر قائم حتى يأذن ربنا بزوال الدنيا وحتى تنتهى حياة البشر على الأرض.
إنه ما جاء نبى من الأنبياء أو رسول من الرسل إلا لغرض التغيير، وإصلاح ما أفسده البشر الذىن ألفوا هذا الفساد حتى صار سنة فيهم، وما إن يبدأ النصح حتى يلقى العنت والمقاومة، بل ربما القتل أو السجن أو الطرد، رغم البينات التى يسوقها إليهم للدلالة على نبوته وعلى سلامة وصدق منهجه ورسالته، إلا أن قلوب القوم قد خربت وعقولهم قد عقمت، فلا يزال النبى أو الرسول يحاجج قومه ويحاجونه ويقاومهم ويقاومونه حتى تنكسر حلقة من حلقات مغاليق قلوبهم، وينضم إليه رجل فاثنان فعشرة، ثم تكون ثلة فتصير مواجهة حتى تتغلب تلك الفئة الطاهرة على الفئة الأخرى الفاجرة.
ولا يصل المصلحون إلى تلك النتيجة إلا بعد طول عذاب، وبعد جهد جهيد من العمل الدعوى والإصلاح المجتمعى، وبعد تضحيات عظيمة تطال الفرد والجماعة والصغير والكبير، وبعد مقاومة شرسة من أقوامهم الذين ورثوا هذا الفساد حتى صار (چينًا) فى دمائهم، فما أرسل من رسول إلا صده قومه واستمسكوا بباطلهم: {$ّكّذّلٌكّ مّا أّرًسّلًنّا مٌن قّبًلٌكّ فٌي قّرًيّةُ مٌَن نَّذٌيرُ إلاَّ قّالّ مٍتًرّفٍوهّا إنَّا $ّجّدًنّا آبّاءّنّا عّلّى" أٍمَّةُ $ّإنَّا عّلّى" آثّارٌهٌم مٍَقًتّدٍونّ} [الزخرف: 23]، حيث يعتقدون أن ضلالهم هو الدين وأن ما جاء به النبى هو الزيغ والبهتان، كما فعلت ثمود مع صالح {قّالٍوا يّا صّالٌحٍ قّدً كٍنتّ فٌينّا مّرًجٍوَْا قّبًلّ هّذّا أّتّنًهّانّا أّن نَّعًبٍدّ مّا يّعًبٍدٍ آبّاؤٍنّا $ّإنَّنّا لّفٌي شّكَُ مٌَمَّا تّدًعٍونّا إلّيًهٌ مٍرٌيبُ} [هود: 62].
إن جريمة الإخوان المسلمين اليوم أنهم أرادوا لقومهم الخير، وأرادوا لوطنهم الرفعة، وسعوا من أجل أن تكون يدنا هى العليا، وأن يكون مجتمعنا طاهرًا نقيًا خاليًا من الرذائل المهلكة والأمراض الفتاكة والفقر المدقع.. هم أرادوا ذلك وأراد خصومهم المأجورون من قبل الغرب واليهود أن تظل الحال كما هى، وأن يبقى التخلف على ما هو عليه، ولا يستغرب أحدٌ لما أقول، فالكتاب الكريم قص علينا ما فعله قوم لوط مع نبيهم الكريم لما أراد أن يخرجهم من الظلمات إلى النور؛ لقد هموا بإخراجه ومن معه {$ّمّا كّانّ جّوّابّ قّوًمٌهٌ إلاَّ أّن قّالٍوا أّخًرٌجٍوهٍم مٌَن قّرًيّتٌكٍمً إنَّهٍمً أٍنّاسِ يّتّطّهَّرٍونّ} [الأعراف: 82] ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- دعوا عليه بالهلاك لمجرد أنه قال لهم إنه نذير لهم بين يدى عذاب شديد، قالوا: تبًا لك يا محمد سائر اليوم.
إن المنطق يقتضى أن يستجيب القوم لمن يدعونهم إلى البر والرشاد، لكن المنطق غائب عند أهل الباطل منذ الأزل، فالمصلحون يدعونهم إلى ما فيه مصلحتهم، وهم يفرون إلى حيث شقائهم وبؤسهم، كما جاء على لسان مؤمن آل فرعون {$ّيّا قّوًمٌ مّا لٌي أّدًعٍوكٍمً إلّى پنَّجّاةٌ $ّتّدًعٍونّنٌي إلّى پنَّارٌ <41> تّدًعٍونّنٌي لأّكًفٍرّ بٌاللَّهٌ $ّأٍشًرٌكّ بٌهٌ مّا لّيًسّ لٌي بٌهٌ عٌلًمِ $ّأّنّا أّدًعٍوكٍمً إلّى پًعّزٌيزٌ پًغّفَّارٌ} [غافر: 41، 42].
فهكذا الإخوان المسلمون -سلّمهم لله- يدعون إلى الحق والصدق، وهناك جند الباطل يصدونهم عن هذا الطريق ويقطعونه على كل راغب فيه، بالتهديد تارة وبالقتل تارات.. نسأل الله أن يعجل بنصره وفرجه.