بقلم: د. مجدي الهلالي

ميزان التفاضل بين الناس عند الله عز وجل ليس في جاههم أو أنسابهم أو أشكالهم أو لغاتهم، فالله عز وجل هو الذي خلق البشر جميعًا باختلاف الأشكال والألوان والأنساب والألسنة، ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لَيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ﴾ (الأنعام: 165) فإن كان الأمر كذلك فبماذا يتميز الناس عند ربهم؟!

 

يجيب القرآن على هذا السؤال في أكثر من موضع، وبيَّن بصورة قاطعة أن ميزان التفاضل بين الناس عند ربهم إنما يكون بإيمانهم ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات:13)،
وكلما زاد الإيمان في القلب ارتفعت قيمة الفرد عند الله.

 

فمن الناس مَن ترتفع قيمته عند الله بإيمانه حتى يصيرَ وكأنه أُمَّة، مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه الذي رفعه إيمانه إلى مرتبة عالية، حتى وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الإيمان بقوله: "لو وُضع إيمانُ أبي بكر في كفة وإيمان الأمة في كفة لرجحت كفة أبي بكر".

 

وعندما اهتزت ساقا عبد الله بن مسعود النحيفتان مع الريح ضحك الصحابة من شدة نحافته، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أن ساقَيْ عبد الله بن مسعود أثقلُ عند الله من جبل أحد، ويقينًا أن المقصد من ذلك هو قوة إيمان عبد الله بن مسعود التي رفعت قيمته عند الله إلى هذا الحدِّ.. وعندما طلب خالد بن الوليد- رضي الله عنه- من أبي بكر الصديق مددًا للجيش أرسل القعقاع بن عمرو وقال له : لا يُهزم جيشٌ فيه القعقاع.

 

ولقد أخبرنا الله أن هناك رجلاً يستطيع مواجهة عشرة رجال.. هذه القوة التي تمكنه من ذلك إنما هي قوة الإيمان وليست قوةَ العضلات ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ (الأنفال:65).

 

والدليل على ذلك أنه عندما انضم للجيش الإسلامي الكثيرون ممن هم حديثو عهد بالإسلام قيَّم القرآن الرجل من المسلمين بأنه يستطيع مواجهة اثنين فقط- أي تصبح قيمة الفرد باثنين- ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ (الأنفال:66).. وهكذا تتغير النسبة علوًّا وهبوطًا تبعًا لقوة وضعف الإيمان، وكيف لا وكلما ازداد الإيمان ازداد رضي الله عن العبد، وازدادت تبعًا لذلك معيته وكفايته، ونصرته له.
وفي المقابل عندما يضعف الإيمان تهبط قيمة الفرد عند الله، فبعد أن كان في "أعلى عليين" يصبح في "أسفل السافلين".

 

فالفرد الذي كان في يوم من الأيام يساوي أمة، ويساوي ألفًا، ويساوي عشرة، ويساوي اثنين، تهبط قيمته عندما يضعف إيمانه فيصبح العشرة من أمثاله في ميزان الله لا تقابل واحدًا، بل بالألف، بل بالمليون.. بل تصبح الأمة كلها لا تساوي شيئًا عند الله، وتخرج من دائرة معيته وكفايته إلى دائرة غضبه وسخطه، وينكشف عنها ستر الحماية فتصبح مستباحة لكل ناعق، وتتحول من فاعل يحرك الأحداث إلى مفعول به تكيل إليه الركلات والصفعات فلا يحرك ساكنًا، ينهشه وينهبه كلُّ صعلوك على وجه الأرض.

 

ولقد أكَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى وأخبر بأن الأمة ستتعرَّض لنكساتٍ وهزائمَ، وأنها ستصبح فريسةً مستباحةَ الحمى، وأخبر كذلك أن السبب الذي سيصل بها إلى هذا الوضع المخيف هو ضعف الإيمان.. فقد قال لأصحابه يومًا: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها"، فانزعج الصحابة من ذلك وقالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ فأجاب صلى الله عليه وسلم: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن"، فقال أحد الصحابة: وما الوهن؟ قال صلى الله عليه وسلم: "حب الدنيا وكراهية الموت" (صحيح الجامع الصغير).

 

الأمر إذن واضح.. فالمشكلة التي نعاني منها الآن، والوضع المرير الذي تحياه أمة الإسلام ليست بسبب نقص العدد ولا العدة بل نقص الإيمان، ولا أمل لعودة مجد الإسلام من جديد إلا بالبدء بالإيمان.