الناس لطول الألفة يظنون كل شيء على ما يرام، ويظنون أن ما هم فيه هو الأساس، حتى إذا تنفست شعوب من حولنا نفساً قصيراً بسيطاً من الحرية ثم نهضت.


 تفقد الناس أحوالهم فلما أكلوا من الشجرة (شجرة الحرية) بدت لهم سوءاتهم على حقيقتها، وقد كانوا ظنوها جماليات؛ فطفقوا يخصفون عليهم من ورق الحَرَاك عله يسترهم.


اختلف الناس حول الحراك الشعبي حتى إن لم يجدوا ما يختلفون عليه اختصموا في إعراب حرف "الحاء"؛ أهي بالكسر أم بالفتح؟ واستقر الأمر أخيراً على فتح الحاء لتصبح الحَرَاك!


كانت الشرارة من ذيبان عند فقدان ثمن "صندوق سجائر" كما قال لي بعضهم، أو لقطع الكهرباء عن بيته؛ بسبب العجز عن دفع فاتورة العشرة دنانير، ثم تلمس الناس أوجاعهم فوجدوها عميقة؛ فنهضوا مطالبين بالإنصاف والإصلاح يبحثون عن مخرج.


تفقد الشباب بطالتهم وهمومهم ومشكلاتهم فهبوا مسرعين يبحثون عن طريق الخلاص.


وتفقد المعيلون عجزهم عن الوصول لليوم الرابع عشر من الشهر فتحسروا لحاجتهم وفقرهم.


وتفقد السياسيون نكبتهم لأنهم لا وزن لهم فلا يعترف بهم أحد إلا صالوناتهم وصوامعهم الحزبية المعزولة، ولا يُفتقدون حضروا أم غابوا، حتى وإن سموا أنفسهم معارضة رضوا من الفعل السياسي أن يقال: إنهم أحزاب معارضة، وليس لهم في المعارضة الحقيقية نصيب سيما وقد انقسموا إلى قسمين، قسم يراجع السلطة في النهار لينال منها ما حُرِم، وآخر ينسق معها في الليل والنهار بل وتتسرب بعض قياداتهم نحو السلطة علَّها تجد مقعداً حتى ولو في وزارة على طريق الإلغاء، أو وزارة هامشية لا وجود لها على الأرض كوزارة الأسماك أو الدولة (إلا من رحم ربك وقليل ما هم)، فتمتموا قليلاً ثم انصرفوا في الشارع.


وجد الأحرار أنفسهم يرْزحون تحت نير العبودية منذ عقود إن لم تكن قروناً، فغابت الكرامة وأصبحت غريبةً حبيسةً في النفوس وغابت الحرية ولم يُعرف مدلولها، وأجهد الشاعر أحمد مطر وغيره أنفسهم بالبحث عنها حتى الموت.


وتفقد المبدعون أنفسهم فوجدوها تحت الركام، فليس هناك نية للبحث أو التطوير، فقد غدا الإبداع والمبادرة من الترف، بل صنف من ضعف الانتماء، ووقفوا أمام المرآة يتأملون هل أصابهم ضرٌّ أم هم أسوياء.


ووجد الاقتصاديون أن المتحكم بهم في السوق هو صاحب الحظوة المستبد، فالسوق مغلقة على مجموعة مستوردين أو منتجين يعدون على أصابع اليدين، ولهم حاشية وأتباع كما لهم أرباب وسادة، فالويل كل الويل لمن يفكر باستيراد اللحم والسكر والبنزين والشاي.. والعديد من المواد الأساسية وهؤلاء هم المتداولون لبقية المناصب الإدارية، فقد أهَّلتهم ثروتهم لذلك، ولن يسألوا من أين جاءت.


وأما الدستوريون ورجال القانون فوجدوا حِصْنهم مهدماً معتدى عليه منذ عقود خلت.


كما وجد الوطنيون المبصرون دولهم في مهب الريح، فالهوية في خطر ماحق في ظل تهديد حقيقي، وفي ظل مكر العدو الصهيوني لمخرجات اتفاقيات الذل، والأقصى قاب قوسين أو أدنى من السقوط والإزالة وأقلها تقسيمه زمانياً ومكانياً لولا بعض المرابطات والمرابطين الذين أطلقوا صيحتهم الأولى والمتقدمة ونشروا تفاصيل المأساة عبر بيانات دقيقة وإن لم يلتفت إليهم إلا القليل.


حتى عاب على هؤلاء جميعاً العراةُ، فعلهم ووقفوا في نحورهم وامتدت إليهم الأيادي المرتدفة بالإساءة والعدوان في جميع دول "الربيع العربي" ومدنه وقراه ولم تسلم ذيبان، والطفيلة، وعمان، وخرجا، وسلحوب، والمفرق أولاً بقلع عين عماد وبحرق مقرات الإخوان وحزب جبهة العمل وكسر جمجمة معاذ الخوالدة، ثم الاعتداء على دولة الأستاذ أحمد عبيدات في الباعج.


انقلب المفسدون والمستبدون على شعوبهم من جديد وظنوا أنهم كسبوا الجولة مستعينين بالمصالح الأجنبية في الدكتاتوريات، والتهديد الصهيوني ومصالحه وقراراته التي لا تُخالف وما علموا أن للتحرر موجات لا بد منها.


وتناخت وتنادت وتوحدت قوى الشر لإبطال نهضة الشعوب وثوراتها وأعادت ترتيب صفوفها وارتدت عن الإصلاح، فوضع الأحرار في السجون من جديد وتغير معنى الحرية والعدالة، بل وانقلبت رأساً على عقب، فتبرأ أرباب الديمقراطية في الخارج والداخل منها ووقفوا مع الدكتاتوريين والاستبداديين والانقلابيين في خندق واحد.


لكنها جولة والشعوب أقوى لأنها ذاقت طرفاً من طعم الحرية ولن تتركها، نعم مرت أربع سنوات من عمر الأمة لكنها ليست كأي أربع سنوات مضت منذ عدة قرون، بذورها مستقرة في الأرض وستنبت وتزهر وتثمر في الوقت المناسب وهو قادم عما قريب إن شاء الله.


إن الإصلاحي الذي يطالب بالعدالة والحرية والكرامة يمكن أن يخسر لكنه لن يهزم.


قال لي رجل كبير السنّ قبل أيام:  كنا نرى نباتات برية تظهر في بعض السنوات لم تظهر منذ سنين عديدة فلا تعجلوا، ولكلّ أجلٍ كتاب.


*المراقب العام السابق للإخوان المسلمين بالأردن