- اغتيال "البنا" كان أحد أهم مقدمات الثورة

- الشرارة الأولى للثورة بدأت بتحركات لضباط معظمهم من الإخوان

- الإخوان حموا ظهْر الجيش يوم الثورة... ولكن عبد الناصر انقلب عليهم

- الهضيبي فضَّل تأخير اختياره مرشدًا أسبوعين

 

أسرار كثيرة لم تتكشف حتى الآن،  وأوراق كثيرة مازالت حبيسة الأدراج لم ترَ النور برغم مرور أكثر من خمسين عامًا على حركة الضباط الأحرار أو ثورة يوليو1952 م، وهو التاريخ الذي لم يغير تاريخ مصر وحدها، وإنما غيّر تاريخ المنطقة بأسرها.

 

ارتبطت حركة يوليو بكثير من المواقف التي يجهلها جيل ما بعد الثورة، فقد اختفت قوى وظهرت أخرى، وتقلبت مصر من حكم إلى حكم.. والأسئلة وفيرة، ومازالت تفرض نفسها، وتبحث عن إجابة، وتشغل بال الكثيرين.. وبعضها وجد إجابة، لكن المُثير مازال مطروحًا.

 

وإن كانت الثورة قد ارتبطت بالجيش ومجموعة من الضباط الصغار فإن هناك من شارك في إعداد الثورة، وكان شاهدًا عليها، إلا أنَّه لم يحمل على كتفيْه في يوم من الأيام رتبة، ولم يرتد حُلة عسكرية،  ومنهم الأستاذ "محمد فريد عبد الخالق" عضو الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين وعضو مكتب الإرشاد بالجماعة، وأحد الشخصيات الهامة التي عاصرت وعايشت الثورة في مهدها، ثم اكتوت بنارها بعد ذلك.

 

وترجع أهمية شهادة الأستاذ "فريد عبد الخالق" إلى أنه كان صديقًا للرئيس الراحل "جمال عبد الناصر"، كما أنه هو الذي أبلغ المستشار "حسن الهضيبي"- المرشد العام للإخوان المسلمين وقتها- بموعد الثورة وحصل على تأييده وتأييد الإخوان للضباط الثوار.

 

وهذا الحوار مع الأستاذ "عبد الخالق" ليس عن الثورة فقط بل وعن مواقف عاصرها بالجماعة، إذ كان أمين سر مكتب الإرشاد وقت أن اتخذ المكتب قراره بمشاركة جماعة الإخوان في حرب فلسطين، إضافةً إلى كونه أحد من عايشوا اختيار المستشار  "حسن الهضيبي" مرشدًا للجماعة.

 

مواقف كثيرة وحكايات مثيرة يرويها الأستاذ "فريد عبد الخالق" كشهادة على العصر، خاصةً أنه يستعد حاليًا لإصدار مذكراته وشهادته عن أحداث قلبت تاريخ المنطقة.

 

بدايةً.. فإن الأستاذ "فريد عبد الخالق" من الرعيل الأول، الذي قامت الجماعة عليه، كما تولَّى أحد الأقسام المهمَّة في الجماعة، وهو قسْم الطلبة، واتُهم أكثر من مرة بمحاولة قلب نظام الحكم قبل الثورة وبعدها! كما كان- أطال الله عمره- أصغر عضو في مكتب الإرشاد في الجماعة، كما كان عضوًا بالهيئة التأسيسية بها، وقد تعرَّف على الجماعة وهو في أواخر العشرينيات حيث سمع الإمام "البنا" في احتفال إسلامي بمدينة إيتاي البارود بمحافظة البحيرة عندما كان في زيارة لصهره الأستاذ "صلاح شادي".

 

ويقول الأستاذ "فريد" إنه منذ سمع الإمام "البنا" في هذه الاحتفالية، وقد تغير وجدانه وانقلب تفكيره حيث وجد ضالته في جماعة قربت المسافات بين الالتزام الديني والواجب السياسي، وفي رجل يقودها له طريقته التي تميزه عن مشايخ وعلماء الدين، رغم أنه أحدهم، كما كان له أسلوبه السياسي المميز والخلاب، الذي اختلف اختلافًا شاملاً عن كلام رجال الأحزاب والسياسة الذين تجمعهم المصالح وتفرقهم الواجبات، ويصف الأستاذ "فريد عبد الخالق" شعوره بعد اللقاء الأول مع الإمام "البنا" بأنه أوصله لأن يكون مسلمًا نافعًا يجعل مصلحة وطنه من العبادات مثلها مثل الصلاة والزكاة..، والآن إلى  نص الحوار:

 

حرب فلسطين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الهضيبي مرشدًا

 الصورة غير متاحة

 شباب فلسطيني يقاومون دبابة صهيونية

* كانت حرب فلسطين نقطة تحوُّل مهمَّة في تطوّر العمل الثوري داخل الجيش، كما أنها انعكست على حركة الإخوان المسلمين، ففي أثنائها تم حل الجماعة على يد "النقراشي باشا" الذي اغتيل، وبعده مباشرةً استُشهد الإمام"حسن البنا".. فما تعليقك على ذلك؟!

 

** إذا تكلمنا عن حرب فلسطين فلابد أن نعود للتاريخ، حيث كانت عصابات اليهود تتدرب بأسلحة متطورة، وتقوم بعمليات إبادة تحت سمع العالم كله، وقد حضرت لقاءً جمع الشيخ "أمين الحسيني" مع الإمام "البنا" قال فيه "الحسيني" بالحرف: يا شيخ "حسن"، إننا لن نستطيع أن نواجه هذه العصابات التي تُحارب بعقيدة إلا بتيار يحارب بعقيدة مثلها، وهو ما يتمثل في جماعة الإخوان".

 

كان هذا الكلام قبل قرار تقسيم فلسطين، كما أنه كان سببًا في تكوين النظام الخاص للجماعة، وكانت حرب فلسطين والاحتلال الإنجليزي لمصر قضيتين محوريتين، وكانتا موضع تحرك شعبي عام شاركت فيه كل الأحزاب والحركات الوطنية والطلاب في جامعاتهم، وقد كان للإخوان دور بارز في القضيتين معًا.

 

ففي حرب فلسطين شاركنا بثلاث كتائب كاملة أبلت بلاءً طيبًا، وشهد بها العدو قبل الحبيب، بل ونال الإخوان فيها شهادات وأوسمة.

 

وعلى صعيد الاحتلال البريطاني كان للإخوان دور عملي، حيث نسَفوا القطار الذي كان يقلّ الجنود البريطانيين إلى القنال، واستهدفوا جنود الاحتلال أثناء تحركهم بالعاصمة في المناسبات المختلفة.

 

كان يقابل هذا الدور الجهادي دورٌ متآمر، يُشارك فيه الملك وحاشيته وحكومات الأقلية،  ومما يجدر ذكره أن حزب الوفد عندما كان يتولى الحكم كان يقدم دعمًا معنويًا وسياسيًا للحركات الشعبية المقاومة للمحتل، حتى تدخَّل القصرُ كعادته في عزْل "النحاس باشا" عقب حريق القاهرة، وقد كان للنظام الخاص للإخوان المسلمين، ولقسم يُسمَّى قسم الوحدات- كان يرأسه الأخ اللواء "صالح شادي"- دورٌ بارزٌ في هذه المقاومة.

 

من كل ما سبق تتضح لنا أهمية حرب فلسطين إذ كانت من العوامل المحركة للقوى الشعبية التي تريد أن تحرِّر أرضها من سطوة الملك وفساده، ومن الاستعمار الإنجليزي وهي أهداف الإخوان نفسها.

 

* كيف اتخذ مكتب الإرشاد- وقتها- قرار المشاركة في حرب فلسطين، ومَن كان أعضاؤه؟!

** قبل عام 48 كان الشارع المصري- والإخواني تحديدًا- في حال غليان، ولأن الجماعة وضعت على عاتقها تبصير الشعب بقضية فلسطين، الأمر الذي جعل قرار المشاركة محلَّ اتفاق بين كل أعضاء مكتب الإرشاد، وأذكر منهم الدكتور "حسين كمال الدين" والشيخ "عبد الرحمن البنا" و"طاهر الخشاب" والدكتور "كمال خليفة" والشيخ "محمد فرغلي" و"محمد فريد عبد الخالق"، ولم يستغرق قرار الجماعة- بالمشاركة في الحرب- سوى جلستين فقط، ولم تكن مناقشات المكتب: هل نشترك أم لا؟! وإنما كيف.. وبكَمْ.. ومتى.. نشترك في الحرب؟

 

 

* أثناء مشاركة الإخوان في الحرب صدر قرار "النقراشي" بحل الجماعة وزجّ بالإخوان في السجون، ثم تَمَّ اغتيال الإمام "حسن البنا" على يد القصر، وبعد أن خرج الإخوان من السجون كان هدفهم توحيد كلمتهم، وجمع شمل حركتهم، وكان اختيار المستشار "الهضيبي" مرشدًا للجماعة، رغم أنه لم يكن عضوًا رسميًا فيها.. فكيف حدث ذلك؟!

** بعد الإفراج عن الإخوان كان قرار الحل ما زال قائمًا، ولكن في الوقت نفسه كان ينبغي علينا اختيار مرشد يقود الجماعة، ويمثلها مرة بعد اغتيال الإمام "البنا"، وقد وقع الاختيار على ثلاثة أشخاص كانوا الأبرز والأشهر في الجماعة، وهم "صالح عشماوي" والشيخ "حسن الباقوري" و"عبد الحكيم عابدين"، إلا أن الثلاثة اختلفوا فيما بينهم، وكان اختلافهم رحمة، وتَمَّ تكليف "منير دلة" بإنهاء الموضوع، إما باختيار أحد الثلاثة أو باختيار واحد غيرهم، ونحن جلوس.

 

وقتها تذكر "منير دلَّة" المستشار "حسن الهضيبي"، وقال: إن الإمام الشهيد عندما كان يريد المشورة في أمر عسير كان يذهب للأستاذ "الهضيبي"، وقال إنه كان يوصل الإمام الشهيد لمنزل الهضيبي بالمنيَل بسيارته الخاصة، ولم يكن يعلم أحد بذلك؛ لأن المستشار "الهضيبي" كان يعمل بالقضاء.. والقضاءُ كان يُجرِّم أن يشترك القضاة في أحزاب أو جماعات سياسية، وكانت الضرورة تقتضي أن يظل "الهضيبي" بعيدًا عن الأضواء.

 

وأكد لنا المرحوم "منير دلة" وقتها أن المستشار "حسن الهضيبي" من الإخوان فعليًا، رغم أنه لم يكن منهم تنظيميًا، كما أنه يعلم كل شيء عنهم؛ لأنه كان محلَّ ثقة الإمام "البنا"، وكلفني المجتمعون وقتها مع المرحومَين "منير دلة" و"عبد القادر حلمي" بأن نذهب لـ"الهضيبي" ونعرض عليه الأمر، وبعد مناقشات طويلة اشترط المستشار "الهضيبي" شرطَين لقبول المهمة، وهما: أن ينال إجماع أعضاء الهيئة التأسيسية، وعددهم120 عضوًا، وأن يساعده المستشار "عبد القادر عودة" كوكيل للجماعة.

 

وكان الشهيد "عبد القادر عودة" مثل المستشار "الهضيبي" من الإخوان، إلا أنه لم ينضم إليهم تنظيميًا لظروف عمله بالقضاء، ووقتها قال الهضيبي: "أفْضل لي أن أكون فردًا من الإخوان وليس مرشدًا لهم".

 

وبالفعل جمعنا موافقة119 عضوًا من أعضاء الهيئة التأسيسية، ولم تتبقَّ إلا موافقة الأستاذ "محمد حامد أبو النصر"؛ لأنه كان من الصعيد، وللسرعة المطلوبة لم نتمكن من الحصول على موافقته، وعندما قرأ المستشار "الهضيبي" الكشف وجد به هذا الاسم الناقص فرفض الموافقة حتى يحصل على رأي الأستاذ "أبو النصر"، إما بالموافقة فيوافق على تولّي منصب المرشد، وإما بالرفض فيرفض هو الآخر.

 

وبالفعل ذهبنا إلى "أبو النصر" الذي وافق دون اعتراض، فوافق المستشار "الهضيبي" على قبول منصب المرشد، وقد استغرق ذلك كله أسبوعين فقط، وكان من فضْل الله على الجماعة أن يوافق المستشار "حسن الهضيبي" على أن يكون مرشدًا؛ لأنه كان يتمتع بالصفات التي تتطلبها المرحلة التي كانت تمر بالجماعة وبمصر، وكانت فترته- يرحمه الله- كلها محن، وبرغم أنه كان أكبر الإخوان سنًا إلا أنه كان أكثرهم جلدًا وصبرًا، وهو ما كان يمثل حافزًا للإخوان فقوَّى إيمانَهم وقت المحن.

 

الضباط والثورة

* نعود لحرب فلسطين.. إذ خرج منها كثير من الضباط الإخوان بتنظيم جديد، هو الضباط الأحرار، وكان أبرزهم "جمال عبد الناصر" نفسه... أليس كذلك؟

** "جمال عبد الناصر" كان أحد الذين يتولون تدريب المتطوعين من الإخوان في الصف وحلوان، وقد قام بتحركات وطنية بالتعاون مع الإخوان، ومنها مواجهة السفن البريطانية الحربية في القنال، وكان "عبد الناصر" في ذلك الوقت في صفوف الإخوان، إلا أنه بعد حرب48  بدأ بالفعل في الاستقلال؛ بهدف أن يكون تنظيم الضباط الأحرار تابعًا له فقط وليس للإخوان دخل فيه، وبرر ذلك- كما أشرت سابقًا- بأنه لضمان نجاح الثورة أو الحركة بعدم ارتدائها زيًا معينًا، ومنذ بداية الثورة استفاد "عبد الناصر" جيدًا بضباط الإخوان، وظلَّ يُشعرهم بأنه واحد منهم حتى استقر له الوضع فبدأ في نبذ عهوده وبيعته.

 

وربما يرجع ذلك إلى أن "عبد الناصر"- وكثير غيره- كانوا يرون أن الإخوان يهدفون للتغيير، ولكن بعد إصلاح المجتمع الذي سيقوم هو بالتغيير،  لذلك نشأ تنظيم الضباط في الجيش بهدف التربية وخلق جيل من الضباط يعرفون ربهم ودينهم، وكان قسمًا مثل كل أقسام الجماعة:  الطلاب أو الوحدات مثلاً، ولا يهدف للسيطرة على الجيش،  بينما كان هدف هؤلاء الضباط التغيير السريع، بصرف النظر عن تربية الشعب وتقبله للتغييرات التي ستطرأ عليه.

 

أجواء مهدت الطريق

* الجو السياسي والاجتماعي قبل 1952م، كان يشبه التقلبات التي تسبق البركان، فما أهم الأجواء التي مهَّدت الطريق لقيام الثورة؟!

** كان لحركة يوليو في 1952م مردود على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي كله، ولاشك أنها تعد منعطفًا خطيرًا قلَبَ المنطقة رأسًا على عقب... ولقد سبقت هذه الحركة أحداث كان لها شأن، من أهمها:

 الصورة غير متاحة

الإمام البنا

- اغتيال الإمام "حسن البنا"، ومن وِجهة نظري فإن اغتيال الإمام المرشد كان أحد مقدمات الثورة؛ لأنه اغتيال كان له هدف سياسي هو التخلص من مصدر إشعاع لتيار إسلامي قويّ، بدأ في الانتقال لكل الأقطار العربية والإسلامية؛ لذلك رأى المستعمر أن يتخلص من مُفجِّر هذه الصحوة، وأن يضع العقبات والعراقيل أمام تقدمها للحيلولة بينها وبين الشعب.

 

- أما الأمر الثاني- وهو مرتبط بالأول- فهو أن المستعمر الذي تخلَّص من الإمام "البنا" وجد أن ذلك غير كاف، وأنه لابدَّ أن يبحث عن نظام بديل للملك؛ لأن نظام الحكم القائم من وجهة نظرهم "شاخ"، واعتبروا أن الملك قد استنفد وقته، ولم يعد قادرًا على البقاء أمام الصحوة الوطنية والدينية التي استوت في المجتمع، وكان التفكير في حكم عسكري يستطيع أن يُواجه هذا المد الشعبي، سواء الوطني أو الديني؛ لذلك بحثوا عن هذا النظام داخل الجيش وداخل الشرطة، وعلموا أن هناك كثيرًا من الحركات المناهضة للملك بدأت في الظهور، لكنهم وجدوا ضالتهم في تنظيم الضباط الأحرار.

 

هذا ما يؤكده كتاب "البحث عن الذات" للرئيس الراحل "محمد أنور السادات" ووثائق أخرى كانت ممنوعة من النشر، ثم بدأت في الظهور خلال الفترة الأخيرة، مثل كتاب " لعبة الأمم" لـ"مايلز كوبلاند" أحد رجال المخابرات الأمريكية بالشرق الأوسط، حيث ذكر في كتابه أن المخابرات الأمريكية طلبت منه استكشاف الأحوال بمصر، فكتب تقريرًا يقول فيه: "علينا ألا نقْلَق، فهناك في الجيش من يفكر في التغيير، ويسهل الحديث معه بعد ذلك"، إضافةً لوثائق أخرى تدل كلها على أنه كانت هناك صلة موجودة مع الأمريكيين قبل الثورة عن طريق كثيرين، أبرزهم "علي صبري"، وهذا يرجع لأن "جمال عبد الناصر" وزَّع الضباط الأحرار على مختلف القوى والاتجاهات ليضمن ولاء الجميع، فمنهم من كان من الإخوان، ومنهم من اتصل بالوفد والشيوعيين، وفي كل مرة كانوا يؤكدون أن الثورة لهم وتعمل بمبادئهم، وعندما جاء وقت التنفيذ تخلَّى "عبد الناصر" عن وعوده، ولم تكن تصرفاته معنًا- كإخوان- مثل تصرفات الصديق، ولا الذي بايع الإخوان، ولا الذي اعترف بفضلهم في مساندة الثورة في البداية، وهذا لا يعني أننا نصِف الضباط الأحرار بالخيانة أو نصِف "عبد الناصر" بالعمالة؛ لأن هذا الوصف غير لازم؛ لأن كل واحد يريد أن يقوم بثورة يجب عليه أن يؤمّن نفسه من الأعداء والقوى الأخرى، خاصةً أن الأمريكيين بعد الحرب العالمية الثانية بدأوا في وراثة الإنجليز الذين أفل نجمهم، ومثل هؤلاء يستغلون الأحداث التي تدعم مواقفهم.

 

- أما السبب الأخير.. فكان الشعب نفسه، الذي فاض به الكيل من الملك والإقطاع وعدم توزيع الثروة عليه بالعدل؛ لذا كانت الثورة بالنسبة لهم تمثل هذا الحلم.

 

الفخ والتحذير

* ذكرت أن "عبد الناصر" كان ينسق مع كل الاتجاهات، وأن هناك اتصالات تمت مع الأمريكيين، فكيف وقع الإخوان في الفخ... إن صح التعبير؟

** هذا لا يُعتبر فخًا؛ لأنك لو وضعت نفسك مكانهم، وتمتعت بذكاء خارق لم يكن من السهل أن تكتشفه؛ لأن "عبد الناصر" بايع بالفعل الصاغ "محمود لبيب" ثم بايع فضيلة المرشد "حسن البنا"، ثم بايع "عبد الرحمن السندي"، وكان معه "كمال الدين حسين" و"خالد محيي الدين"، ولكن الله أعلم بالقلوب، وفي العادة فإن المسلم طيب القلب، ولا يسيء الظن فيمن يثق فيه؛ لذلك فنحن قدمنا حسن الظن على سوئه، حتى يحدث عكسه، وهو ما تم مع "عبد الناصر"، وعندما ظهر على حقيقته قلنا له: لا، ولم نكن نستطيع أن نقولها قبل ذلك؛ لأنه كان واحدًا منَّا، وأنا شخصيًا صاحبته قبل الثورة، وفي أثناء الثورة وبعدها، ولم أرَ فيه وجهه الآخر إلا بعد أن ترسخ له ما يريده، وهو ما أحدث لي مفاجأة، لكن "عبد المنعم عبد الرؤوف"- الذي أسس تنظيم الضباط الإخوان، وضم "عبد الناصر" لصفوف الجماعة- حذَّر منه، إلا أنه يبدو أن قيادة الجماعة لم تعمل لذلك حسابًا!

 

وكان البكباشي "عبد المنعم عبد الرؤوف" والبكباشي "أبو المكارم عبد الحي" أسبق من "جمال" في تنظيم الضباط الإخوان، وبالفعل ألمح "عبد المنعم" إلى خطورة "عبد الناصر"، عندما أراد الأخير أن ينفصل عن الإخوان بحجة عدم صبغ الحركة بالإخوان؛ حتى لا ينفر منها الجيش، وأن الإخوان هم أصحاب الثورة القادمة، وقال: "أنا عايز أخلي الحركة عامة، ونحن الذين سنتحكم فيها لأننا قادتها"، وهو الكلام الذي قبله الإخوان بتوجُّس وحذَر، ولكن للأسف كان هذا مخطط "عبد الناصر" بعد أن استقرَّ له تنظيم الضباط الإخوان،  وكما قال "عبد الحكيم عامر" و"كمال الدين حسين": "بعد أن كان التنظيم يضم رواد المساجد أصبحنا نضم إليه رواد المقاهي والملاهي"، وهذا الأمر في تصوري ومن وجهة نظري "نصيحة أجنبية"، وهو استنتاج من جملة ما تجمَّع عندي من معلومات ومواقف.

 

الصدام

 الصورة غير متاحة

جمال عبد الناصر

*لكن البعض يتساءل:  لماذا لم يحاول الإخوان استيعاب "عبد الناصر"، خاصةً أنه أشاد بدورهم في بداية الثورة؟!

** لقد حدث بيني وبين "جمال" موقف محدد تأكدت منه أن "جمال" لا يريد الاتفاق"، فعندما أُنشئت هيئة التحرير كانت لديه فكرة أن ينضم الإخوان إلى الهيئة، وقد بعث إليّ- "عبد الناصر"- بعض الضباط الآخرين، ومنهم "أحمد طعيمة" و"العماوي" لسابق علاقتي القوية بهم لعرْض هذا الأمر عليَّ ومناقشته، قال لي "عبد الناصر" وقتها: "إننا أصبحنا حاجة واحدة، وأنا من الإخوان، فما لزوم وجود الجماعة طالما أنهم المسئولون عن البلد في ظل الثورة"؟.
 لقد كان "عبد الناصر" يريد تذويب الإخوان في الهيئة!

 

* هل كان هذا اللقاء شخصيًا أم رسميًا؟

** كان لقاءً شخصيًا، ضم "عبد الناصر" و"عبد الحكيم عامر" و"كمال الدين حسين"، وكنا على الغداء في منزل أحد قادة الإخوان، وجلست معه في أحد أركان الشقة، وتحدثنا لأكثر من ساعتين أكدت له خلالها ضرورة نبذ أي خلاف وصدام بين الجماعة والثورة، خاصةً أن نُذُرَها بدأت تلوح في الأفق، وهو ما سيكون له تأثير سلبي، ليس على الإخوان أو الثورة فقط وإنما على البلد كله، فقال لي "عبد الناصر": أقولك على الذي في نفسي وأخلص، قلت له: قل، فقال: أعمل لكم إيه يا "فريد"، أصل الإخوان عُصاة، فقلت له: عُصاة ليه يا "جمال"؟! فقال: أنتم تضايقونني؛ لأنَّكم تُريدون انتخابات حرة، والانتخابات الحرة تعني أن "النحاس" راجع مرة أخرى، وهذا يعني أنَّنا لم نعمل أي حاجة!! وتكون الثورة فشلت، فقلت له: أليس من أهداف الثورة أننا نريد حياة نيابية نزيهة وسليمة، وأن الجيش سيعود لثكناته بعد أن قضى على فساد الملك والحاشية؟! أم أنَّ هناك أمورًا خلاف ذلك؟!

 

فقال لي: أقولك ما عندي وأخلص، فقلت له: قُل، أنت نشَّفت ريقي فقال: أنا أقدر خلال سنتين أو ثلاث بالكثير أن أضَع يدي على ذرّ فتقوم البلد، وأضع يدي على زرّ آخر فتقعد البلد"، ومن هذا الموقف فهمت ما الذي يعشش في رأس "عبد الناصر" وهو حكم الفرد والديكتاتورية، فقلت: شوف يا "جمال"، إن هذا الطريق يؤدي إلى حكم الفرد والاستبداد،  فعاد وقال لي: "بصراحة.. أنا مش عارف إذا كان ده صح أو خطأ، ولكنه ما استقر في نفسي"، فقلت له: إنه خطأ بكل تأكيد، والذي سيبرهن ذلك التاريخ نفسه، وقد انتهى الاجتماع، ونقلت هذا الحوار لقادة الإخوان الذين بدأت تتكشف لهم حقائق "جمال عبد الناصر".

 

يوم الثورة

* مازال دور الإخوان يوم الثورة خافيًا عن أجيال كثيرة... فهل يمكن معرفة نبذة عن هذا الدور؟!

** بدأت الشرارة الأولى للثورة بتحركات نظمها "جمال عبد الناصر" مع مجموعة من الضباط الأحرار، وعددهم تجاوز التسعين بقليل، وكان معظمهم من الإخوان المسلمين أو سبق له الانضمام للجماعة، وقد وزع "عبد الناصر" أعداد الضباط التي تمكنه من السيطرة على الدولة، وقد تم تكليف البكباشي "عبد المنعم عبد الرؤوف"- مؤسس تنظيم الضباط الإخوان وعضو قيادة الضباط الأحرار- باحتلال ومحاصرة قصر رأس التين بالإسكندرية الذي كان الملك يُقيم فيه وقتها، كما تَمَّ تكليف "أبو المكارم عبدالحي"- وكان هو المسئول عن الضباط الإخوان في الجماعة وقتها- بالسيطرة على قصر عابدين وهو قصر الحكم الأول للملك، إضافةً إلى تأمين الحركة من أي تدخل ضد الجيش، وصدرت تعليمات واضحة من المرشد المستشار "الهضيبي" لكل المحافظات بحماية الثورة والجيش من أيّ حركة مضادة، كما تمَّ وضع الإخوان على طريق مصر- السويس، وكانت أخطر مهمة تلك الليلة؛ لأن تعداد الجيش الإنجليزي في السويس كان يبلغ80  ألف جندي؛ مما كان يمثل خطرًا شديدًا على الثورة من تحرّك الإنجليز، ولم يجد "عبد الناصر" أفضل من الإخوان لتأمين هذا الطريق، إضافةً لعمل جميع ضباط الإخوان كل في وحدته.

 

* هل كان رفض الإخوان لسيطرة "عبد الناصر" على تنظيمهم داخل الجيش سببًا للخلاف معه؟!

** ليس بالضبط، إذ كان هناك سبب أهم وأقوى، فالإخوان مع بداية الثورة كان هُتافهم الطبيعي في كل المحافظات التي كان يزورها اللواء "محمد نجيب" و"جمال عبد الناصر" ومجلس قيادة الثورة، هو: "الله أكبر ولله الحمد"، في الوقت الذي رفعت فيه الثورة شعار "القوة والاتحاد والعمل"، وهو ما حرَّك الهواجس في نفس "عبد الناصر" الذي أراد أن تكون الهتافات له شخصيًا وغير معبّرة عن اتجاه سياسي معين، والأهم من ذلك أن ما قام به "عبد الناصر"- سواء مع "عبد المنعم عبد الرؤوف" أو غيره من الإخوان داخل الجيش- من استبعاد، وما قام به مع الإخوان من تعذيب وقتل.. قام به مع غيرهم، فعندما استقر له الأمر استبعد كل مجلس قيادة الثورة، بل استبعد أي فرد أو اتجاه يمكن أن يتدخل معه أو ضده؛ لأن "عبد الناصر" كان حريًصًا جدًا على الانفراد بالسلطة.

 

* بعض من عاصر الأحداث أكد أن "عبد الناصر" استغل اللواء "صلاح شادي" في نقل معلومات خاطئة للإخوان حتى غرَّر بهم، فما صحة هذا الكلام؟!

** لتوضيح الأمور فإن "صلاح شادي" كان على صلة بـ"عبد الناصر" قبل أن يتولى المستشار "حسن الهضيبي" منصب الإرشاد، واستمرت العلاقة بعد ذلك لحرص "صلاح شادي" و"حسن العشماوي" على إحاطة المرشد بعد توليه منصبه بكل ما يدور بينهم كممثلين عن الإخوان، وبين "جمال عبد الناصر" كممثل لحركة الجيش، وكان "شادي" يمثل حلقة الوصل بين الإخوان والضباط الأحرار بموافقة من "الهضيبي"، وكان معه "منير دلة" و"صالح أبو رقيق" و"حسن العشماوي" و"عبد القادر حلمي"، وكان "عبدالناصر" حريصًا على هذه العلاقة، ومع "صلاح شادي" بالذات؛ لأنه مسئول قسم الوحدات، وهو قسم يقوم بتدريب العمال والطلاب ورجال البوليس غير المنضمين للتنظيم الخاص،  وهي العلاقة نفسها التي كان "عبد الناصر" يحرص عليها مع "عبد الرحمن السندي" مسئول التنظيم الخاص، وكان دافعه لذلك محاولة إيجاد فرصة لضرب أحدهما بالآخر، فكان يقول لـ"صلاح" كلامًا وعكسه لـ"السندي"؛ من أجل الوقيعة بينهما، وبالتالي بين قسمين من أهم أقسام الجماعة.

 

اتصالات الإخوان بالإنجليز

* ما حقيقة اتصالات الإخوان بالإنجليز قبل معاهدة الجلاء؟!

** طلبت السفارة البريطانية لقاء وفد من الجماعة لاستطلاع رأي القوى الشعبية السياسية في اتفاقية الجلاء، وقبل الرد عليهم طلب المرشد العام إخبار "عبد الناصر" ورجال الثورة ومعرفة رأيهم فوافق "عبد الناصر" فورًا، بل وطلب من المرشد أن يعضد موقف مصر، وكان يعلم بالاجتماعات أولاً بأول، وكان للمرشد طلبات محددة في الاتفاقية هي أن تكون الاتفاقية ناجزة وشاملة ودون قيد أو شرط، وهي طلبات لم يصل إليها قادة الثورة أنفسهم مع الإنجليز، وعندما علم "عبد الناصر" بها أصرَّ عليها، وبنى موقفه على كلام المرشد العام، ورغم كل ذلك فقد جعل هذه اللقاءات- التي كانت تتم بعلمه وموافقته، والتي استفاد منها هو شخصيًا- أداة اتهامه ضد الجماعة!

 

ومن الغرائب أنه عندما اعتُقل "حسن العشماوي" كان الاتهام الذي وجهه وكيل النيابة له وجود أسلحة في عزبة والده؛ بهدف مقاومة الثورة، وكانت هذه الأسلحة خاصة بـ"عبد الناصر"، وهو الذي وضعها، وقال العشماوي له: "تعال خذ الأسلحة حتى لا تتلف وتصدأ" ولم يجد "العشماوي" ردًا على وكيل النيابة إلا أن قال له: "اذهب لـ"جمال عبد الناصر" وقل له: هل أقول من وضع الأسلحة أم لا؟!  فما كان من "جمال عبد الناصر" إلا أن أمر بشطْب هذا السؤال.

 

الهدف الأخير

* أخيرًا:  بعد مرور51 عامًا على ثورة يوليو، هل حقَّقت الثورة أهدافها الستة؟!

** كان أهم الأهداف الستة الهدف الأخير الخاص بحياة نيابية سليمة، والإصلاح الدستوري، وللأسف فالواقع هو الذي يمكن أن يجيب عن هذا السؤال، فالفساد مستشرٍ في كل القطاعات، والعجز والظلم السياسي والاجتماعي واضح، وحتى قانون الملكية الزراعية لم يتحقق كله- ومازال-، وبرغم مرور50  سنة فإن قانون العلاقة بين المالك والمستأجر حبيس الأدراج ولم ير النور، أما قضية التعليم وما يُقال عن المجانية فكل بيت الآن قد نسي مصطلحًا اسمه "المجانية"، كما لم تتراجع نسب الأمية.

 

والخلاصة أن هذه الأهداف لو كانت قد تحققت ما كانت مصر ضمن دول العالم الثالث، ومازلنا بعد51  سنة نحاول تحديد وجهتنا الاجتماعية والحضارية والثقافية، ومازالت فلسفة الحزب الواحد والتعددية الصورية هي الفلسفة السائدة، وليس هناك احترام للحريات وحقوق الإنسان، فمازال التعذيب في السجون مستمرًا والاعتقال المتكرر صفةً من صفات الأنظمة الحاكمة؛ لذلك فلم يبق من الثورة إلا اسمها فقط