جلس أمامى مطأطئ الرأس حزينًا، شارد الذهن كمن أصابته مصيبة.. ما لك يا فلان؟!، نظر إلىّ مغضبًا -كأنه يعاتبنى لعدم إحاطتى بأسباب همّه- قال: وماذا بعد؟!، أدركت ماذا يقصد.. إنه أحد الذين انحازوا للشرعية واهتموا بمجريات الأحداث بعد أن كان مشغولا على مدى خمسين سنة -هى عمره- بما تنشغل به غالبية شعبنا المسكين.. واليوم جاء محبطًا، يشكو تأخر النصر وبروز الباطل وقد اسودت الدنيا في ناظريه فلم ير بهما سوى ظلمات بعضها فوق بعض.. 


قلت: يا أخى، لعلك لا تدرك أن النتائج لا نقررها نحن، بل هى من صنع الله، فى طريقتها وزمنها المناسبين، وأنا مأمورون فقط بالسعى والعمل، فضلا عن اجتناب المعاصى والإكثار من الطاعات والاستعانة بالله فى غدونا ورواحنا، وقبل ذلك الصبر على طول الطريق ومشقاته، فإن ذلك شطر الإيمان، وأننا -لا محالة- معرضون للابتلاءات، هذا إذا كنا صادقين فى حبنا لله، مخلصين لشريعته ودينه، ولو نجا أحد من تلك الابتلاءات والمحن لنجا منها رسل الله، وهم المجتبون الأخيار الذين صنعهم على عينه ورباهم على طريقته. 


واستطردت: إن انتفاش الباطل وفرض سلطانه على الأغلبية بقوة البطش والسلاح لا يعنى أبدًا أنه منتصر، إنما الحقيقة أنه فى قمة انكساره، ولو كان واثقًا من نفسه مطمئنًا إلى الشعب الذى يحكمه ما ظل هكذا شاهرًا سلاحه فى وجه الجميع، متوترًا مهووسًا، يحسب كل صيحة عليه، ولتعلم أن الطغاة جميعًا يسلكون هذا المسلك الحيوانى، ليس لأنهم أقوياء ولكن لضآلتهم وهوانهم يستترون خلف هذه الأسلحة لإجبار الأحرار على الاعتراف بهم والسير تحت لوائهم، وإن كان هذا اللواء يجلله العار ويكسوه الشنار. 


وقلت لصديقى: إن المؤمن الطائع الفاهم لدينه يثق فى وعد الله للمتقين، مهما طال الطريق، فلا ييأس، ولا يقنط، ولا يبدل أو يغير؛ لعلمه أن القوى العزيز لا يضيع أولياءه، ولا ينسى أصفياءه، فهو معهم أينما كانوا، داعمًا وحافظًا ونصيرًا. وأهل الشرعية يا سيدى لم يظلموا أو يفجروا أو يجوروا كى يتعرضوا لكل هذا الأذى والعذاب، إنما كل ما فعلوه أن قالوا ربنا الله، فنقم المجرمون منهم وأمروا بقتلهم والتشنيع عليهم، وهذا لعمرى هو عين ما جرى لأنبياء الله ورسله، فلم يؤذ نبينا الكريم قومه يوم أن جاء بدعوته، بل قال لهم -حرصًا عليهم ورغبة فى هدايتهم-: إنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد، فردوا عليه بقول غليظ وفحش صريح، قالوا: تبًا لك سائر اليوم، وهكذا دأب الفاسدين يقابلون الإحسان بالإساءة، والحسن بالقبيح، والعفة بالبذاءة. 


ووالله لن يضيع الله قومًا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وأرادوا لأوطانهم وأقوامهم خيرًا، وإن عاداهم الخلق جميعًا، وإن قتلوا وحرقوا وفعلت بهم الأفاعيل، ذلك أن الله غالب على أمره، وما حاده أحد إلا سلط عليه سيف انتقامه، وما أوذى أحد فى سبيله إلا كانت له عاقبة حسنى، وكان هو الأعلى، ألم تر ما فُعل بيوسف -عليه السلام- وقد انتقل من محنة إلى أخرى حتى ولاه الله الحكم، وأخلد ذكره فى العالمين وجعله المثل الأعلى فى الهدى والتقى والعفاف والإحسان؟ 


وانظر إلى ما جرى لموسى -عليه السلام- وقد كاد فرعون أن يلحق به وبقومه، ولم يكن أمامهم مهرب، فالبحر أمامهم والعدو خلفهم، لكن أراد الله أن يعطى الجائزة لأهله وخاصته، وأن يهلك من كفر به وبرسوله، فانفلق البحر فسار فيه موسى ومن معه، ودخله فرعوت مغترًا بقوته وبمن حوله، فأغرق، ثم ينجو بدنه ليكون لمن خلفه آية، فهل اتعظ هؤلاء؟! لم يتعظوا لغباء فى عقولهم ولسواد فى قلوبهم، ما جعل نهاياتهم سوداء، أرادوها كذلك للرسل والدعاة، فكتبها الله عليهم عقيمًا كالحة ليشفى بذلك صدور قوم مؤمنين. 


إن شعار المؤمن ما قاله موسى يوم نجاه الله وأغرق فرعون: {إنَّ مّعٌيّ رّبٌَي سّيّهًدٌينٌ} [الشعراء: 62]، وهو نفسه شعار محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يوم نجاه الله من المشركين {ثّانٌيّ \ثًنّيًنٌ إذً هٍمّا فٌي پًغّارٌٌ إذً يّقٍولٍ لٌصّاحٌبٌهٌ لا تّحًزّنً إنَّ پلَّهّ مّعّنّا} [التوبة: 40]، وهو نفسه شعار يوسف عليه السلام لما لخص تجربته فى الحياة {إنَّهٍ مّن يّتَّقٌ $ّيّصًبٌرً فّإنَّ پلَّهّ لا يٍضٌيعٍ أّجًرّ پًمٍحًسٌنٌينّ} [يوسف: 90]، وهو نفسه شعار نوح عليه السلام لما سخر منه قومه عندنا كان يصنع السفينة لينجو بها ومن معه من المؤمنين، قال: {إن تـّسًخّرٍوا مٌنَّا فّإنَّا نّسًخّرٍ مٌنكٍمً كّمّا تّسًخّرٍونّ <38> فّسّوًفّ تّعًلّمٍونّ مّن يّأًتٌيهٌ عّذّابِ يٍخًزٌيهٌ $ّيّحٌلٍَ عّلّيًهٌ عّذّابِ مٍَقٌيمِ} [هود: 38، 39]. 


هناك -إذًا- من يغتمّ لما يرى من اجتماع المجرمين على دعوة الله، والتنكيل بأبنائها، وهؤلاء يحتاجون إلى مراجعة ما جرى للصالحين من قبلهم، وهناك الواعون الواثقون بربهم الذين يستبشرون لمثل هذا؛ فإن هذا إن وقع فهو يعنى أنهم يسيرون فى الطريق الصحيح، وأن النصر قاب قوسين أو أدنى منهم، اقرأ معى قول الله تعالى: {$ّلّمَّا رّأّى پًمٍؤًمٌنٍونّ الأّحًزّابّ قّالٍوا هّذّا مّا $ّعّدّنّا پلَّهٍ $ّرّسٍولٍهٍ $ّصّدّقّ پلَّهٍ $ّرّسٍولٍهٍ $ّمّا زّادّهٍمً إلاَّ إيمّانْا $ّتّسًلٌيمْا} [الأحزاب: 22]، {پَّذٌينّ قّالّ لّهٍمٍ پنَّاسٍ إنَّ پنَّاسّ قّدً جّمّعٍوا لّكٍمً فّاخًشّوًهٍمً فّزّادّهٍمً إيمّانْا $ّقّالٍوا حّسًبٍنّا پلَّهٍ $ّنٌعًمّ پًوّكٌيلٍ} [آل عمران: 173].   


لا خوف إذًا على الدين، فالله حافظه، لكن الخوف -كل الخوف- على أنفسنا، أن نطاوعها فيما جبلت عليه من الركون إلى الدعة وإيثار السلامة، فتزل قدمٌ بعد ثبوتها ونكون فى عداد الخاسرين {$ّإن تّتّوّلَّوًا يّسًتّبًدٌلً قّوًمْا غّيًرّكٍمً ثٍمَّ لا يّكٍونٍوا أّمًثّالّكٍمً} [محمد: 38].. نسأل الله السلامة.