هذا رجل مولع بالصور والحركات السينمائية، يحركه في كل خطواته ذلك الوله القاتل بصيحات الجمهور، من الطبيعي، إذن، أن يكون ذهابه إلى إثيوبيا بحثاً عن لقطة، لا دفاعاً عن قطرة مياه النيل.


دراما رحلة عبد الفتاح السيسي إلى بلاد الحبشة لا تختلف عن رحلة أنور السادات إلى القدس المحتلة، كلتاهما تراجيديا مؤلمة، أفسدت المستقبل، من أجل لحظة نشوة فردية عابرة، وكلاهما عينه على لجنة تحكيم مهرجان الانسلاخ من استحقاقات التاريخ، وبديهيات الجغرافيا.

كلاهما كان يبحث عن ذاته الفردية، ويستدر آهات الإعجاب بالقفزة التاريخية، طلبا لمجد شخصي زائف، تعرف الميديا الغربية جيداً كيف تصنعه، وتقدمه في أغلفة أنيقة لكل مهووس بالعظمة والصور التذكارية، وكما ذهب خمر لقب "بطل الحرب والسلام" برأس أنور السادات، ها هو رأس السيسي يشتعل بجنون عظمة ما أسبغه عليه الإثيوبيون من صفات، عقب إذعانه أمام الحلم الحبشي بسد النهضة، وتقديمه صك الاعتراف المجاني بالسد الذي يضع مصر في فوهة العطش، تماما كما منح السادات صك الاعتراف بالعدو الصهيوني، مخرجا مصر من معادلة الصراع، وبانياً سداً شاهقاً بينها وبين محيطها العربي.
سافر السيسي إلى الحبشة، تسبقه عناوين تدير الرأس، تصنفه أول حاكم مصري تستقبله أديس أبابا في زيارة ثنائية خاصة منذ ثلاثين عاماً، وتصوره قائداً جسوراً ينسف ألغام التاريخ الشائك، ليتلقفه الإثيوبيون، ويسمعونه ما يدركون أنه مفتون به، فيباغته رئيس الوزراء هاي ﻻميريام ديسالين بجملة في منطقته الحساسة "في بلادنا نتفاءل بالزعماء الذين تهطل اﻷمطار عند حضورهم، وأن السيسي حضر وهطلت اﻷمطار في وقت غير معتاد من العام".

وعلى الفور، يترجم وزير الري المصري الجملة، بأنها "أحد الدﻻئل على التطور الكبير في العلاقات وأسلوب التعامل بين مصر وإثيوبيا، انطلاقا من التوقيع المشترك على اﻻتفاق الثلاثي على مبادئ سد النهضة وزيارة الرئيس اﻻستثنائية إلى أديس أبابا".

وتدغدغ هذه الجملة السيسي عاطفياً، فينطلق لسانه تدلهاً في "الأشقاء الإثيوبيين" والمستقبل المشترك الواعد، يقولها، وقد ترك خلفه سداً أعلى من سد النهضة، يفصل عنصرياً بين المصريين، جعله ينقل كل معارضيه من كونهم أشقاء مصريين إلى أعداء لدودين، الأمر نفسه مارسه عملياً بإسقاط وشيجة الأخوّة عن أشقائنا المقاومين الفلسطينيين، تزلفاً وتقرّباً لأصدقائه وحلفائه الإسرائيليين.

وليس من المستبعد أن يكون السيسي، في هذا الطقس العاطفي الساخن، قد قدم اعتذارا "للأشقاء الإثيوبيين" عن تناول مناهج التعليم وكتب التراث قصة جدهم "أبرهة الحبشي"، وأمر لدى عودته بإعادة صياغة القصة، على النحو الذي يعجبهم، ووضعها في كتب التاريخ، عوضا عن صلاح الدين الأيوبي وعقبة بن نافع، مع التوجيه بإقامة تمثال لفيل أبرهة في قلب ميدان التحرير.

وتسأل في ظل هذه الأجواء الملبدة بغيوم احتفالية ماجنة باتفاق مبادئ غامض بشأن مستقبل مياه النيل، لم يعرض على المصريين، ولم يناقشه أحد، فيكون الرد أنه ما دام الزعيم الملهم راضياً ومبسوطاً، فلا شيء مهماً بعد ذلك، لا يهمهم تفاصيل اتفاق سري، يخص مستقبل أجيال قادمة، بقدر ما يهمهم أن تمر الحفلة على النحو الذي يشبع جوع الزعيم للمجد، والخروج بعناوين فاقعة عن أول رئيس يغزو إثيوبيا عاطفياً منذ ثلاثة عقود، محمولاً على ظهر طائرة وضعوا عليها ملصق "تحيا مصر"، لا يختلف في دلالته عما تقرأه على زجاج سيارات النقل و"التوك توك" في القرى والأحياء الشعبية.

تركوا كل شيء، وركزوا على رحلة كسر الحاجز النفسي، في استعادة شديدة الإسفاف لما أنتجته جوقة الطبالين والزمارين، عند زيارة تحطيم الجدران النفسية والتاريخية التي أجلست السادات في حجر الكنيست الإسرائيلي.

ذهب السيسي إلى الحبشة، وعاد باتفاقية كان عنوانها "الخضوع لسد إثيوبيا"، وليس التباحث حول مستقبل النيل، فلا التزامات محددة، ولا آليات للتنفيذ، فقط زفة كبيرة، وضجيج تلفزيوني عن الزيارة التاريخية، على طريقة مسرحية "سلام الشجعان" بطولة أنور السادات، والتي لاتزال تعرض حتى الآن، مع تغيير الشخوص والأماكن.

------
*نقلاً عن "العربي الجديد"