محمد عوض

باحث في الدراسات الإسلامية

كان شعلة من النشاط في الطاعة والسعي في العمل للتمكين للحق والخير، وشيئا فشيئا كَسِلَ وأخذ في التهاون والتقاعد والتراخي والتقصير.
وجاء يشكوا تبدل الحال:


- "منهم لله" من كانوا سببا في كسل من بعد نشاط.
- من هم؟
- هؤلاء الذين كانوا يعيونونني على الخير ويأخذون بيدي من قرناء، بل وللأسف وأساتذة كانوا لي بمثابة القدوة.
- وما الذي أصابهم؟
- سبقوني إلى الكسل والتراخي بمراحل، فبعد أن كنا في الطريق بالمئات صرنا عشرات بل آحادا وأصفارا في أحايين كثيرة.
- وما علاقة كسلهم بكسلك؟
- سؤال غريب من حضرتك جدا!! ألم تعلمنا باستمرار أن "الطبع لص يسرق الخير والشر"؟
- بلى.. ولكن لم قبلت أن تكون هذا الإنسان ضعيف "المناعة" الذي "يُعديه" غيره، لا الإنسان الذي يأخذ أفضل ما عند غيره و"يُعدي" غيره بأفضل ما عنده؟!!
- لا أفهم هل يمكنك الإيضاح؟!! قالها في اندهاش
- الهبوط سهل ميسور لكن عاقبته وخيمة ولذا كان طريق النفوس الصغيرة التي تتعلل بمثل ما تعلل به، والصعود صعب عسير، لكنه محمود العواقب وهو طريق أصحاب النفوس الكبيرة.
- كلامك جاف فهل يمكن التوضيح بالمثال الذي به يتضح المقال؟
- قبل الأمثلة أضع بين يديك قاعدة هامة من "مشكاة النبوة".
- تفضل ..قالها بشغف.
- "انظر في دينك إلى من هو فوقك، وفي دنياك إلى من هو دونك".
- صلى الله عليه وسلم.
- ليست حديثا إنما مستوحاة من حديث.
- ما هو؟


- في سنن الترمذي: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «خَصْلَتَانِ مَنْ كَانَتَا فِيهِ كَتَبَهُ اللَّهُ شَاكِرًا صَابِرًا، وَمَنْ لَمْ تَكُونَا فِيهِ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ شَاكِرًا وَلَا صَابِرًا، مَنْ نَظَرَ فِي دِينِهِ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فَاقْتَدَى بِهِ، وَنَظَرَ فِي دُنْيَاهُ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا فَضَّلَهُ بِهِ عَلَيْهِ كَتَبَهُ اللَّهُ شَاكِرًا وَصَابِرًا، وَمَنْ نَظَرَ فِي دِينِهِ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ، وَنَظَرَ فِي دُنْيَاهُ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فَأَسِفَ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْهُ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ شَاكِرًا وَلَا صَابِرًا».


هذا طريق الفلاح لكننا عكسنا الوضع، فصرنا ننظر في أمر الدين إلى المقصر، ونقيس أنفسنا به ونرى أنفسنا خيرا منه، وننظر في أمر الدنيا لمن فوقنا فنصاب بالسخط عليه وعلى القدر الذي لم يمنحنا مثل ما مُنِح..إلى غير ذلك من الأمراض.
- أحسنت فهل ننتقل إلى الأمثلة والنماذج الحية حتى لا يكون كلامك مجرد كلام في فضاء "المثاليات والنظريات"؟
- حسن.. هل تعرف "قصة أصحاب الأخدود" الواردة في "الأحاديث النبوية"؟
- نعم.... ولكن ما علاقتها بما نحن فيه؟!!


- إن "الغلام" لم يجعل من نفسه "نسخة كربونية" من "الراهب" الذي رباه وعلمه بحجة أن "الطبع لص...", بل استوعب منه "علمه" أولا، ثم تجاوزه في "الحركة" بهذا "العلم" وتفعيله في الواقع ثانيا، ليدفع ضريبة ذلك آخرا، لقد نظر هذا "الغلام" – وهذا ما علينا فعله - إلى "طاقاته ووسعه" هو، ولم ينظر إلى "طاقات ووسع" غيره حتى ولو كان هذا الغير شيخه ومربيه.


- كيف؟!! ... لا أفهم
- إن "الراهب" - خشية الضرر - انعزل بعلمه عن الناس في صومعة لا يَسعى بل يُسعَى إليه، فهل قلده "الغلام التلميذ" في انعزاله؟!!
- لا....بل واجه الواقع لتغييره ولذلك كانت نهايته "الاستشهاد" كما توقع "الراهب".... نعم نعم وضحت فكرتك.
- إن مما يساعدنا على "الاحتياط" من "الكسل" والخروج منه ألا نقيس أنفسنا إلا بـ"الأعلى"، وأن يكون كل واحد منا هو "الطائر الآخر".
- عفوا .. وما "الطائر الآخر"؟!!


- يروي الصوفية أن شقيقا البلخي - أحد الصالحين - ذهب في رحلة تجارية يضرب في الأرض يبتغي من فضل الله. وقبل سفره ودع صديقه الزاهد المعروف إبراهيم بن أدهم حيث يتوقع أن يمكث في رحلته مدة طويلة، ولكن لم تمض إلا أيام قليلة حتى عاد شقيق وراه إبراهيم في المسجد، فقال له متعجبا: ما الذي عجل بعودتك؟ قال شقيق : رأيت في سفري عجبا فعدت عن الرحلة. قال إبراهيم: خيرا ماذا رأيت؟ قال شقيق: أويت إلى مكان خرب لأستريح فيه، فوجدت به طائرا كسيحا أعمى، وعجبت وقلت في نفسي: كيف يعيش هذا الطائر في هذا المكان النائي وهو لا يبصر ولا يتحرك؟ ولم ألبث إلا قليلا حتى أقبل طائر آخر يحمل له الطعام في اليوم مرات حتى يكتفي، فقلت: إن الذي رزق هذا الطير في هذا المكان قادر على أن يرزقني، وعدت من ساعتي. فقال له إبراهيم: عجبا لك يا شقيق، ولماذا رضيت لنفسك أن تكون الطائر الأعمى الكسيح الذي يعيش على معونة غيره ولم ترض لها أن تكون الطائر الآخر يسعى على نفسه وعلى غيره من العميان والمقعدين؟ أما علمت أن اليد العليا خير من اليد السفلى؟ فقام شقيق إلى إبراهيم وقبل يده وقال: أنت أستاذنا يا أبا إسحاق وعاد إلى تجارته".


- ما شاء الله لا قوة إلا بالله، نعم صدق من قال إن "العلم نور"، إي والله إن هذا لخير تشخيص لأسباب ما أصابني من داء "الكسل" العضال، وأعدك أيها "الشيخ" ببذل الجهد في الاستعانة بالله تعالى في التمثل بـ"خير الطائرين" والتأسي بـ"بأبي العلاء" لا "عمرو"!!
- ومن "أبو العلاء" ومن "عمرو" وما صلتهما بموضوعنا؟!!


- ألا تعرفهما... ؟!! متسائلا بفرح أن غاب عني شيئا يعلمه.
- إنه "أبو العلاء المعري" الذي استعصى على "العدوي" من "خالد".
- ومن "خالد" هو الآخر؟!! وقبل ذلك لَمْ تخبرني من "عمرو"؟!!


- لقد جمع "ثَلاثتَهم" مجلسٌ تثاءب فيه "خالد" لتنتقل "عدوى" تَثاؤُبِهِ إلى "عمرو" دون "أبي العلاء" الذي افتخر بذلك مُنشِأً:
تثاءب عمرو إذ تثاءب خالد ... بعدوى فما أعدتني الثُوَيْباء
ساد الضحك المكان .. وافترقنا على أمل أن تعود الأمور سيرتها الأولى.