بقلم: فوزي منصور

لقد عُرج بالنبي- صلى الله عليه وسلم- من المسجد الأقصى إلى السموات العلى، وفي السماء قابل الأنبياء، وظلَّ يصعد في السماء حتى وصل إلى سدرة المنتهى، وهناك تقدَّم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتأخَّر أمين الوحي جبريل عليه السلام، ثم فرض الله عز وجل على نبيه وأمته فريضة الصلاة، وقد كانت خمسين صلاةً في بادئ الأمر ثم صارت خمس صلوات في اليوم والليلة.

 

وهنا لنا وقفةٌ، فقد فرضت جميع الفرائض في الأرض، مثل الصيام الزكاة والحج والجهاد، حيث كان ينزل أمين الوحي جبريل عليه السلام على رسولنا محمد- صلى الله عليه وسلم- ويخبره بما فرضه عليه ربه، إلا فريضة الصلاة، فإن الله عز وجل انتدب له عبده ورسوله- صلى الله عليه وسلم- ولم يجعل بينهما وسيطًا كباقي الفرئض، وهذا إن دلَّ فإنما يدل على عِظَم هذه الفرضة وأهميتها في الإسلام.. يقول الإمام الشهيد حسن البنا- رحمه الله-: "إنه قد فُرضت في هذه الرحلة المباركة فريضةُ الصلاة، وذلك إعلانًا بعظيم منزلتها، فقد أراد الله تعالى أن يُشعره بعلوِّ قدرها، فقرَّرها من فوق سبع سموات؛ ليكون ذلك إيذانًا بقوتها وعظيم فضلها، وإلفاتًا لأنظار الناس بعلوِّ شأنها، من أقامها فقد أقام الدين".

 

هدية الرحلة

والصلاة في الحقيقة هي أعظم هدية من رب العالمين إلينا، هي هدية رحلة المعراج لأمة الحبيب محمد- صلى الله عليه وسلم- لأن المؤمن تعرج روحه بالصلاة إلى الله عز وجل وتسمو فوق الماديات والشهوات، وتحلِّق في آفاق السموات، فهي معراج المسلم إلى ربه، فحينما ننشغل بأمور الدينا ومصالحنا نسمع النداء العلوي (الله أكبر) فنترك الدنيا وما فيها ونهرع إلى الصلاة لتعرج أرواحُنا إلى عرش الرحمن في طهارة وصفاء.

 

والصلاة هي معراج يعرج المسلم فيها بروحه إلى خالقه- سبحانه وتعالى- حين يخاطب ربَّه ويذكره في صلاته، والله- عز وجل- يذكره في نفسه وفي ملأٍ خير من ملائه، فقد رُوي عن أبي هريرة أنه سمع النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- يقول: "قال الله تعالى: قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل: فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال مجدني عبدي، وقال مرة فوَّض إلي عبدي، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل". (أخرجه الإمام مسلم)

 

هل نقبل الهدية؟!

لقد كانت الصلاة هديةً من الله إلينا بكل ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ.. نعم إنها هدية، فالإنسان عندما تتجمع عليه الهموم وتتزاحم عليه الأحزان، لا يجد ملاذًا آمنًا وملجأً إلا إلى الله عز وجل، فيسرع ويتوضأ وضوءًا طاهرًا من ماءٍ طهور يُطهر نفسه من دنس الذنوب والآثام، ثم يدخل في الصلاة يناجي خالقه ورازقه، ويسأله أن يكشف عنه هذه الهموم، ويزيل عنه هذه الأحزان، فما هي إلا لحظات وتسمو روحه وتعرج إلى بارئها ويشعر المؤمن براحةٍ نفسيةٍ لا مثيلَ لها ويخرج من صلاته وهو يتذكر قول الحبيب المصطفى- صلى الله عليه وسلم-: "أرحنا بها يا بلال"!!

 

لكنَّ هناك قومًا لم يقبلوا هدية الرحمن وتثاقلت رؤسُهم عن الصلاة وظنوها همًّا ثقيلاً مع أنها هي التي تُذهِب الهموم، وقد رأى النبي- صلى الله عليه وسلم- في رحلته قومًا تُرضخ رؤوسهم بالحجارة، وكلما رضخت عادت كما كانت، ولا يُفتَّر عنهم من ذلك شيء، قال:"يا جبريل مَن هؤلاء؟" قال: "هؤلاء الذين تثاقلت رؤوسهم عن الصلاة"!!

 

الصلاة حياة الروح

فيا مَن تركت هدية ربك، ويا مَن تؤخر الصلاة عن وقتها وتترك نداء الله عز وجل وتذهب إلى النداءات السفلية في الأرض.. قل لي بالله عليك.. هل أنت راضٍ عن نفسك؟! اصدقني القول: هل تشعر براحةٍ في حياتك؟! وأنا أقسم لك أنه لو حِيزت لك الدنيا بحذافيرها وأنت تاركٌ للصلاة فلن تشعر براحة في حياتك وستجد الهمومَ والأحزان تترى على قلبك وأنت لا تعلم مصدرها، مع أن كل المتع معك.. ولكنك نسيت أمرًا مهمًّا، هو أنك مكونٌ من عنصرين رئيسَين الروح والجسد، وما عندك من متعٍ ولذاتٍ هو غذاء الجسد فقط.

 

أما الروح فهي فقيرة ولن تجد لها غذاءً إلا من عند خالقها، فإن حرمتَها من لقاء ربها في الصلاة، فستمرض روحك ولا علاجَ لها إلا بالعودة والرجوع إلى ربها وقبول هديته والدخول في الصلاة.. فعندها ستدبُّ الحياة في روحك وسيفض قلبُك بالبشر والسعادة، وستحلِّق روحك في آفاق العلا، وستعلم أنك كنت قبل ذلك ميتًا، وأن الله أحياك بنور الهداية إليه، وقد صدق الله عز وجل إذ يقول: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾؟! (الأنعام: من الآية 122).