فوَّض أمره إلى ربه سبحانه وتعالى في قسوة الحياة التي عاشها، بمولده ونشأته فقيرًا يتيمَ الأب، وفي شلله التام الذي سلبه ريعان شبابه، وفي جهاده واعتقاله ومحاولات اغتياله المتكررة، وأخيرًا في شهادته التي لقي الله تعالى بها صائمًا قائمًا لله عابدًا.. إنه القعيد الذي أقام العالم ولم يزل.. إنه الشيخ أحمد إسماعيل ياسين مؤسس حركة "حماس".

 

الشيخ الياسين.. ذلك الرجل القعيد، صاحب الهمة العالية، الذي حرَّك أمة كاملةً، وتمتع بمنزلة روحية ودينية وسياسية مميزة في صفوف المقاومة الفلسطينية؛ ما جعل منه أحد أهم رموز العمل الوطني خلال القرن العشرين.

 

بدروس كبيرة

وُلد الإمام أحمد إسماعيل ياسين سنة 1938م في قرية الجورة قضاء المجدل شمال قطاع غزة، ولجأ مع أسرته إلى قطاع غزة بعد نكبة عام 1948م كبقية أبناء الشعب الفلسطيني الذين هجِّروا من ديارهم وقراهم آنذاك وكان عمره وقتها بلغ الـ12 ربيعًا، وخرج من النكبة بدروس كبيرة أثرت في حياته فيما بعد.

 

ومات والد "ياسين" وعمره لم يتجاوز 3 سنوات، وكني الشيخ الشهيد أحمد ياسين في طفولته بأحمد سعدة؛ نسبةً إلى أمه الفاضلة (السيدة سعدة عبد الله الهبيل)؛ لتمييزه عن أقرانه الكثر من عائلة ياسين الذين يحملون اسم أحمد.

 

بعد الهجرة إلى غزة تغيرت الأحوال وعانت الأسرة؛ شأنها شأن معظم المهجَّرين الفلسطينيين مرارة الفقر والحرمان والتشرد، واضطر إلى ترك دراسته عام 1949م لمدة سنة دراسية كاملة؛ ليبحث عن عمل ليعول أسرته المكونة من 7 أفراد، ثم عاود الدراسة بعدها مرةً أخرى.

 

حادثة خطيرة

 الصورة غير متاحة
 

في السادسة عشرة من عمره تعرَّض الشيخ ياسين لحادثة خطيرة أثرت على بقية حياته عام 1952م، فقد أصيب بكسر في فقرات العنق أثناء لعبه مع بعض أقرانه على شاطئ بحر غزة، وبعد مرور الشهر من وضع رقبته داخل جبيرة من الجبس اتضح أنه مصابٌ بشلل نصفي، ثم أثرت تلك الإعاقة على مجمل حركته وحياته الطبيعية ليعيش بقية عمره رهينَ شلل كلي أصابه بقدر من الله.

 

وعانى الياسين خلال حياته من عدة أمراض؛ منها فقدان البصر في العين اليمنى بعدما أصيبت بضربة أثناء جولة من التحقيق على يد مخابرات الاحتلال فترة سجنه أواخر الثمانينيات، والتهاب مزمن بالأذن وحساسية في الرئتين وبعض الأمراض والالتهابات المعوية الأخرى.

 

أنهى دراسته الثانوية عام 1958م، وعمل مدرسًا ليساعد أسرته مما كان يجنيه من محصل مهنة التدريس، وشارك في العشرينيات من عمره في المظاهرات التي اندلعت في غزة احتجاجًا على العدوان الثلاثي الذي استهدف مصر عام 1956م أظهر خلال تلك الفترة قدراتٍ خطابيةً وقياديةً ملموسةً.

 

بدأت مواهب الياسين الخطابية تظهر بقوة، وبدأ معها نجمه يلمع وسط الدعاة الغزيين؛ الأمر الذي لفت إليه أنظار المخابرات المصرية لتعتقله عام 1965م ضمن حملة الاعتقالات التي شهدتها الساحة السياسية المصرية التي استهدفت كلَّ من سبق اعتقاله من جماعة الإخوان المسلمين، وتركت فترة الاعتقال في نفسه آثارًا مهمةً، عمَّقت في نفسه كراهية الظلم.

 

بعد هزيمة نكسة عام 1967م التي احتل فيها الكيان كل الأراضي الفلسطينية- بما فيها قطاع غزة- استمر "ياسين" في إلهاب مشاعر المصلين من فوق منبر مسجد العباس غرب غزة، وكان أكثر مسجد يرتاده الشيخ الياسين وقتها ليخطب فيه لمقاومة المحتل وليجمع التبرعات لمعاونة أسر الشهداء والأسرى في سجون الاحتلال.

 

يشار إلى أن الإمام الشهيد أحمد ياسين كان يحمل فكر جماعة الإخوان المسلمين التي تأسست في مصر عام 1928م على يد الإمام حسن البنا، والتي تدعو إلى فهم الإسلام فهمًا صحيحًا شاملاً في التطبيق في كافة مناحي الحياة عبر تمسكها بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

 

وقد أُزعجت "إسرائيل" كثيرًا بأنشطة "ياسين" الدعوية والاجتماعية والتنظيمية، فقرَّرت اعتقاله مرةً أخرى عام 1982م ووجهت إليه تهمة تشكيل تنظيم عسكري وحيازة أسلحة، وأصدرت عليه حكمًا بالسجن 13 عامًا، لتعاود إطلاق سراحه منتصف الثمانينيات في إطار صفقة لتبادل الأسرى بين الكيان والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين "القيادة العامة" بقيادة أحمد جبريل.

 

تنظيم إسلامي

 

 الصورة غير متاحة

 الشيخ ياسين بين مؤيديه ومحبيه

اتفق الشيخ أحمد ياسين عام 1987م مع مجموعة من قادة العمل الإسلامي يعتنقون فكر الإخوان المسلمين في قطاع غزة على تكوين تنظيم إسلامي لمقاومة الكيان الصهيوني؛ بهدف تحرير فلسطين، أطلقوا عليه اسم حركة المقاومة الإسلامية، عرفت بعدها باختصار "حماس"، وكان لها دورٌ مهمٌّ في الانتفاضة الفلسطينية التي اندلعت في 7 من ديسمبر من عام 1987م.

 

ومع ازدياد وتيرة العمليات ضد جيش الاحتلال وجنوده واغتيال العملاء عبر تأسيس حماس لجهازها الأمني المعروف باسم "مجد"، قام الاحتلال في مايو من العام 1989م باعتقال الياسين والمئات من أعضاء حماس فيما عُرفت وقتها بأقوى ضربة تعرضت لها الحركة الإسلامية الوليدة في فلسطين.

 

وفي شهر أكتوبر من عام 1991 أصدرت محكمة عسكرية صهيونية حكمًا بسجن مؤسس حماس مدى الحياة، واتهمته بالتحريض على خطف وقتل جنود صهاينة وتأسيس حركة حماس وجهازيها العسكري والأمني.

 

وفي عملية التبادل الثانية أوائل أكتوبر من العام 1997م والتي جرت بين الأردن والاحتلال على خلفية الفاشلة لاغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل في العاصمة الأردنية عمان، وإلقاء السلطات الأمنية الأردنية القبض على اثنين من عملاء الموساد سلمتهما للكيان الصهيوني مقابل إطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين.

 

تحسين العلاقات

وعاد الشيخ ياسين حرًّا طليقًا إلى أحضان شعبه متبنيًا مواقف مرنة تجاه سلطة أوسلو، وكان دائمًا من المنادين بالوحدة الوطنية، وتحسين العلاقات مع تلك السلطة رغم حملتها الأمنية الواسعة من اعتقالات وتعذيب وملاحقات ضد أبناء وكوادر وقيادات حركة حماس في العام 1996م.

 

وفي شهر مايو عام 1998م قام الشيخ أحمد ياسين بحملة علاقات عامة واسعة لحماس في الخارج؛ حيث قام بجولة واسعة في العديد من الدول العربية والإسلامية، ومنها إيران، نجح خلالها في جمع مساعدات معنوية مادية كبيرة للحركة، قدِّرت بنحو 50 مليون دولار.

 

وقد سارع الكيان الصهيوني إلى رفع شكوى إلى الولايات المتحدة للضغط على الدول العربية للامتناع عن تقديم المساعدة للحركة، وطالبت شخصيات صهيونية بمنع الشيخ ياسين من العودة إلى قطاع غزة، ولكنه عاد بعد ذلك بترتيب مع السلطة.

 

وتعرَّض الشيخ أحمد ياسين في 6/9/2003م لمحاولة اغتيال صهيونية حين قصفت طائرات حربية صهيونية منزل القيادي في حماس د. مروان أبو راس في حي الدرج المكتظ بالسكان وسط غزة، وكان يوجد به الشيخ ومدير مكتبه وقتها إسماعيل هنية، نجا على إثرها بمشيئة الله تعالى.

 

وأخيرًا ففي فجر يوم الإثنين غرة صفر للعام 1425هـ الذي وافق الـ22 من مارس 2004م شاء الله تعالى أن يحقق للشيخ ما تمناه منذ سنين؛ حيث لقي الإمام الياسين ربه شهيدًا بعد أدائه صلاة الفجر، إثر غارةٍ صاروخية صهيونية غادرة اغتالته هو و8 فلسطينيين أمام مسجد المجمع الإسلامي، الذي أسسه الشيخ بحي الصبرة جنوب غزة.

 

وتنتهي قصة أنفاس هذا الرجل، لتبدأ قصة جيلٍ بناه وأسسه وربَّاه الشيخ بدمه وبقلبه وبعقله وبإيمانه، وهذا كل ما كان قد تبقَّى له بعد شلل جسمه وأطرافه وتناثر أشلائه.

-------
نشر في "إخوان أون لاين" بتاريخ 23 مارس 2010