المسلم يخوض المنايا؛ من أجل عزته وكرامة أمته، غير آبه لما يجري عليه من تصاريف الأقدار، لأنها لا تخرج عن إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.. وفي كلا الحالين فإنه مقدام جسور، مستعين بالله، غير عاجز ولا متشكك.. وهذا عين ما صرح به عبد الله بن رواحة في مؤتة، عندما رأى ترددًا في الجيش، قال: "يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم لها تطلبون: الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا كثرة، وإنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فإن يظهرنا الله به فربما فعل، وإن تكن الأخرى فهي الشهادة، وليست بشرِّ المنزلتين".


إن أفضل المسلمين من يأنف الظلم، ويحاد الظالمين، ومن لا يرضى بخضوع الإسلام واختباء المسلمين.. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" [أحمد]، ويقول صلى الله عليه وسلم: "ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع لم يبرأ" [مسلم وأبو داود].

أما السائرون في ركب الظالمين، ممن لا رأي لهم ولا موقف، فأولئك هم الإمعات العاجزون، الخارقون لسفينة الرجولة والخلق الفاضل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تكونوا إمعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا" [الترمذي].

 سار الباطل يومًا مع الحق، فقال الباطل: أنا أعلى منك رأسًا.

 - فقال الحق: أنا أثبت منك قدمًا.

 
- قال الباطل: أنا أقوى منك.


- قال الحق: أنا أبقى منك.


- قال الباطل: أنا معي الأقوياء والمترفون.


- قال الحق: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)) [الأنعام].


- قال الباطل: أستطيع أن أقتلك الآن.


- قال الحق: ولكن أولادي سيقتلونك ولو بعد حين.


إن الثبات على المبدأ، ومقارعة الطغاة الحجج والبراهين، يعجلان بتقويض الظلم واستئصال المستبدين.. وهذا هو أساس الخيرية في هذه الأمة، التي لا تزال تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، رغم ما يعتريها من وهن وما يصيبها من ضعف.. "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" [مسلم].

 

يا ابن الحنيفة دين الحق، ها هو ذا

 

يدعوك، فانهض وشمِّر عاملاً نشطا

 

واثبت على منهج الإسلام في ثقة

 

مستعليًا يتحدى ضغط من ضغطا

 

والزم طريق رسول الله في بصرٍ

 

وفي اعتدالٍ، وجانب خلط من خلطا

 

ولا تبال بقول الناس فيك أذى

 

فكم على الله قالوا الزور والشططا

 

وما أصابك من ضراء فارض، وقل:

 

رب احتسبها لنا ذخرًا، لنا فرطا

 

نعم، هذه جولة علا فيها الباطل على الحق، لكن الحق سيدمغه- قريبًا بإذن الله- فإذا هو زاهق.. إنه الصراع بين المتناقضين: الخير والشر، وحتمًا ستكون الغلبة لمن يتقون الله ويخشونه ولا يخشون أحدًا إلا الله..

 

ولو نجا أحد الصالحين منذ هذا التدافع الحتمي لنجا منه الأنبياء والمرسلون، بل إنهم تعرضوا لأشكال قاسية من الفتن والإيذاء لو نزلت على عوام الناس لهدتهم هدًّا، لكنهم اختاروا الطريق التي رسمتها لهم السماء، فلم يصبهم وهن أو يأس أو قنوط؛ لعلمهم أن نهاية تلك الطريق محسومة لأهل الحق وأنصار الدين.

 

إن الناظر في سير الأنبياء والرسل ليعجب أشد العجب أنهم مروا بأحداث وتعرضوا لأذى، هي الأحداث نفسها والأذى نفسه الذي يلقاه أهل الحق في زماننا.. فإذا كان الكذب والافتراء هما سمة أهل الضلال وفريق الباطل هذه الأيام، فإن سيرة أي نبي لم تخل من هذا المشهد؛ إذ كان خصومهم جميعًا- دون استثناء- كاذبين مدلسين، يتعاطون الافتراء عليهم كما يتنفسون الهواء ويشربون الماء، حتى اتهموهم في عقولهم وأعراضهم، والأنبياء مع كل هذا كانوا يسخرون منهم وينتظرون- في ثقة ويقين- نصر الله وإعزازه لأهل الحق وانتقامه من أهل الباطل الكاذبين المجرمين.

 

لقد ارتفع صوت الباطل المبني على الضلال في هذه الجولة، لا لغيبة أهل الحق، لكن لحكمة يعلمها الله وقدر في عباده؛ حتى يميز الحق من الباطل، وكي يرتفع البناء على أسس سليمة وأركان شديدة، خالية من التذبذب والنفاق.


-----------

سبق نشره في "إخون أون لاين" بتاريخ 02/11/2013