قد صار فى بلادنا السعيدة سحرةٌ جددٌ أو مدلسون خبراء فى الكذب، يسمونهم إعلاميين، وهم كُثُر، يرتدون أفخر الثياب، ويمتطون أغلى المراكب، ويتزوجون فى كل عام مرة أو مرتين، غير(الصديقات!) و(المعجبات!)، وبالطبع لهم أرصدة ضخمة فى البنوك، فأقلهم -وقد أطلق عليه الشباب لفظًا كان يُطلق على حرَّاس دور المنحرفات قديمًا- يتقاضى نحو المليون جنيه فى الشهر؛ هذا فضلاً عن “وضعهم الاجتماعى” الجديد؛ حيث انتقلوا إلى خانة “قادة الرأى!” فينظمون لهم الندوات، ويعقدون لهم المؤتمرات، ويجرون معهم الحوارات، بعدما كانوا -منذ سنوات قليلة- سقط متاع لا وزن لهم.
أتدرون لم فشت الظاهرة؟ ولم حدث التحول الكبير فى مسيرة هؤلاء المستأجرين فى زمن وجيز؟ فشت الظاهرة وحدث التحول بعدما وُجدت البيئة الخصبة لمثل هذا الفساد، ولقد وُجدت ظواهر أخرى فى المجالين السياسى والاجتماعى أفسدت على الناس معايشهم، لكن ليست فى انحطاط تلك الظاهرة؛ ظاهرة الإعلامى المستأجر، أو “التيس المستعار” -كما أسميته.
ولفظ “التيس المستعار” مأخوذ من حديث النبى -صلى الله عليه وسلم- عن المحلل؛ أى الذى يتزوج مطلقة طلقة بائنة زواجًا صوريًّا مزورًا ليعيدها إلى مطلقها، وهو يعقد عليها فى حضور هذا المطلق، ثم يطلقها فى اللحظة ذاتها، ثم يقبض الثمن دون أن يمسها، يقول النبى -صلى الله عليه وسلم-: “ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: هو المُحَلِّلُ، لعن اللهُ الـمُحَلِّلَ والـمُحَلَّلَ له”.
هذا تيس -أعزكم الله- وذاك تيس. هذا تيس مستعار لعنزة انفصلت عن ذكرها، وذاك تيس لمسئول شارد أو حاكم فاسد يحلل له جرائمه وظلمه، مخالفًا شرع الله، راضيًا بالذل والدون، قد داس على كرامته -إن كانت له كرامة-، وهو دور لا يعرفه الرجال، ولا ترضاه النفوس الأبية، بل تنفر منه أشد النفور..
وهل هناك فرق بين هذا الإعلامى الخاضع الخانع الإمعة، وتلك المنحرفة التى تنتقل من رجل إلى آخر لقاء أجر ومن دون تمييز؟ اللهم لا، أما هى فمثل البهيمة التى ربما جمعت ماء الأب وماء الابن فى رحمها، بل البهيمة أرقى لأن لها موسمًا للتزاوج واللقاح لا تتعداه، أما هؤلاء المنكوسون فيرتكبون المحرم كل ساعة دون وازع من عقل أو ضمير..
وهؤلاء لا يختلفون فى كثير أو قليل عن “النائحة المستأجرة” التى يأتيها رزقها من دورها فى تمثيل الحزن، بالنواح ولطم الخدود وشق الجيوب، على أموات ربما لم تطالع وجوههم ولم تسمع صوتهم، ولكنه المال، آفة الآدمى، الذى يجعل الحر عبدًا والشريفة زانية، وقد كنا نرى تلك النائحة نفسها فى الصباح فى مأتم قد أثارت فيه بنات جنسها بالصياح والعويل واستجلاب البكاء ودعاوى الجاهلية، وبالليل كنا نراها مطربة فى أحد الأفراح -بالأجر كذلك- تشعل مكان النساء بالغناء والزغاريد، وكذلك “الإعلامى المستأجر”؛ فهو يقول الكلمة وعكسها، والرأى وعكسه، ويمدح المسئول وهو فى السلطة ويذمه بعد خروجه منها، ويهتف للحاكم وهو فى عرشه وينقده ويحرض عليه بعد ابتعاده عنه.
وهؤلاء الإعلاميون -بدون شك- موهوبون، أصحاب قدرات فائقة فى الكذب، والتمويه والخداع، وإطلاق الشائعات، وتزيين الإفك؛ لأنهم منزوعو الأخلاق، والحس والشعور، يعشقون العبودية؛ ولديهم أيضًا القدرة على التلبيس، وتصدير الأمانى وحصاد الغرور، مثلهم كمثل الشيطان (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا) [النساء: 120].

هل يتخيل هؤلاء الكاذبون مقدار ما أحدثوه من فساد؟ هل يحدِّثون أنفسهم بجرائمهم فى حق الدين والوطن والإنسانية؟ ألم يعلموا أنهم خدعوا الملايين واستخفوا بهم؟ وحللوا الحرام وحرموا الحلال؟ وأمروا بالمنكر ونهوا عن المعروف، وأفسدوا على الناس معايشهم، وقسموا المجتمع وبذروا العداوة بين الأشقاء؟ يبدو أن صفات هؤلاء تمنعهم من الأوبة والرجوع، إنهم فى كل واد يهيمون، يقولون ما لا يفعلون، قساة قلوب، مرضى نفوس، لا يستحيون، ولا يتذكرون أنهم يومًا إلى الله راجعون.
وهل هناك فرق بين هؤلاء الذين يحجبون الحقائق، ويظلمون الناس ويدافعون عن الطغاة -وبين شاهد الزور الذى يقف على باب المحكمة يشهد بما لا يعلم مقابل جنيهات قليلة يدسها المحامى فى جيبه صاغرًا ذليلًا؛ ليبحث بعدها عن “زبون” آخر بأسلوب لا يخلو من الختل والخداع؟ بل هم أضل سبيلًا.