الزيارة الخاطفة التي قام بها الفريق محمد حمدان دقلو، نائب رئيس المجلس العسكري في السودان الشقيق، والشهير بحميدتي، واستمرت يومي الأحد والاثنين الماضيين (28و29يوليو 2019)، تكتسب أهمية كبيرة بالنسبة للإسلاميين هناك سواء السودانيين أو حتى المصريين المقيمين هناك. فالزيارة أولا، هي الأولى لحميدتي في القاهرة ، ولثالث مسؤول سوداني رفيع المستوى خلال شهرين، فقد سبق أن زار رئيس المجلس العسكري الانتقالي بالسودان الفريق أول عبد الفتاح البرهان القاهرة، في مايو الماضي والتقى رئيس الانقلاب عبدالفتاح السيسي. كما قام رئيس أركان الجيش السوداني -الموقوف حاليا بتهمة تدبير محاولة انقلاب بالبلاد- هاشم عبد المطلب أحمد بابكر بزيارة للقاهرة والتقى خلالها السيسي في 17 يوليوالماضي. كما جاءت الزيارة بعد ساعات فقط من زيارة حميدتي  لجوبا عاضمة جنوب السودان، في زيارة استمرت ليومين، التقى خلالها الرئيس سلفاكير ميارديت وممثلين عن الحركة الشعبية/ شمال.

ثانيا، تكتسب الزيارة أهمية كبيرة لإخوان مصر المقيمين في السودان، وذلك في أعقاب توافق "حميدتي" مع رئيس الانقلاب على ضرورة تسليم الخرطوم  ما وصفها بالعناصر المطلوبة أمنياً من الإسلاميين إلى القاهرة، وبصفة خاصة من المنتمين لجماعة "الإخوان المسلمين"، تفعيلاً لاتفاقيات التعاون الأمني بين البلدين، والتي وُقّعت في عهد الرئيس السوداني السابق عمر البشير، ولم تدخل حيز التفعيل المستمر بصفة رسمية. ولا يحسبن أحد أن الإسلاميين والثوار السودانيين هناك في مأمن من غدر "حميدتي"  وقيادات المجلس العسكري هناك، فهم  يستهدفون القضاء على ثورة الشعب السوداني عبر الاحتيال عليها وركوبها ووصف انقلابهم على البشير أنه امتداد لثورة الشعب وترجمة لمطالبه المشروعة؛ ولكنهم سرعان ما انكشفوا بعد المذابح المروعة التي نفذوها بحق الثوار والمعتصمين، وهم فقط  يتحينون الفرصة لتكريس حكمهم وسوف يبطشون بالجميع دون استثناء ولعل في تجربة الثورة المصرية خير دليل  وبرهان لأشقائهم في السودان. فلا سبيل لهم إلا بالوحدة والترابط والاعتصام بالقيم الإنسانية والديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان بعيدا  عن انتمائه وأفكاره.

ثالثا، حاول رئيس الانقلاب الاستفادة من النفوذ الواسع الذي يحظى به نائب رئيس المجلس العسكري السوداني في عدد من القضايا منها:
(1)  استئناف المفاوضات الثلاثية بين مصر والسودان وأثيوبيا بشأن ملف سد النهضة، وهي المفاوضات المتوقفة منذ فترة لأسباب  تتعلق بالأحداث الجارية في السودان. ومن جانبه أبدى "حميدتي" تجاوبا حيال ذلك ووعد رئيس الانقلاب بتفويض لجنة تضم مدير الاستخبارات، ووزير الخارجية، للمشاركة في تحديد موعد "قريب" لاستئناف المفاوضات على المستوى التساعي أو السداسي خلال شهر أغسطس الجاري.
(2)   والقضية الثانية تتعلق بتراجع الدور المصري في أزمة السودان،  وهو دور الوساطة بين المجلس العسكري وقوى المعارضة الذي تقوم به إثيوبيا أو الاتحاد الأفريقي بينما غابت مصر تماما عن هذا الملف. وأبدى رئيس الانقلاب دعمه المطلق للمجلس العسكري، وبقائه في السلطة لأطول فترة ممكنة، إلى حين احتواء الغضب الشعبي، وتحسين الأوضاع الأمنية، مع إبداء السيسي رغبته في استضافة لقاءات حوارية بين المجلس العسكري وقوى المعارضة، للتوافق حول مواعيد الاستحقاقات الدستورية ومحتواها.
(3)   أما الملف الثالث الذي تباحث فيه السيسي وحميدتي فيتعلق بالعلاقات الثنائية بين البلدين ودراسة عودة انعقاد اللجان الوزارية بين البلدين، للتأكيد على استقرار الأوضاع الحكومية في السودان، وقابلية المشروعات المشتركة للتنفيذ في أقرب وقت، ومن بينها مشروع الربط الكهربائي، وتطوير التعاون الأمني على الحدود، وزيادة حجم التبادل التجاري، وإلغاء القيود على الصادرات المصرية.

رابعا، تأخر الزيارة يلفت النظر إلى طبيعة العلاقات المعقدة بين المجلس العسكري السوداني وحلفائه الثلاثة الرئيسيين مصر والإمارات والسعودية. فإذا كانت الدول الثلاث تتفق على الخطوط العريضة في السودان مثل إقصاء الإسلاميين ودعم العسكريين وتحجيم الحراك الثوري.  فالواضح أن لكل منها رجاله في المجلس العسكري؛ فعندما كان رئيس المجلس العسكري السوداني عبدالفتاح البرهان يزور مصر كان نائبه حميدتي يزور السعودية في نهاية شهر مايو 2019.
ومن الناحية الرمزية، يبدو أن عسكر السودان يراعون مكانة مصر باعتبارها الأقرب للسودان، فذهب البرهان للقاهرة في أولى زياراته وأدى التحية العسكرية الشهيرة لرئيس الانقلاب عبدالفتاح السيسي. لكن من الناحية الواقعية  يُنظر لحميدتي على أنه الرجل الأقوى في السودان والمتحكم الفعلي بالسلطة، وهو يبدو لأسباب عديدة ومتنوعة أقرب إلى السعودية والإمارات منه إلى مصر. فقد توثقت علاقاته بالرياض أبو ظبي  خلال حرب اليمن بعدما أصبح مورداً للجنود في الحرب العالقة هناك منذ نحو أربع سنوات، مقابل المال. ويشاع أن ثمة سببا آخر يجعل علاقة "حميدتي" بالإمارات أكثر عمقا وقوة القاهرة، وهو ما يتعلق بشركات استخراج الذهب التي يمتلكها حميدتي وتبيع إنتاجها في الإمارات. ويُقال إنَّ معظم الخام يُصدَّر إلى دبي، حسبما ورد في تقرير لموقع Lobelog الأمريكي. ويُشتبه في أنَّ العديد من الموالين للنظام يستثمرون مكاسب غير شرعية في ممتلكات كبيرة في السودان وفي العقارات السكنية في دبي وماليزيا. لا تستطيع مصر أن تنافس السعودية والإمارات في هذا الشكل مع العلاقات. أضف إلى ذلك أن مليشيات الدعم السريع  يمولها حميدتي من خلال خدمات الحماية وتعدين الذهب ومصر الفقيرة غير قادرة على الاستمرار في مثل هذه العلاقات المادية وهي الفقيرة والمديونة حتى النخاع. 

خامسا، الزيارة من ناحية أخرى تمثل فضيحة للسيسي ونظامه، والذي يروج دائما أن وظيفته هي مواجهة المليشياوية، لكنه يلتقي بزعيم أكبر مليشيات سودانية "الجنجويد" متهمة بارتكاب فظائع وانتهاكات ومذابح وحشية، أضف إلى ذلك أن حميدتي نفسه، وهو الفريق وعضو المجلس العسكري وصل إلى هذه الرتبة دون أن يدخل أي مدرسة عسكرية على الإطلاق، فهو ليس خريج أي كلية عسكرية بل راعي أغنام ومواشي برع في قيادة مليشيات "الجنجويد" في حرب نظام البشير دون المتمردين عليه.  لكن من ناحية أخرى فإن السيسي نفسه منح نفسه رتبة الفريق ثم الفريق أول ثم المشير في سنة واحدة دون أن يخوض أي حرب على الإطلاق وليس له أي بطولات في خدمة الوطن سوى ارتكاب عشرات المذابح التي راح ضحيتها مصريون بينما سلم الأعداء من إجرامه وبلطجته؛ فالطيور على أشكالها تقع. خلاصة الأمر، أن السيسي قد يكون مطمئنا للإطاحة بالبشير وإقصاء الإسلاميين وإدخال الثورة السودانية في متاهة، لكن الصعود المتزايد لحميدتي وتراجع جنرالات الجيش السوداني التقليديين سيجعل القاهرة اللاعب الثاني أو الثالث في السودان بعد الإمارات والسعودية. فميليشيات الجنجويد دوماً تمنح الولاء لمن يدفع لها أكثر.