لم يكن حريق الأقصى 21 أغسطس عام 1969م إلاَّ حلقةً في مسلسل الصراع العربي الصهيوني، ولقد بدأ الحريق الفعلي للمسجد الأقصى يوم أن استطاع الكيان الصهيوني التغلُّب على جيوش مصر وسوريا والأردن فانتزع منهم سيناء وغزة والضفة والجولان، إضافةً إلى القدس الشرقية، بعدما استطاع احتلال الجزء الغربي من القدس عام 1948م.

فوقوع المسجد الأقصى- ومن قبله فلسطين- في أيدي الاحتلال الصهيوني كان يعني أن مصيره أصبح بيد أشد أعداء الأمة، وهم اليهود، بعدما فشل حكام الأمة في الحفاظ على الأمانة التي بين أيديهم، بعد أن حررها القائد "صلاح الدين الأيوبي" من دَنَس الصليبيين، بعدما استمرت في قبضتهم أكثر 92 عامًا، وجعلها أمانة في عنق كل الحكام المسلمين الذين جاءوا بعده.

مخطط لا صدفة

فلذا جاءت عملية إحراق المسجد الأقصى في 21 أغسطس عام 1969م- وبعد عامين من الاحتلال الصهيوني للقدس- أمرًا مخططًا لا صدفة كما يدعي البعض أنه تصرف من شخص مجنون، فالمدعو "دينيس روهان" وهو استرالي الأصل لم تكن محاولته إحراق المسجد الأقصى هي الأولى، بل سبق أن حاول القيام بها بتاريخ 21/8/1968م ولكن يقظة حراس المسجد الأقصى منعت الجريمة قبل وقوعها، وألقِي القبض على "دنيس روهان"، وحوكم محاكمةً صورية، وأبعد إلى استراليا ثم عاد ثانيةً بتواطؤ من سلطات الاحتلال الصهيوني، ونفَّذ جريمته النُّكراء بتاريخ 21/8/1969م، وهو التاريخ الذي يرتبط عند اليهود بذكرى أو دعوى تدمير الهيكل، ولهذا أرادوا أن يكون نفس التاريخ هو تاريخ إحراق المسجد الأقصى المبارك.

شبَّ الحريق بعد صلاة فجر يوم 21/8/1969م الموافق 8 جمادى الثاني عام 1389م هجرية، حيث أصبح المسجد فارغًا من المصلين، وكان الحريق في مواضع ثلاثة وهي:

الأول: في مسجد "عمر" الواقع في الزاوية الجنوبية الشرقية للمسجد الأقصى، الذي قام الخليفة "عبد الملك بن مروان" بإعادة بنائه سنة 692م، بعد أن هدمته الزلازل.

الثاني: في منبر "صلاح الدين الأيوبي" والمحراب.

الثالث: في النافذة العلوية الواقعة في الزاوية الجنوبية الغربية من المسجد الأقصى، وترتفع عن أرضية المسجد حوالي عشرة أمتار، ويصعب الوصول إليها من الداخل بدون استعمال سلَّم عالٍ، الأمر الذي لم يكن متوفرًا لدى "دنيس روهان"، وكان حريق هذه النافذة من الخارج وليس من الداخل، مما يدل على أن هناك أفرادًا آخرين ساعدوا "روهان" من الجهة الغربية في الخارج، حيث كانت تحت إشراف الصهيونيين  بعد أن هدموا حارة المغاربة، وسيطروا على بوابة المغاربة.

عناية ربانية

لقد اعتقد اليهود أن الحريق في المواقع الثلاثة سوف يتصل بعضه مع بعض ويدمر الواجهة الجنوبية للمسجد كليًّا، ومن ثم يمتد شمالاً ليأتي على جميع المسجد، إلا أن عناية الله جعلت النار التي اشتعلت في النافذة العلوية تنطفيء وحدها، دون أن يطفئها أحد، ثم امتدت النار شمالاً وحرقت ما مساحته حوالي1500 متر مربع من أصل مجموع مساحة مبنى المسجد الأقصى البالغة4400 متر مربع، أي حوالي ثلث المسجد.

تواطؤ صهيوني

لقد قامت سلطات الاحتلال الصهيوني بقطع المياه عن المنطقة المحيطة بالمسجد في نفس يوم الحريق، وتعمَّدت سيارات الإطفاء التابعة لبلدية القدس- التي يسيطر عليها الاحتلال- التأخير؛ حتى لا تشارك في إطفاء الحريق، بل جاءت سيارات الإطفاء العربية من الخليل ورام الله قبلها وساهمت في إطفاء الحريق.

لقد كان للعناية الربانية- ثم المواطنين المقدسيين المسلمين- الدور الأكبر في إطفاء الحريق ومنع امتداده إلى باقي أنحاء المسجد، حيث قام الشباب المقدسيون باستعمال البراميل، ونقلوا المياه يدويًّا من الآبار الموجودة في ساحات الحرم القدسي الشريف وأخرجوا السجَّاد المحترق إلى الساحات الخارجية، وجمع القطع الصغيرة التي بقيت من الحريق من آثار منبر "صلاح الدين الأيوبي"، وهي محفوظة الآن في المتحف الإسلامي في الحرم القدسي الشريف.

أما زعيم العصابة التي نفذت الحريق "دنيس روهان" فقد حكمت عليه سلطات الاحتلال  بالجنون وبالنفي إلى بلاده استراليا، ولم تسجنه ولم تعاقبه بأي شيء آخر، أما باقي العصابة التي ساعدت "روهان" من الخارج- وأخرجته بعد الحريق، وحافظت عليه من غضب الأهالي المقدسيين- فبقيت مجهولة ولم ينَلها أي عقاب.

وعليه فإن هذا الحريق قد تم عن قصد وتعمد وسبق إصرار من الصهيونيين وخطط له على النطاق الرسمي الصهيوني في سنتين متتاليتين 1968م، 1969م، واشترك فيه أكثر من شخص واحد.

أما أهم الأجزاء التي طالها الحريق داخل مبنى المسجد الأقصى المبارك فهي:
1- منبر "صلاح الدين الأيوبي" الذي يعتبر قطعةً نادرةً مصنوعةً من قطع خشبية، معشَّق بعضها مع بعض دون استعمال مسامير أو براغي أو أية مادة لاصقة، وهو  المنبر الذي صنعه "نور الدين زنكي"، وحفظه على أمل أن يضعه في المسجد إذا حرَّره فلما مات قبل تحريره قام "صلاح الدين الأيوبي" بنقله ووضعه في مكانه الحالي بعد تحرير المسجد من دنس الصليبيين.

2- مسجد "عمر" الذي كان سقفه من الطين والجسور الخشبية.

3- محراب "زكريا" المجاور لمسجد "عمر".

4- مقام الأربعين المجاور لمحراب "زكريا".

5- ثلاثة أروقة من أصل سبعة أروقة ممتدة من الجنوب إلى الشمال مع الأعمدة والأقواس والزخرفة وجزء من السقف الذي سقط على الأرض خلال الحريق.

6- عمودان رئيسان مع القوس الحجري الكبير بينهما تحت قبة المسجد.

7- القبة الخشبية الداخلية وزخرفتها الجصية الملونة والمذهبة مع جمع الكتابات والنقوش النباتية والهندسية عليها.

8- المحراب الرخامي الملون.

9- الجدار الجنوبي وجميع التصفيح الرخامي الملون عليها.

10- ثمان وأربعون نافذة مصنوعة من الخشب والجص والزجاج الملون والفريدة بصناعتها وأسلوب الحفر المائل على الجص لمنع دخول الأشعة المباشر إلى داخل المسجد.

11- جميع السجّاد العجمي.

12- مطلع سورة الإسراء المصنوع من الفسيفساء المذهبة فوق المحراب، ويمتد بطول ثلاثة وعشرين مترًا إلى الجهة الشرقية.

13- الجسور الخشبية المزخرفة الحاملة للقناديل والممتدة بين تيجان الأعمدة.

لن تكون الأخيرة

ورغم أن هناك أكثر من مؤسسة إسلامية تقوم بالعناية بالمسجد وترميمه وحمايته وتوفير الحراس الخصوصيين للمسجد على نفقتها، إلا أن استمرار سيطرة اليهود على المسجد الأقصى والسماح للمتشددين اليهودج بتدنيس المسجد ومنع المسلمين من الوصول إليه والضغوط  المستمرة على الفلسطينيين كلها شواهد تدل على أن اليهود لن يتوقفوا عن محاولاتهم لهدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل المزعوم، طالما بقي المسلمون نائمين ومشغولين بالقضايا الفرعية عن قضيتهم الكبرى "تحرير المسجد الأقصى" وتخليصه من دنس اليهود.