استطاع العسكر في الجزائر تحويل الوضع الأسبوعي في الجزائر إلى "غار" حراك، لا جديد بداخله، حيّز ثابت وأطر لا تنفك ومشاهد متكررة من مقصلة "الفساد" التي تطال أسماء وواجهات لا تترقب أسماء قيادات المجلس العسكري، مقابل عجز العسكر الفعلي على إنهاء التعبئة المستمرة الحاشدة، مستخدمًا القوة كالتي استخدمها العسكر في مصر إبان ثورة يناير أو حتى بعد الانقلاب، أو كالتي استخدمها مجلس البرهان حميدتي في فض اعتصام القيادة العامة في السودان، وهو ما يعدُّه مراقبون نصرًا للثورة وتأصيلاً للحرية بمنهجها السلمي الراشد.

فبات من يرغبون أن يكونوا رقباء على الشعب حاكمين بهواهم في صراع نفسي مع من يريدون هوى الشعب رقيبًا عليه، هو ليس صراعًا للأيديولوجيات بقدر ما هو صراع مصالح فقط عند العسكر، يتجلى عند النظر إلى ميزان القوة الاقتصادية للجزائر بالعامل البشري والبترول والموقع، وتنوع بيئاته؛ ما يجعل دولة كالإمارات تعاظم دخولها لسوق الجزائري بنحو 10 مليارات دولار!.

توحد الكتل

يقول رئيس تحرير مجلة العصر خالد حسن: إن "الكتلة الثورية الحرجة" في حراك الجزائر لن تقبل بأي خريطة طريق من دون تنازلات جادة وحقيقية، لا انتخابات ولا أي تسوية سياسية قبل التوجه نحو انتقال للحكم من أيدي الأقلية المتغلبة إلى سلطة مدنية منتخبة، وكلا طرفي الصراع والتدافع - الحراك وسلطة الجيش - يراهن على الوقت ومزيد من الضغط.

أما أستاذ البحث العلمي ومدير مركز الابتكار بالمملكة المتحدة الدكتور رمضان جبارني، فقرر ألا يحصر العصابة بالإماراتيين، وقال: "الصراع في الجزائر ليس ضد العصابة فقط. العصابة قمة جبل الجليد الظاهرة فقط. ما تحت الماء عصابات كثيرة من الإماراتيين إلى الموساد إلى الفرنسيين والأمريكيين فالروس وهلم جرّا، وكلّهم يساعدون العصابة تفكيرًا وتخطيطًا وتنفيذًا".

أما الناشطة الجزائرية منال بخوش، فترى أن الحكم العسكري في الجزائر كان دومًا خلف الستار، وكان يعتمد على الواجهة المدنية في التواصل مع الشعب أو بالأحرى من أجل خداع الشعب، لكن بعد سقوط الكادر بطريقة رسمية خرج العسكر من خلف الستار؛ ليتحكم في الأمور إلى حين اختيار دمية مدنية جديدة،  ومن الطبيعي أن يصبح الصراع بين شعب وعسكر.

ذروة السيطرة

وفي ظل هذا الصراع بين القوتين، يعوّل مراقبون على نجاح الثورة على التعبئة في كل مرة، تقول لويزة آيت حمادوش، الأستاذة في العلوم السياسية: إن الجمعة الـ28 حددت توافق ما طالب به المتظاهرون خلال الجمعات السابقة، فالحراك نجح في الاستمرار في رمضان والصيف والعطلات والأعياد، وأيضًا واجهت موجات الحر، كما تخطت ضغوطات قوات الأمن والاعتقالات والحواجز الأمنية.

واعتبر أن الجمعة الـ28 جيدة في استمرار مطالب المتظاهرين، وقالت: "لا تزال سارية في نفس الاتجاه؛ حيث يتوجّه الملايين من المتظاهرين بمطالبة رئيس أركان الجيش بالتحرك، معتبرين بأنه المحور الأساسي للحراك. أما بالمجمل فتظل الشعارات كما هي: دولة المدنية، حوار تسبقه تدابير الثقة والتهدئة، الإفراج عن سجناء الرأي".

ورأت أن الثورة الشعبية أمام تحدي مواصلة التعبئة الجماهيرية، بشكل وطني وسلمي، من أجل التعبير عن رفض المشاركة في انتخابات بدون ضمانات الشفافية والمساواة.

وأضافت: "وحده الضغط المستمر للتعبئة الشعبية، المدعومة بالتوافق بين القوى الاجتماعية السياسية، قد يؤدي إلى بدء مفاوضات تلبي المطالب المشروعة للحراك الشعبي".

الفساد أم إشغال؟

ويستبق النظام البديل الموازي لنظام بوتفليقة الجمع باعتقالات في صفوف كبار المسئولين والضباط السابقين، وآخرهم المفتش العام السابق بوزارة العدل بوهاشم الطيب، بعض المراقبين رأوا أن ذلك عائد لاستمرار الحراك، رغم أن بعض الاعتقالات على ذمة الفساد تحمل في داخلها انتقامًا من قائد الجيش من زملاء سابقين أو منافسين محتملين أمامه، ومنهم أحمد بورقعة، المعروف محليًّا باسم لخضر بورقعة، البالغ من العمر 86 سنة، والذي يعد أحد قادة جيش التحرير الجزائري أثناء حرب الاستقلال عن فرنسا، ووجهت له السلطات القضائية الجزائرية تهمة إهانة هيئة نظامية جزائرية، والمساهمة في إضعاف الروح المعنوية للجيش.

ويعلق أبو جرة سلطاني، رئيس المنتدى العالمي للوسطية، عن صدمته من حجم الفساد المستشري في البلاد، والمسئولين الذين ثبت تورّطهم فيه، قائلاً: "حينما بدأ الحراك دفع لأن تُكشف أوراق لم تكن لتخطر على بال أحد".

وأضاف سلطاني - في كلمة له على هامش الذكرى الأولى لتأسيس المنتدى، أمس السبت 31 أغسطس -: "ما كنا نتصور إطلاقًا أن رجالاً بمستويات عالية ومسئوليات ثقيلة وبإرادات قوية وبتاريخ، يحصل منهم هذا الأمر، بعدما كانوا يدعون الوطنية وحب الوطن"، مبرزًا أن “الثقة التي هدمت بين السلطة والشعب ربما تحتاج سنوات أو لأجيال لإعادة بنائها".

تشبث بالسلطة

يعلن الشعب مطالبه بجمهورية على منهج المفكر ابن باديس، تقيم العدل والعلم والعمل، تعلن الطلاق البائن مع فرنسا، وتحاسب المفسدين وتحل الأحزاب الفاسدة.

هذه الرؤية وغيرها أكدتها مجلة The Economist البريطانية التي سلطت الضوء على الوضع الحالي في الجزائر بعد مرور نحو 6 أشهر على الإطاحة بالرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة؛ إذ اعتبرت المجلة أن الوضع بات كما هو سياسيًّا دون أي تقدم ملموس، فيما تراجع الشأن الاقتصادي كثيرًا منذ ذلك التاريخ.

وأشارت المجلة إلى خشية المعارضة أن يزوّر الجيش الانتخابات الرئاسية التي كان من المقرر إجراؤها في يوليو الماضي، ولم يُرشح أحد نفسه تقريبًا في هذه الانتخابات، باستثناء مرشحين غير معروفين، أحدهما طبيبٌ بيطري. والرئيس الانتقالي عبدالقادر بن صالح - وانتهت مدة رئاسته في يوليو الماضي - لجنةً مكونة من ستة أكاديميين وسياسيين، ووصف خطاب رئيس الأركان أحمد قايد صالح بأنه يستخدم لغة الدكتاتورية المألوفة، إذ ينعت المعارضة بـ"الخونة" المصممين على تقويض الدولة. والجزء الأخير من كلامه صحيحٌ: فالجزائريون يريدون تفكيك النظام القمعي الذي فشل في حكم البلاد بشكلٍ جيد طوال عقود. وإما أن يستجيب الفريق صالح لهم أو يسلك طريق الرجال الأقوياء الأخرين.