يصف المحللون السياسيون دولة الإمارات المتحدة بأنها أشبه بمول تجاري كبير؛ ما يعني أن أي اضطراب سياسي أو عسكري أو حتى انفجار أمنى داخلي قد يضرب اقتصاد هذا المول ويؤدي لغلقه.

لهذا اعتبر كثيرون أن تدخل حكام أبوظبي في شئون العالم العربي وعداءهم للربيع العربي والتيار الإسلامي، بالمخالفة لسياسات والدهم المؤسس الشيخ زايد، وكذا تدخلهم لدعم الانقلابات والاشتباك في ساحات صراع مفتوحة، كمصر واليمن وليبيا والسودان، وغيرها، سينعكس في النهاية بالضرر على كل الإمارات.

وعلى الرغم من أن حكام أبوظبي يدركون هذا فقد استمروا في مغامراتهم في ليبيا واليمن والسودان والجزائر وتونس، بعدما دعموا الانقلاب العسكري في مصر بالمليارات وتجييش الدعاية والإعلام في الغرب.

ولكنهم تراجعوا جزئيًّا في اليمن، حين هددهم الحوثيون بصواريخ وطائرات مسيرة على غرار ما يطلقون على السعودية، وعقدوا صفقة اقتصرت على السعي لتمديد نفوذهم في جنوب اليمن بما يخدم الحوثيين، فتوقفوا عن إطلاق طائرات ضدهم، بعدما سقط بعضها في مطار دبي بالفعل، وجرى التستر عليه.

صراع حكام الإمارات

الجديد هذه المرة هو أن الخلافات المكتومة بين حكام الإمارات المختلفة، وخصوصًا إمارتا دبي وأبوظبي - ظهر للعلن؛ إذ إن دبي يقوم اقتصادها على ثقافة المول وأي حرب أو تحديد لأراضيها سيهدم سمعتها بالكامل، ويجعل كل الاستثمارات القائمة فيها تهرب إلى آسيا ودول أخرى.

فبسبب مغامرات أبناء زايد في أبوظبي العسكرية والسياسية في دول الربيع العربي والتدخل في اليمن وغيره، أثيرت تكهنات عن خلافات علنية بين حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد المكتوم وأبناء زايد، دون أن تتأكد رسميًّا.

الآن تأكدت الخلافات وتفجرت للعلن بعد الهجوم العلني وغير المسبوق من الشيخ محمد بن راشد على رجال محمد بن زايد؛ الذين يكتبون على مواقع التواصل مؤجّجين كراهية العديد من الدول العربية للإمارات: ما يكشف عن عمق وخطورة الانقسام والأزمة التي تضرب الإمارات حاليًّا.

فهناك تذمُّر واضح من دبي خصوصًا؛ لأنها من أكبر المتضررين اقتصاديًّا من الوضع الحالي، وبالفعل هناك تقارير عن هروب استثمارات، وتضرر مشاريع، منها توقف مطارها الدولي، كما أن هذه ليست أول مرة يتذمر محمد بن راشد بتغريدة من الوضع الحالي، ويبدو أن النهايات تقترب من المقامرين وحماقاتهم، بالتدخل في شئون 6 دول عربية على الأقل.

هجوم حاكم دبي

فقد نشرت وسائل إعلام إماراتية، السبت 31 أغسطس 2019، 6 رسائل وجّهها محمد بن راشد إلى الإماراتيين، وأطلقوا عليها اسم "رسائل محمد بن راشد الست"، وتم تداولها على نطاق واسع على مواقع التواصل، وتحدثت عن أهمية "تطوير عمل الحكومة".

وكانت الرسالة الأبرز تلك التي هاجم فيها محمد بن راشد عددًا من المغرّدين الإماراتيين، دون أن يذكر أسماءهم بشكل صريح، وإن كان المقصود هم رجال أبناء زايد، وقال: إنه لن يُسمح "بأن تعبث مجموعة من المغردين بإرث زايد الذي بناه لنا من المصداقية والحب واحترام الشعوب".

واعتبر محمد بن راشد أن العبث والفوضى اللذين يحدثان على مواقع التواصل الاجتماعي يأكلان من "منجزات تعبت آلاف فرق العمل من أجل بنائها".

وأكد حاكم دبي - الذي يتولى أيضًا منصب نائب رئيس الدولة - أن "سمعة الإمارات ليست مشاعًا لكل من يريد زيادة عدد المتابعين"، في إشارةٍ لمغردين إماراتيين يسعون لزيادة أعداد متابعيهم على مواقع التواصل الاجتماعي، من خلال حديثهم عن الإمارات وأزماتها الخارجية.

وقال محمد بن راشد: إنَّ لدى الإمارات "وزارة للخارجية، معنية بإدارة ملفاتنا الخارجية والتحدث باسمنا، والتعبير عن مواقفنا في السياسة الخارجية للدولة، وإحدى مهامها الأساسية أيضًا الحفاظ على 48 عامًا من رصيد المصداقية والسمعة الطيبة، الذي بنته الإمارات مع دول وشعوب العالم".

ويبدو أن الهجوم يستهدف تحديدًا ضاحي خلفان وحمد المزروعي؛ حيث أضاف محذرًا مغرّدين إماراتيين: "لن نسمح أن تعبث مجموعة من المغردين بإرث زايد الذي بناه لنا من المصداقية وحب واحترام الشعوب"، بعدما أصبح علَم الإمارات يتعرض للإهانة والحرق في اليمن والجزائر والسودان؛ بسبب تدخلهم في شئونهم.

وعلى الرغم من عدم تسمية محمد بن راشد للمغردين الذين هاجمهم، فإن مستخدمي مواقع التواصل أشاروا إلى أن أبرز المقصودين بتغريدته ضاحي خلفان وحمد المزروعي.

وأكد خلفان التوقعات بنشره تغريدةً "تعجُّبية"؛ ردًّا على كلام بن راشد، لكنه اضطر فيما بعد إلى حذفها.

وكتب خلفان: قائلاً: إنه لو كان "هذا المطلوب" فإنه يعتذر من "تنظيم الإخوان، ولعزمي بشارة، وفيصل القاسم، وجمال ريان، وقطر"، وأضاف أنه سيعتذر لـ"الحوثيين وكل التنظيمات الإرهابية التي شنّت حملات تشويه مسمومة ضد الإمارات، أعتذر لكل من أساء إلى الإمارات عبر وسائل التواصل الاجتماعي.. (فنحن في أمر حكومتنا)"، بحسب قوله.

دخل وزير الخارجية الإماراتي عبدالله بن زايد آل نهيان في أتون التعليقات على تغريدات ورسائل نائب رئيس الدولة محمد بن راشد، والتي دعا فيها إلى وقف "العبث والفوضى" على مواقع التواصل الاجتماعي، على يد المغردين الإماراتيين.

وكان حمد المزروعي أيضًا قد هاجم الجزائريين خلال مشاركة منتخبهم في كأس أمم إفريقيا التي أقيمت بمصر؛ حيث نشر فيديو لأعمال شغب قامت بها جماهير جزائرية في مطار القاهرة، معلقًا بأنه "بعد مشاهدة هذا الفيديو، أعتذر عن تشجيعي منتخب الجزائر، ولا يشرفني تشجيع منتخب جمهوره أساء إلى رجال أمن مصر الحبيبة".

كما دعا المزروعي لانتصار الكيان الصهيوني على المقاومة الفلسطينية وإيران، وتسببت تغريداته في كراهية شعوب عربية لحكام الإمارات.

بن زايد يرد على راشد

وقد رد وزير الخارجية الإماراتي على محمد بن راشد، وقال في تغريدة له الأحد 1 سبتمبر، محاولاً إظهار الأمر أنه خلاف صحي، بقوله: "التغريد من أجل الوطن مهمة نبيلة نؤديها بأخلاق عالية وبعقلانية، تعكس تحضرنا بمنطق يخاطب العقول ويفتح القلوب، شكرًا محمد بن راشد".

وسجل اقتصاد دبي العام الماضي أبطأ وتيرة نمو له منذ عام 2010؛ بسبب تداعيات التوترات الجيوسياسية في الخليج وانخفاض سعر النفط، كما يعاني قطاع السياحة في دبي من حالة ركود منذ عام 2017.

ونقلت وكالة "بلومبرغ" عن مصادر مطلعة أن العمل في مطار آل مكتوم في دبي - المصمم ليكون واحدًا من أكبر مطارات العالم - قد توقف وسط تعثر الأوضاع الاقتصادية وركود حركة السياحة؛ حيث أوقفت السلطات أنشطة البناء في المطار وجمدت الموارد المالية لعملية التوسعة حتى إشعار آخر، وبررت شركة مطارات دبي - في بيان لوكالة بلومبرغ - السبب بـ"تراجع الخطة الرئيسية طويلة الأجل وأن "الجداول الزمنية الدقيقة وتفاصيل الخطوات التالية لم توضع في صيغتها النهائية بعد".

وكانت دبي تسعى إلى أن يكون المطار مركزًا رئيسًا لحركة الطيران العالمية بسعة سنوية تزيد على 250 مليون مسافر.

يبدو من الدلائل أن نظمَ حكمٍ خليجية، خصوصًا أبوظبي ستشرب من الكأس نفسه؛ الذي سقوا منه المصريين ودول الربيع العربي، إن عاجلا أو آجلا، وسينعكس تدخلهم السياسي على قلب معادلة "المول السياسي" في الإمارات.

ويزيد من المخاطر على وحدة الإمارات الخلافات التي بدأت تظهر بين بعض الولايات وأبوظبي؛ بسبب الإصرار على إرسال جنود أفقر إمارتها "رأس الخيمة"، خصوصا إلى أتون الحرب في اليمن وغيرها؛ ما أدى لمقتل العشرات منهم وتذمّر سكانها.

وفي ظل مخاوف حقيقية من تفكك الإمارات العربية المتحدة بفعل مغامرات "أبوظبي" وتوريطها الإمارات في معارك سياسية وحربية خارج الإمارات، بدأ حكام أبوظبي الذين يقودون الإمارات في اللعب بورقة "شهداء الجيش" في المعارك الخارجية في اليمن وغيرها من أجل البحث عن استقرار الإمارات.

ويتبع حكام الإمارات في هذا الصدد نهج السيسي في مصر باللعب على ورقة شهداء الجيش والشرطة؛ لحشد دعم شعبي لنظام حكمه المنقلب المتداعي ومحاولة جلب التفاف شعبي حول الجيش والشرطة.

وقال تقرير لمعهد دراسات "كارنيجي" كتبته إليونورا أردماغني: إن "أبوظبي المتخوّفة من عدم المساواة المحلية بين الإمارات المختلفة والتي قد تؤدّي إلى انطلاق تحرّكات معارِضة، تسعى إلى بث مشاعر قومية في الإمارات الشمالية عبر تعزيز الروح العسكرية" بالحديث عن شهداء الإمارات.