البيان الذي أصدرته حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، يوم الإثنين الماضي 9 سبتمبر 2019م، والذي كشفت فيه لأول مرة عن اعتقال السلطات السعودية أحد أبرز قيادييها المقيمين فيها منذ عقود، ونجله، وأن الرياض رفضت الاستجابة لكل الوساطات التي تدخلت للإفراج عنه؛ يكشف عن عمق الأزمة بين الحركة والسلطات السعودية حاليًّا في ظل هيمنة ولي العهد محمد بن سلمان على مفاصل الحكم السعودي من الألف إلى الياء منذ منتصف 2017م.

ترافق ذلك مع انفتاح غير مسبوق على الكيان الصهيوني، وانخراطٍ محموم في ترويج وتسويق خطة السلام الأمريكية، وصولاً إلى تشويه القضية الفلسطينية وعدالتها في وجدان الإنسان السعودي.

بحسب الكاتب والباحث السياسي من غزة حمزة أبوشنب، فإن السعودية قررت تصفية العلاقة بصورة نهائية مع حركة "حماس"، وإن السلوك السعودي جاء مقترنًا بالسياسية الأمريكية التي تطالب بالانفتاح على الكيان الصهيوني، وتجفيف منابع الدعم للحركات المقاومة.

وأضاف - في مقابلة مع قناة "الجزيرة" - أن الخطوة السعودية هي جزء من الحركة العالمية التي تقاد ضد حركة "حماس"، وأنها تأتي في السياق السياسي المرتبط بخطة السلام الأمريكية في الشرق الأوسط المسماة بصفقة القرن.

وحظيت حركة "حماس" - منذ تأسيسها في ديسمبر 1987م - بدعم واسع من الشعب السعودي والسلطات السعودية، وفي عام 2007 وبعد تنفيذ الحركة الحسم العسكري في غزة ضد عصابات محمد دحلان - وذلك عقب توقيع اتفاق مكة - اتهمت السعودية الحركة بالانقلاب على الاتفاق وإفشاله، واعتبرت أنها وجهت لها صفعة، فعمدت إلى تجاهل الحركة وتخفيف علاقاتها معها إلى أقل مستوى.

وحاولت الحركة بعد ذلك استدراك ما يمكن استدراكه في العلاقة مع الرياض، فكانت وفاة الملك عبد الله بن عبدالعزيز في يناير 2015، قام على إثرها وفد من الحركة برئاسة خالد مشعل بأداء مناسك العمرة في يوليو من العام نفسه، وقدم خلالها تهاني العيد لملك السعودية الجديد سلمان عبدالعزيز، غير أن الزيارة لم تكتسب زخمًا سياسيًّا.

وفي مايو 2017، عقدت القمة العربية الإسلامية الأمريكية في الرياض، ووصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حركة حماس بـ"الإرهابية"، وهو ما مثل تحولاً كبيرًا في المواقف السعودية الرسمية، بعد ذلك وفي 22 فبراير 2018، وصف عادل الجبير - في تصريحات أمام لجنة الشئون الخارجية في البرلمان الأوروبي في بروكسل - حركة حماس بأنها "إرهابية"، وهو ما اعتُبر سابقة خطيرة في تاريخ العلاقة بين الجانبين.

ويمكن قراءة البيان وفهم أبعاده من خلال العناصر الآتية:

أولاً: كان من أهم ما كشف عنه البيان أن جهاز مباحث أمن الدولة السعودي اعتقل في الرابع من أبريل الماضي محمد صالح الخضري، المقيم في جدّة منذ نحو ثلاثة عقود، وهو ما يعني أن الحركة تحملت وصبرت خمسة شهور كاملة لإتاحة الفرصة للوساطات الدبلوماسية لحل الأزمة، دون أن تسفر عن شيء أمام تصلب السلطات السعودية وإصرارها على الانتقام والتنكيل بكل ما يمس المقاومة الفلسطينية، وأمام هذا الإصرار والتصلب من جانب السلطات السعودية لم تجد "حماس" مفرًّا من الإعلان عن هذه المواقف الشائنة للنظام السعودي، والتي تكشف عن عمق الانحياز للاحتلال الصهيوني عدو الأمة الأول وحربها على المقاومة المشروعة من أجل صفقات سياسية رخيصة وتمثل خطرًا على الأمن القومي للأمة العربية كلها.

ثانيًا: لم تكتف السلطات السعودية باعتقال الخضري الأب، واعتقلت الحضري الابن الأكبر "هاني" بدون أي مبرّر، وكشف البيان عن أن عملية الاعتقال تمت ضمن حملة طالت العديد من أبناء الشعب الفلسطيني المقيمين في السعودية، والذي يقدر عددهم بالعشرات، بحسب منظمات حقوقية، وهو ما يتفق مع ما ذكره المرصد "الأورومتوسطي" - وهو هيئة حقوقية دولية مقرها جنيف - والذي طالب السلطات السعودية بالكشف الفوري عن مصير عشرات الفلسطينيين المعتقلين في السعودية، والذين تعرضوا لإخفاء قسري دون تهم أو مخالفات، واعتبر المرصد الحملة التي استهدفت الفلسطينيين ما هي إلا حلقة في سلسلة طويلة من الانتهاكات لحقوق الإنسان في السعودية، وقال المرصد: إنه لا يستطيع تحديد رقم دقيق للمعتقلين الفلسطينيين، غير أنه أحصى 60 شخصًا فيما تشير تقديرات أخرى إلى أن الرقم أكبر من ذلك بكثير.

ثالثًا: بيان حماس وصف الاعتقال بالخطوة الغريبة المستهجنة، وأوضحت الحركة أن "الخضري كان مسئولاً عن إدارة العلاقة مع المملكة العربية السعودية على مدى عقدين من الزمان، كما تقلّد مواقع قيادية عليا في الحركة، ولم يشفع له سِنّه، الذي بلغ (81) عامًا، ولا وضعه الصحي، حيث يعاني من مرض عضال، ولا مكانته العلمية، كونه أحد أبرز الأطباء الاستشاريين في مجال (الأنف والأذن والحنجرة)، ولا مكانته النضالية، التي عرف فيها بخدماته الجليلة التي قدّمها للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، داخل فلسطين وخارجها".

رابعًا: أخطر ما في الأمر أن معظم من تم اعتقالهم كانوا يمثلون العمل الاجتماعي للحركة والكل الفلسطيني، ومن ينشطون من أجل تقديم الدعم للشعب الفلسطيني، ولذلك فمن أهم أهداف هذه الحملة هو تجفيف منابع تمويل المقاومة الفلسطينية وحركة "حماس" على وجه التحديد، ووقف تقديم أي مساعدات من الشعب السعودية للمقاومة الفلسطينية وحماة المسجد الأقصى. وبحسب المحلل السياسي تيسير محيسن، فإن السعودية وأغلب دول الخليج يعملون وفق نظرية "تجفيف المنابع (المالية)"، وذلك لحصار الحركة وقطع الإمدادات والمساعدات التي تمثّل العصب الرئيسي لبقاء الحركة.

خامسًا: لم يتوقف الأمر على اعتقال عشرات الفلسطينيين، بل امتد إلى اعتقال السلطات السعودية أكثر من 30 أردنيًّا منذ شهر فبراير 2019 الماضي، يعملون على أراضي المملكة منذ سنوات، ويقبعون في سجني "الحائر" بالرياض و"ذهبان" في جدة وسجن ثالث مجهول، وأن عملية الاعتقال جاءت ضمن حملة تستهدف المتعاطفين مع القضية الفلسطينية، ولم يتم تقديم المعتقلين إلى القضاء حتى اليوم.

ويؤكد أهالي المعتقلين أنهم يتعرضون لصنوف من التعذيب تمارس بحقهم، وحسب مصادر تحدثت لـ"الجزيرة"، فإن ثمة تهمة غير معلنة تتمثل في دعم القضية الفلسطينية ومقاومتها، وتتحدث مصادر أردنية عن استياء رسمي جراء تواصل الاعتقالات، وترى فيها محاولات لليّ ذراع عمّان، وأن ما جرى ليس سوى حلقة من حلقات ضغوط الرياض على عمّان، وهو ضغط يعكس ترديًا مكتومًا في علاقات الجانبين.

سادسًا: بيان "حماس" واعتقال عشرات الأردنيين المتعاطفين مع القضية الفلسطينية، ربما يعكس حجم الأزمة بين الرياض والحركة، كما يكشف بالقدر ذاته مدى التقارب والانحياز السعودي للعدو الصهيوني، ولعل عشرات الشواهد والمواقف تدلل على صحة ذلك، ومنها أن فضائية (كان) الصهيونية كشفت الخميس الماضي 12 سبتمبر عن أن الاعتقالات التي نفذتها السلطات السعودية بحق نشطاء ومؤيدين لحركة "حماس" خلال الأشهر الماضية جاءت بعد معلومات تلقتها الأجهزة الأمنية السعودية من نظيرتها الصهيونية، وهو ما لم يتم نفيه من جانب السلطات السعودية حتى كتابة هذه السطور؛ ما يعني أن حجم التحالف الأمني بين الرياض وتل أبيب بلغ مستويات غير مسبوقة، تؤكد أن بلاد الحرمين لم تتخل فقط عن دورها في حماية ووحدة الأمة الإسلامية، بل انسلخت تمامًا من دورها، وتنكرت للواجبات المفروضة عليها، وارتمت في أحضان العدو، دون وخز من ضمير أو مراجعة لهذه المواقف الشائنة.