بقلم: فضيلة الشيخ/ محمد عبد الله الخطيب

من رسالة الأسرة في الإسلام أن تقودَ أولادها إلى الخير وتعوِّدَهم على الطاعات؛ حتى يألفوها وتُدرِّبَهم على العبادات حتى يحبوها، فإذا بلغوا الحُلُم لم تكن هذه الجوانب غريبةً عليهم، بل أصبحت بفضل الله ثم بحسن التربية الأسرية محبَّبةً إليهم، فعلى الآباء أن يصحبوا أبناءهم إلى المسجد، وأن يحضروا الصلوات معهم، وعلى الأم أن تصحب بناتِها إلى المسجد أيضًا، وأن تُعلمَهم بالأسلوب المناسب لمستواهم ولسنهم.

 

ورد في كُتب التاريخ أن الناس شاهدوا في بعض البلاد الإسلامية شابًّا حديثَ السن، لكنه على ثقة من نفسه وحَسَنٌ في تصرفه، فذهبوا إلى أمه فسألوها: ماذا فعلتِ مع هذا الغلام حتى وصل إلى هذا المستوى رغم صغر سنه؟! فقالت: وهو في السادسة من عمره بدأتُ أحفِّظُه القرآن وأروي له الشعر، ثم بعد ذلك علمتُه الفروسية وقلت له: امشِ وتبختر في الحي وانتظر الطارق (من كتاب تربية الأولاد).

 

وعمر بن عبد العزيز كان صغيرًا، وقد تعهَّد به من يربِّيه، فتأخر عن الصلاة يومًا فسأله المُربي لما تأخرت عن الصلاة؟ قال: كانت مٌرجِّلتي تُمشِّط شعري، فأرسل إلى والده يشكوه!! فكتب والده إليه: لا أكلمك حتى تحلقَ هذا الشعر الذي شغلك عن طاعة الله عز وجل، واستجاب عمر رضي الله عنه عن رضا وإيمان، وجاء في الحديث "مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر" وفرِّقوا بينهم في المضاجع".

 

وروى الإمام البخاري رحمه الله بالنسبة للصيام أن الرُّببع بنت معوذ قالت: "أرسل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صبيحة عاشوراء إلى قرى الأنصار: "من كان أصبح صائمًا فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرًا فليصم بقية يومه" فكنا نصومه بعد ذلك ونصوِّم صبياننا الصغار منهم، ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن- قطعة الصوف- فإذا بكى أحدُهم من الطعام أعطيناه إياها حتى يكون عند الإفطار" (رواه مسلم والبخاري).

 

لكنْ.. ما هو السن الذي يجعلنا نقوم بمثل هذه التوجيهات العملية للطفل؟! اختلف العلماء في تحديد السن التي يُعَود فيها الصبي على الصيام:

 

- فقالوا: بالسبع والعشر كالصلاة، وبهذا الرأي قال الإمام الشافعي والإمام أحمد رضي الله عنهما.

- وقالوا أيضًا باثنتي عشرة سنة وبه قال إسحاق بن راهوية.

 

- وقال الأوزاعي: "إذا أطاق صوم ثلاثة أيامٍ تباعًا لا يضعُف فيهن من الصوم" ويرى الإمام الغزالي رحمه الله تعالى أنه مهما بلغ الصبي سنَّ التميز فينبغي ألا يُتسامح معه في ترك الصلاة والطهارة ويؤمر بالصوم في بعض أيام رمضان.

 

- وقال عمرو بن الزبير رحمه الله: "إذا أطاق الصبيان الصوم وجب عليهم" أي طُلب منهم على سبيل التدريب والتمرين، والجمهور على أنه لا يجب على مَن دون البلوغ ولكن يستحب.

 

- وجماعة من السلف قالوا: "يؤمر الصبيان بالصوم للتمرين عليه إذا أطاقوه".
وهذا الأمر كما قلنا للتمرين والتدريب، ويكون باللطف واللين وحسن المعاملة، فإن اعتياد الشيء يُذلل الصعب ويمهِّد السبيل، فقد جاء في الحديث "تعودوا الخير، فإن الخير عادة والشر لجاجة".

 

والعبادات والطاعات إذا واظب عليها الإنسان وأحسَّ بها كانت لونًا من ألوان القُربات وعندها تقوَى وتستمر، ويسهل أداؤها.

 

وأجمع العلماء أنه لا تلزم العبادة والفرائض إلا عند البلوغ، لكنَّ أكثرَهم استحسنوا تدريبَ الصبيان على الطاعات رجاءَ البركة، وأن من فعل ذلك منهم مأجور، وباعتيادهم عليها تَسْهُل عليهم إذا لِزمتهم".

 

رأي الطب

ولكن ما هو رأي الطب في ذلك؟ إن رأيه يوافق رأي الجمهور، يقول أحد الأطباء العظماء: "أثبت الطب قديمًا وحديثًا أن صيام الأطفال دون البلوغ ضارٌّ بهم، فإن أجسامهم الناشئة في حاجة إلى التغذية المستمرة؛ حتى تستطيع أن تنمو وتترعرع، وإن لم تتعهد بالغذاء والتغذية وقَف نُموُّها أو تعطَّل، وفي هذا من غير شكٍّ إضرارٌ بالصحة الجسمانية والعقلية للطفل، من أجل ذلك فإنني أنصح الآباء والأمهات ألا يُشجِّعوا أطفالهم على الصيام، فإن رأوا أجسامهم قد نمَت وترعرعت فلا بأس عليهم أن يشجِّعوهم على الصيام تدريجيًّا حتى يَنشأوا على حب الدين، وتتربى في نفوسهم عاطفة الحدب على الفقراء، وقديمًا قالوا: "الصلاة عادة، والصوم جلادة".

 

هذا هو الحق الذي لا شكَّ فيه والذي يُطابق قوانين ملَّتنا السمحة، والدين يسرٌ لا عسرٌ، ولا خلاف أنه مما لا يُستحسن في التربية الخلقية إكراه الصبية على فعل أمر ديني يشق عليهم؛ لأن ذلك يُبغِّضهم في العبادة ويضعِف عزائمهم.

 

فإذا كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- يقول في الكبير: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، فإن المنبتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى" فما الظن بالصبي الصغير هذا؟!
فهيا بنا من الآن نستعد ونهيِّئ أبناءَنا لاستقبال هذا الشهر الغالي العظيم المبارك:

1- هيا نبثُّ في أبنائنا روحَ الأشواق وعبير الذكريات للشهر الكريم: هيَّا نحكي لهم قصصًا من الماضي ونشوِّقهم إلى خير عظيم ينتظرهم في كل مجال، فرمضان مصدر الرحمات، ومنهل الخيرات، ومنبع البركات، وعلى رأس هذا الخير فضل الله العظيم وثوابه الجزيل وعطاؤه المنان.. "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"

 

2- هيا نذكِّر أبناءَنا بالمآثر الرمضانية: المساجد المليئة بالناس، الحافلة بدروس العلم، وصلاة التراويح، واعتكاف العشر الأواخر.. العلاقات الاجتماعية الجيدة، والزيارات، والولائم الكريمة، وجوّ الود وصلة الأرحام.. الحديث عن الانتصارات الرائعة للمسلمين في رمضان عبر التاريخ.. توفيق الله تعالى لعباده الصائمين.

 

3- هيا نهيِّئ أبناءَنا لحُسن التعامل مع المسجد الذي يقضون فيه أوقاتًا طويلةً بخلاف بقية العام: هيَّا نكلِّمهم عن آداب المسجد واحترامه وتعظيمه والبعد عن الضوضاء والشغب فيه، ونحرص قدرَ الإمكان على تذكيرهم بهذه الآداب قبل كل مرة يذهبون فيها إلى المسجد.

 

4- هيا نصنع جوًّا من السعادة يجعل الطفل يحب الشهر الكريم ويرتبط به.. نشتري لهم الهدايا، ونعلِّق لهم الزينة، ونزيد لهم قدرَ المصروف، وننشر فيهم روح البهجة والسرور في كل مكان، ونُشعرهم بفرحتنا وسرورنا واستبشارنا بالشهر الكريم.

 

5- هيا نبثُّ فيهم روح الاستعداد الإيماني.. هيا يا أبنائي نجدِّد التوبة مع الله تعالى فَنُقبل عليه ونفتح صفحةً جديدةً.. هيا نستعد لاستقبال رمضان بعلاقات طيبة مع بعضنا، فنصلح بين المتخاصمين من أصدقائنا، ونحصل على رضا الوالدين؛ حتى يكرمَنا الله بالفضل العظيم، وحتى لا نُحرَم من فضل رمضان الذي يحرم منه المتخاصمون.

 

6- هيا نهيِّئ أبناءَنا فقهيًّا.. هيا نهتم بمدارسة آداب وفقه الصيام بطريقة مبسطة قبل بداية رمضان؛ من أجل الاستعداد الجيد للأمر قبل الممارسة بدون علم، وبالتالي نتلاشى الوقوع في الأخطاء، ويمكنكِ أختاه أن تتعاوني مع بعض الصديقات لجمع الأبناء أو البنات في حلقات لتدريس ذلك أو التنسيق مع بعض المشايخ، مع مراعاة المرحلة السنية للأبناء.

 

7- هيا نُعلن عن جوائز تحفيزية عن كل يوم يصومه الابن لتشجيع الأبناء في مرحلة التدريب على الصيام: "بإذن الله من يصوم يومًا هذا العام سنُكافئه بكذا".

هدانا الله للطريق الصحيح للتربية التي توافق يسْرَ الإسلام وسماحة الإسلام