حتى الآن لا يوجد تفسير واحد حقيقي لما جرى يوم 20 سبتمبر 2019 حين كسر مصريون - غالبيتهم بلا هوية محددة - حاجز الخوف، وتظاهروا مطالبين برحيل الخائن عبدالفتاح السيسي قائد الانقلاب العسكري وتنحيته ومحاكمته.

فلا أحد يعرف على وجه التحديد ما الذي يحدث في مصر سوى دائرة صغيرة من رجال الدولة والأجهزة المصرية.

يبدو أن جهات أمنية شعرت بالارتباك في هذا اليوم؛ لهذا لم تتعامل في البداية بعنف مع المتظاهرين العفويين لعدة أسباب، منها:  

1- دعوة المقاول والممثل محمد علي للتظاهر، وتسريب أنباء عن أنه مسنود من ضباط بالجيش، وأنه لا يتحرك من تلقاء نفسه، دفعت ضباط الشرطة إلى الاعتقاد أن هناك تغييرا أو انقلاب قصر قادما، والمظاهرات مجرد تبرير لتنحية المجرم السيسي، وليس عليهم بالتالي قمع المتظاهرين بعنف كي لا يكرروا خطأ 2011.

2-    عدم وصول تعليمات محددة وسريعة لقيادات الأمن بالتعامل مع مظاهرات؛ كانوا يستبعدون حدوثها (بسبب ترسيخ سياسة البطش بكل من نزل سابقا) جعل القيادات الأمنية تسترخي ويخلو ميدان التحرير من مدرعاتها المعتادة، وتتعامل بطريقة أقل بطشا في البداية مع المتظاهرين.

3- غياب مدرعات الجيش عن ميدان التحرير والميادين الأخرى أثار قلق شرطة الانقلاب أن يتم تحميلها هي مسئولية الأزمة في مواجهة الشعب كما جرى في 2011 وأثار توجسهم؛ لهذا ارتبكوا وترددوا في التعامل العنيف مع المظاهرات.

4- حالة الغموض في هذه الليلة عززه الغموض العام الذي يغلف مصر كلها منذ سيطرة الديكتاتور السيسي على كل مناحي الحياة وإقصاء الجميع وإسكاته والتوسع غير المسبوق في السجون والديون، والاستحواذ الكامل على السلطة والثروة، وتعيين القضاة وكل المسئولين، لهذا لم يكن أحد يفهم ما يجري؛ لأنه لا أحد يدري أصلا كيف تدار الدولة التي تعطلت؛ لأن السيسي نفسه ربما تأثر بهذه الأجواء وظل صامتا، فتوقفت معه الدولة التي بات هو محورها!.

5-    الأكثر إثارة أن صمت السيسي نفسه وعدم إصداره أوامر لمن حوله أو للأجهزة التي تجمدت لمعرفة ما يجري؛ جاء بعدما استشعر حجم الخطأ الذي وقع فيه حين اعترف بأنه يبني قصورا فأشعل بغبائه ثورة الشعب، فقد نجح محمد علي في استدراج الخائن السيسي للجلوس على كرسي الاعتراف في مؤتمر الشباب الثامن، وإقراره بأن سياساته التي أفقرت الشعب المصري إنما رافقتها سياسات لبناء قصور يعتقد بأنها تجعل من مصر دولة عظمى "قد الدنيا"، وكان ما قاله السيسي في هذا المؤتمر هو الذي غير مسار الأحداث، ووجهها إلى ما اتجهت إليه، لا مجرد دعوة التظاهر التي وجهها محمد علي للمصريين، فهذه الدعوة ما كانت لتدفع المصريين للاستجابة لها لولا ما أقر به السيسي بحماقة سياسية منقطعة النظير، حسبما قال د. حازم حسني استاذ العلوم السياسية.

6- حين عاد السيسي لرشده هو وأجهزته بعد صدمة المظاهرات في التحرير، خصوصا رمز الثورة وتمددها، صدرت الأوامر بالعودة للتعامل العنيف معها، وبدأت شرطة الانقلاب والأجهزة الأمنية تستفيق وتتفهم أنه لا يزال يمسك بخيوط اللعبة ولن يتم عزله، فعادت لعادتها في القتل والبطش والاعتقال وتلفيق القضايا والاستخفاف بما جرى.

4 سيناريوهات للمستقبل

الآن وقد حدثت الصدمة وكسر المصريون حاجز الخوف من التظاهر، بعدما نجحت شرطة الانقلاب وأجهزة أمنه في ترويع المصريين عقب انقلاب 2013 بسياسات الضرب بالرصاص والقتل المباشر والتصفيات، يصعب تصور أن يستمر الصمت، خصوصا في ظل تنامي إفقار المصريين وتزايد الغضب الشعبي على أحوال المصريين المتدنية مقابل بناة القصور والمنتجعات الفاخرة.

وبالمقابل أيضا يصعب تصور أن يبقى السيسي على نفس سياسته الغامضة أو جموده السياسي والاقتصادي، فالأرجح أنه سيعود من نيويورك كالجريح ينتقم ممن سمح بهذه المظاهرات، وأن يزيد من جرعة البطش، وربما التخلص من قيادات شرطية وعسكرية يشك في ولائها، وقد يطيح بوزير داخلية الانقلاب رغم خدماته.

ويمكن تلخيص السيناريوهات المتوقعة في أربعة على النحو التالي:

السيناريو الأول: يتمثل في عودة السيسي للبطش والقمع وتلفيق القضايا والتصفيات الجسدية خارج نطاق القانون، بدليل حملات الانتقام والاعتقالات الدائرة حاليا لكل القوى السياسية واعتقال قرابة 600 من المتظاهرين، ويدعم هذا شخصية السيسي نفسه النرجسية الانتقامية غير المستقرة، وقيام معادلة حكمه على البطش مقابل الاستقرار حسبما يتصور.

السيناريو الثاني: يتمثل في أن يحاول السيسي القيام بتغيير جذري في سياساته بأن يتخذ إجراءات إصلاحية بعد عودته من الولايات المتحدة ولو شكلية؛ كي لا يتكرر مشهد خروج المحتجين مرة أخرى.

ولكن المشكلة هنا أن ما خسره السيسي من مصداقية وهيبة لا يمكن استعادته، بعدما تآكلت الثقة في قدرة نظامه الانقلابي على الاستمرار، وتبلور أغلبية شعبية كاسحة ضد استمرار السيسي، ثم إن ربط الفساد بالجيش وضعه في حرج شديد، كما أن تصديه للاحتجاجات يضعه موضع الحامي للفساد وإهدار مال الشعب.

السيناريو الثالث: سيتوقف على رد فعل السيسي المتوقع بالبطش أو محاولة تغيير بعض السياسات، كتنفيس الاحتقان، كما كان يفعل مبارك، ولكن مشكلة هذا السيناريو - سواء صدر السيسي للشعب الوجه الغليظ أو الوجه الرقيق - هي أن الشعب عرف طريقه إلى الشارع وكسر حاجز الخوف، كما أن المشكلات التي يعاني منها غالبية المصريين، وهي عدم القدر على توفير قوت يومهم أو أعمال لهم أو قدرتهم على الحياة بصورة طبيعة.. كل هذه المشكلات لا تزال موجودة وتتفاقم، لهذا يصعب تصور بقاء المنقلب السيسي صورة طبيعية بعد عام 2019.

السيناريو الرابع: أن يضطر الجيش للتدخل كما فعل سابقا بانقلاب قصر فعلي يجري تدبيره لإبعاد السيسي؛ لتلافي قيام ثورة شعبية دموية هذه المرة والإبقاء على حكم الجيش للبلاد بوجه جديد يحافظ على مكاسب الجيش التي تحققت بانقلاب 2013 بسيطرته على الثروة والسلطة.

وسيشجع الجيش على هذا أن الأمور تتطور إلى حالة غضب أشد من حالة الغضب التي كانت موجودة إبان عهد مبارك؛ لأن الشباب الذي تظاهر هو جيل جديد أكثر شعورا بالظلم بسبب سياسات السيسي التي أفقرته وأضاعت مستقبله مقابل الفساد، ولأنهم يشعرون بأن مستقبلهم مظلم مستقبل؛ بسبب الفساد الحاد المستشري الذي كشف محمد علي عن جانب منه، والاهم أنه لا يوجد شيء يخسره هؤلاء الشباب، فهم يعتبرون أنفسهم "ميتين ميتين" في ظل سياسات الديكتاتور السيسي.

فدوائر الحكم تريد التخلص من السيسي الذي ثبت فشله ويقود البلد للسقوط التام، قبل أن يتحول الغضب الشعبي ضد النظام الانقلابي كله، وأيضا من أجل استعادة هيبة القوات المسلحة التي تم تشويهها.

ويشجع هذا أن الظروف التي وفرت للسيسي دعما غير محدود في 2013 من الداخل والخارج للانقلاب على الرئيس محمد مرسي وارتكاب المذابح لم تعد موجودة الآن، وربما لن تتوفر لأي حاكم يأتي بعده.

كما أن شرطة الانقلاب قد لا تكرر أخطاءها في ثورة يناير 2011، فهي تخشى التضحية بها من أجل شخص راحل.

بكل الحسابات، عجلة التغيير دارت، ولن تتوقع قبل رحيل السيسي، ولكن السؤال هو: متى؟ وهل سيفرض الشعب ذلك بتكرار المظاهرات والصدامات والقتل أم ستفرضه قوى خارجية تخشى ضياع مصالحها لو ذهب النظام ككل وتفضل التضحية بالسيسي وبقاء نظامه العسكري؟

وهل سيقبل الشعب من يخدعه مرة أخرى كما حدث في 2011؟ وهل ستتعلم القوى السياسية الكبرى التي تسيطر على الساحة من أخطاء 2011 وتتنازل لبعضها بعضا مقابل تحقيق المصالح العليا للشعب وخلق بيئة حرة للتعبير للجميع؟

5 أسباب ترجح رحيل السيسي

على الرغم من عدم وضوح أي من السيناريوهات السابقة سيتحقق فإن هناك مع هذا 5 أسباب يمكن القول إنها "معجلات" أو مسرعات لاحتمالات رحيل السيسي أشارت إليها تقارير صحفية عديدة، هي:

1-    صراع أجهزة الدولة
 
إذ يعاني عبدالفتاح السيسي خصومة في داخل الدولة والأجهزة الأمنيّة، فمنذ انقلابه وفي سياق سعيه للسيطرة على جميع الأجهزة أحدث تغييراتٍ جذرية في بعض الأجهزة وانتزع صلاحياتٍ ممن يشك في ولائهم ليمنحها لأولئك الداخلين في دائرة ثقته.

فجهاز المخابرات العامة كان جهازًا ذا صلاحيات وأهميّة محورية في النظام الانقلابي، ولكنه الجهاز الأكثر تضررًا من إدارة قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي، ومنذ نهاية عام 2013 أقال السيسي أكثر من 114 موظفًا وضابطُا في جهاز المخابرات العامة، ثم توّج هذه التصفية بتنصيب ذراعه اليمنى وحافظ أسراره ومدير مكتبه اللواء عباس كامل؛ ليكون مديرًا للجهاز، بعد أن أطاح بمديره السابق اللواء خالد فوزي.

وقد ظهر أن لرجال المخابرات العامة تنسيقا مع بعض الأجهزة الأمنية الأخرى، اتضح هذا في إفساح المجال للحشد الشعبي والمظاهرات، وعدم اتخاذ حملات قمعيّة واسعة، كما كان معهودًا، وإطلاق سراح بعض المتظاهرين المعتقلين من قِبَل جهاز الشرطة.

2-    الفقر والعامل الاقتصادي

وصلت مؤشرات الاقتصاد المصري إلى أسوأ حالاتها خلال السنوات التي حكم فيها السيسي مصر؛ إذ وصل الدين المحلي في ديسمبر 2018 إلى 4.1 تريليون جنيه مصري، كما وصل الدين الخارجي إلى 96 مليار دولار.

أيضا ارتفاع الديون أدى إلى تزايد أعباء الدين من أقساط وفوائد، وكل هذا أدى إلى تقلص الطبقة الوسطى المصرية وارتفاع رهيب في مؤشر انعدام المساواة الاقتصادية والفقر.

ومؤخرا، أشار بيان للبنك الدولي إلى وصول معدلات الفقر بمصر إلى حوالي 60 في المئة من السكان، كما أشار إلى زيادة معاناة الطبقة المتوسطة التي تعتبر مصدر المدخرات، بشكل كبير.

3-    استعداء الشعب على السيسي وعائلته

أسهم الخطاب - الذي وجهه رجل الأعمال محمد علي في رسائله للشعب المصري - في سقوط ورقة التوت عن فساد عائلة السيسي؛ حيث ركز محمد علي انتقاداته على عائلة السيسي، وكشف عن وجوه من حياة الترف والبذخ وبناء القصور والمتنزهات الخاصة بهم، في الوقت الذي يدعو فيه السيسي الشعب المصري للتقشف.

وأثر هذا الخطاب المباشر في كل القواعد الشعبية لملامسته هموم معاشهم اليومي، والعنت الذي يلقونه من ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وأولويات العيش، فحفز فئات عريضة من الشعب في تحديد خصم واحدٍ، وبناء عداوة موجّهة للسيسي وعائلته الذي يتنعمون على حساب أشقائهم.

4-    غياب الإسلاميين

ما يميز هذا الحراك ويصعّب على السيسي احتواءه، هو غياب الإخوان عن صدارة المشهد؛ بسبب اعتقال قادتها وقتل شبابها والبطش بأنصارها، وتلك الصدارة كان يستغلها السيسي كفزاعة، طالما استخدمها لاحتواء الشعب وتبرير القتل والقمع بدعاوى أن هناك عدوا داخليا ينبغي الحذر منه وحشد الشعب ضده!

ولكن.. الآن أصبح السيسي هو الخصم الوحيد الذي لا يعرف الشعب المصري الآن غريمًا سواه.

5-    غياب الداعم الخارجي

تأتي موجة الاعتراضات والتظاهرات الشعبية ضد السيسي في توقيت حرج، انشغل فيه حلفاؤه المحليون بملفات أكثر حساسية.

فالسعودية تعاني من أزمة حربها مع اليمن، والاقتصاد النازف، الذي استهلكته ميزانية الحرب، وانخفاض الإنتاج النفطي نتيجة استهداف مصاف في بقيق وخريص.

كما أن الإمارات تعيش حالة توتر شديد يهدد كيانها، مع فرصة قيام حرب بين الولايات المتحدة وإيران.

والكيان الصهيوني وأمريكا مشغولان بانتخاباتهما وسقوط نتنياهو واحتمالات أن يلحق به ترامب.

ولا شك أن غياب الداعم الخارجي، الذي كان عاملا رئيسا في صعود السيسي في المقام الأول، يجعل فرص رحيله قريبة جدًا.