كثير من الناس يولدون ويموتون ولا يتذكرهم أحد والقليل منهم من يترك ذكراه أثرا في نفوس الجميع بأعماله ومواقفه العملية التي تجعل القلوب تتعلق بهم دائما.

وعبد الرحمن سوار الذهب واحد من الذين سطروا لحياتهم كلمات حفرت بمداد من نور، ومواقف جعلت القلوب تتذكر أصحاب الهامات العالية، والإرادة القوية في التصدي لنزعات القلب، وصراعات النفوس. في ربوع مدينة هادئة حيث الأعشابوالحشائش المخضرة والأشجار المورقة، وارتفاع ملحوظ لدرجات الحرارة، ولد عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب، بمدينة الأبيض بشمال كردفان بالسودان.

حيث تلقى تعليمه الابتدائي فيها، كما حصل على التعليم الثانوي في مدرسة خورطقت الثانوية ،قبل أن يلتحق بالكلية الحربية "الدفعة السابعة"، وبعدها حصل على الماجستير في العلوم العسكرية من جامعة مسلم العسكرية، وزمالة كليةالحرب العليا من أكاديمية ناصر العسكرية العليا بالقاهرة.

ولد سوار الذهب عام 1354هـ - 1934م كما جاء على لسانه: "أما بالنسبة لي فقد ولدت في مدينة أم درمان في حوالي عام 1934م، حيث استقر والدي بمدينة الأبيض، وقد تلقيت جميع المراحل الدراسية بمدينة الأبيض حتى الثانوية، في مدرسة قرطبة الثانوية وهي ثالث المدارس الثانوية الحكومية في السودان في ذلك الوقت.ومنها دخلت إلي كلية الحربية بعد معاينات، وتخرجت ملازما في القوات المسلحة السودانية في أغسطس سنة 1955م،وفي نفس العام بدأ التمرد في جنوب السودان وتحديدا في 18 أغسطس 1955م".

بداية الرحلة العسكرية

تخرج سوار الذهب ضابطا في القوات المسلحة السودانية يوم 8 أكتوبر - تشرين الأول 1955، وتدرج في الرتب العسكرية حتى وصل إلى رتبة فريق أول بالقوات المسلحة السودانية ثم رتبةالمشير.

وشارك في عدد من الدورات الدراسية العسكرية في بريطانيا والولايات المتحدة والأردن، فيقول: "وأذكر أنني ذهبت إلي الدورات الدراسية العسكرية في بريطانيا مرتين وفي الولايات المتحدة الأمريكية وفي الأردن، حيث حصلت علي الماجستير العلوم العسكرية".

اشتهر سوار الذهب بكونه ضابطا عسكريا محترفا وعلى قدر عال من الكفاءة، لكنه عرف بتدينه الشديد دون أن يعرف له عن انتماء سياسي لأي فصيل أو جماعة سياسية أو طائفة بالسودان.

شغل منصب رئيس هيئة أركان الجيش السوداني، ثم أصبح وزير الدفاع عام 1985م وذلك في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري، وفي العام ذاته، عين قائدا أعلى للقوات المسلحة السودانية مع تمديد فترة عمله بالجيش لمدة سنة حسب قرار من رئيس الجمهورية.

عُرف برفضه لتسليم حامية مدينة الأبيض العسكرية عندما كان قائدًا للحامية في أيام الانقلاب الذي تعرض إليه النميري من قبل الجنرال هاشم العطا سنة 1971، وهو ما أدى إلى فشل الانقلاب واستعادة النميري لمقاليد الحكم بعد ثلاثة أيام

بين ربوع دولة قطر

في عام 1972م فوجئ سوار الذهب بقرار من النميري بإبعاده عن الحياة العسكرية دون إبداء الأسباب – لكن يبدو أنه للشعبية الجارفة التي حققها سوار الذهب خاصة داخل الجيش وخشية النميري منه - ولذا ما أن ترك الخدمة حتى توجه إلى دولة قطر والتي رحب بها أميرها الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني واتخذه مستشارا للشئون العسكرية له.

وكان بمثابة قائد للجيش والشرطة، ويُذكر له أنه كان أول من فرز الأرقام العسكرية القطرية وحدد أرقامًا منفصلة للشرطة وأرقامًا أخرى للجيش، وكما قام بفصل الجيش عن الشرطة وأسس كيانين مستقلين هما شرطة قطر والقوات المسلحة القطرية.

الإطاحة بالنميري

لم تنل سياسة النميري رضاء الشعب السوداني والذي ظل يتوجس منها خيفة بسبب الحروب مع الجنوبيين، والتضخم، وغياب العدل، وفضيحة تهجير الفلاشا لإسرائيل عن طريق السودان ومطارها، فدفع ذلك الشعب للتحرك في مظاهرات عارمة أثناء وجود النميري بأمريكا للعلاج، وأثناء عودنه للقضاء على المظاهرات، تحرك الجيش بقيادة سوار الذهب وأعلن انحيازه للشعب وثورته وأطاح بالنميري الذي غير وجهة طائرته للقاهرة في أبريل 1985م.

يقول: "فوجئنا بمظاهرات عارمة وعصيانا مدنيا بلغ أننا كنا نجلس في الاتحاد الاشتراكي على نور الشموع، فطلبت بتحريك مظاهرة قوية تأييدا للرئيس النميري، وبالفعل تحركت مظاهرة لكنها كانت هزيلة جدا كنت على رأسها، وقتها أدركت أن النميري وحكومته لم يعد لهم شعبية وسط المجتمع".

ثم إنني بعد ذلك بوصفي قائدا عاما للجيش السوداني قمت بجولة في وحدات القوات المسلحة: "فرقة المدرعات، وفرقة المظليين، وفرقة المهندسين وكثير من هذه الوحدات، واستمعت إلي الجنود وإلي أراء الضباط بالذات، وجدت أنهم كانوا يجمعون علي أنه لم يعد للرئيس نميري أي نوع من الشعبية ليظل في الحكم، فدعوت إليا جتماع في القيادة العامة لكبار القادة العسكريين وتشاورنا في الأمر وكان يجمعنا أن الأمر أصبح الآن واضحا، وحرصا على السودان وحقن الدماء شعبة فلا بد للقوات المسلحة أن تأخذ جانب الشعب وتعلن نهاية حكم الرئيس جعفر النميري وعلي القوات المسلحة أن تتولي السلطة لفترة محدودة تجري خلالها انتخابات دستورية ثم تسلم السلطة إلي ممثلي الشعب وتعود بعد ذلك إلي ثكناتها، وفي 6 أبريل 1985م تم الإطاحة بالنميري".

سوار الذهب أمير القلوب

في وسط جنوده، وقوة سلطانه، وبعد أن هدأت البلاد، ودان له الأمر بعد الإطاحة بالنميري، وأصبح الرجل الأول في السلطة، خرج ليعلن أنه سيسلم السلطة لحكومة مدنية ينتخبها الشعب فوقعت هذه الكلمات كصواعق على قلوب الجميع، وتسألوا: هل هذا الشخص طبيعي؟ كيف يترك إنسان سلطة وقع تفييديه؟.. كيف يضرب بقدميه كرسي الحكم ويعود إلي صفوف الشعب؟

لكن الرجل كان بعيد النظر.. كان يعلم أن الكراسي لاتدوم.. ولاتبقي إلا السيرة الطيبة للإنسان.. حتى وان جلس علي الكرسي يوماواحدا.. الآن يتذكر الجميع الفريق عبد الرحمن سوار الذهب الذي منحته الحكومة التالية رتبةا لمشير.. يتذكروه بالخير لزهده في السلطة،ولإعلاء مصلحة وطنه وشعبه فوق مصلحته الشخصية وعلى مصلحة من شاركوه الإطاحة بالنميري.

بل بلغ به الأمر أن ترك للشعب تحديد الفترة الانتقالية والتي قدرها بعام، فنزل على رغبتهم، وبدأ الإعداد للدستور وتكوين حكومة شاركت فيها جميع الأحزاب السياسية وعين فيها رئيسا للوزراء هو الدكتور الجزولي دفع الله.

وبعد مرور العام لم تكن الأحزاب قد استقرت على وضع البلاد وطالبوا سوار الذهب بالاستمرار لفترة لكنه رفض بشدة وصمم على تسليم البلاد لممثلي الشعب والتي جاءت بحكومة الصادق المهدي وأحمد الميرغني.

فيقول: "ومن ثم انتهت الفترة الانتقالية والحمد لله،وأنا لا أشعر بأنني قمت بعمل خارق للعادة، لكن للأسف الأحزاب وصراعها لم تسمح لعجلة التنمية أن تتواصل".

ومن مواقفه حينما جاهد الشيوعيين لإلغاء الشريعة الإسلامية التي أقرها النميري، وقف سوار الذهب موقفا شجاعا قائلا للمجلس العسكري: "هل منكم من يستطيع ان يتخذ قرارا بإلغاء تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان؟ ويوقع علي ذلك .. ثم يقابل الحق عز وجل في اليوم الآخر ويكون عنده رد حاسم".

بعدها اعتزل العمل السياسي ليتفرغ لأعمال الدعوة الإسلامية حيث حقَّق إنجازات باهرة من خلال رئاسته لمجلس أمناء منظمة الدعوة الإسلامية في السودان، التي شيَّدت الكثير من المدارس والمستشفيات والمستوصفات ومراكز الطفولة وملاجئ الأيتام والمساجد،كما أنشأت محطات للمياه وحفرت مئات الآبار في أفريقيا، وغيرها من الأعمال الجليلة في العالم الإسلامي والتي منح عليها العديد من الجوائز.

نهاية الرحلة

توفي الرئيس السوداني الأسبق عبد الرحم نسوار الذهب، صباح اليوم الخميس 18 أكتوبر 2018م،الموافق 9 من صفر 1440هـ،بالعاصمة السعودية الرياض، والذي أوصى بأن يتم دفنه في المدينة المنورة.

للمزيد طالع:

    عبد الفتاح أبو عيشة: موسوعة القادة السياسيين: عرب وأجانب، دار أسامة للنشر والتوزيع، الأردن، صـ 192.
    إسماعيل أحمد ياغي: تاريخ العالم العربي المعاصر، العبيكان للنشر، 2000م، صـ 309.
    عبد الوهاب العقاب (الباحث اليمني): مشروع الإسلام السياسي في التطور التاريخي والمعاصر، دار رسلان، دمشق، 2012م، صـ 305م
    حوار المشير عبد الرحمن سوار الذهب: أخبار اليوم، أجري الحوار في الخرطوم مسعد عويس، 24/ 8/ 2011م.
    الشرق الأوسط: إسماعيل آدم ، الثلاثـاء 8 جمـادى الثاني 1430 هـ - 2 يونيو 2009م - العدد 11144.