من الخطأ الشائع بين الناس قول المرء: أنا خبرتي في المجال الفلاني عشر سنوات، يقول ذلك بناء على وجوده في ذلك المجال هذه السنوات العشر، إن مجرد وجود المرء في مكان معين كل هذه السنوات لا تجعله صاحب خبرة في مجاله، تلك السنوات إنما كانت سنة واحدة لمعلم لم يتطور في وسائل التعليم المستخدمة، هي سنة واحدة مكررة لمدير لم تتغير سياسته في شركته طوال السنوات، لا بد للمرء أن يتغير ويتقدم ويتطور، التغيير ليس تهديدًا لكيان المرء، بل هو أداة لا بد منها للنجاح.

نقد الذات هو العقبة الرئيسة في طريق التقدم، هو نفسه المحاسبة التي ذكرها أمير المؤمنين الفاروق رضي الله عنه في قوله: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا"، محاسبة النفس ونقد الذات تجعل المرء يتعلم كيف يكون صادقًا مع نفسه أولاً، ثم تجعله متحفزًا للتغيير، فتجده يتجاوز تلك المثالب التي تعلقت به ويعزز من الفرص والنواحي الإيجابية ليكمل طريقه من دون توقف عند نقطة معينة ومن دون أن يتراجع بعد ملله في تلك النقطة.

نقد الذات يجعل المرء يتقدم عن طريق معرفة قصوره وعلاجها، وهي تختلف عن جلد الذات الذي هو أقرب إلى اليأس والسلبية، نقد الذات هو أن تقول للنفس: إنني من أجل أن أكون متميزًا وأفضل مما أنا عليه لا بد لي من فعل كذا وكذا وترك كذا وكذا، بينما جلد الذات هو أن تحدث نفسك بقول: إنني لن أصل إلى ما أريد بسبب تلك الصفات التي أمتلكها، وتلك الممارسات التي أقوم بها، إنها بصورة رجل يصلي ويعمل المعاصي، فهو بين أن يحدّث نفسه بترك المعاصي لتكون صلاته أكثر قبولاً، وبين أن يحدثها بترك الصلاة إذ لا فائدة منها إن لم تنهه عن الفحشاء والمنكر، إن بين ذلك فرقًا كبيرًا، كما أن بينهما خيطًا دقيقًا، فليحذر المرء في الخلط بينهما، يقول د. عبدالكريم بكار: "نقد الذات يخفف من إعجاب المرء بنفسه ويحفزه على التفوق على ذاته".

يحتاج الإنسان إلى التمرس على نقد الذات وتعويد النفس على ذلك، فيواجه في أول المرء صعوبة لا بد منها، ولكن لا مناص، فطريق التقدم يمر من هنا، فليعود المرء نفسه على نقد ذاته ومحاسبتها وليدخل هذا الطريق مهما يكن وعرًا، إنه في هذا الطريق عليه أن يتخلص من بعض الممارسات الخاطئة التي أستطيع أن أسميها الكلاليب التي تكون في طريق ضبط النفس ونقد الذات الموصل إلى التقدم والتغير إلى الأحسن، سأذكرها في هذه المفردات:

1- أول هذه الكلاليب هي الإكثار من نقد الآخرين حتى ينسى المرء أن ينقد ذاته، لقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الخلق الذي يعيق المرء من تقدمه فقال: "يرى أحدكم القذاة في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه"، وهذا الذي فقهه الإمام العالم العامل عبدالله بن المبارك رحمه الله حين قيل له: ما نراك تعيب أحداً؟ فقال: لست عن نفسي راضيًا.

لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها           لنفسي في نفسي عن الناس شاغل

ليس من المعقول أن يتمرس المرء في "استخراج" عيوب الناس وأخطائهم ولا يستطيع أن يلحظ عيب نفسه، إلا أن تكون البصيرة قد انغلقت تمامًا بسبب كثرة المساس، فيموت الضمير والرادع الذي يجعل المرء ينتبه لنفسه، وهذا الخلق يجعل المرء في مقام "المتتبع" لعورات الآخرين، ومن كان هذا طريقه فيا ويله من فضح الله له وتتبع عوراته.

2- العقبة الثانية التي لا بد لطالب التغيير والتقدم أن يتجنبها هي مقارنة النفس بالآخرين؛ لا ينبغي لمن يحاسب نفسه أن يقول: ما بال فلان وصل إلى تلك المرحلة، وأنا في هذا المستوى؟ إن لكل امرئ ظروفه الخاصة التي تصنع منه شخصيته، وبالتالي فإن مقارنات التفضيل دائمًا ما تكون نسبية لا تخضع لمقاييس ثابتة، من أجل ذلك؛ فإن الذي ينقد نفسه لا بد ألا يقارن نفسه إلا بنفسه ذاتها؛ أي أن يقارن نفسه مثلاً: كم أحفظ من القرآن قبل ثلاث سنوات؟ وكم أحفظ اليوم؟ كم أقرأ كتابًا قبل خمس سنوات؟ وكم أقرأ اليوم؟ كم هو المدخر المالي قبل سنة؟ وكم ادخرت هذا العام؟ وهكذا، فالمرء حين يقارن نفسه بنفسه في الماضي فإنه لا بد أن يغير من نفسه حين يرى نفسه تتقدم أو تتراجع القهقهري أو تثبت مكانها، أما حين يقارن نفسه بالآخرين؛ فإنه سيجد لنفسه المبررات التي تمنعه من الوصول إلى مستواه، الآخرون يكونون قدوات لا مقاييس للمقارنات، هذا ما أظنه أصلح للتقدم والتغير الإيجابي.

3- أخطر الكلاليب في ظني وأصعب العقبات للتغيير والتقدم وتجاوز الأخطاء هي الصدق مع النفس في تشخيص المثالب من دون تبرير ولا استدراك، أسهل الأمور هي أن تجد لنفسك مبررًا لفعل الشيء، وأصعبها هي الاعتراف بالخطأ دون تبرير، لكنها أحبها إلى الله وأضبطها على تغيير النفس..

في غزوة "تبوك" وجد المنافقون لأنفسهم المبررات الواهية للتخلف عن المعركة؛ فلم يقبل الله تعالى تبريراتهم؛ (لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً) (التوبة: 82)، (ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ) (التوبة: 49)، وحين جاء كعب بن مالك يعتذر عن تخلفه قال بكل وضوح: "يا رسول الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أُعطيت جدلاً، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يُسخطك عليّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليَّ فيه إني لأرجو فيه عقبى الله، والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك"، هكذا من دون، ولكن ومن دون كنت كذا وكذا، "والله ما كان لي عذر" وزيادة في توضيح اللا عذر بين قدرته وقوته وقتئذ "والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك"؛ فكانت النتيجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أما هذا فقد صدق"

إن رسول الله يوحي إلى الناس أن أصحاب التبرير قد يكذبون وقد يراوغون، إنه يوحي إلينا أن صاحب التبرير غير مصدق عند الناس بخلاف كعب بن مالك الذي وصفه بالصدق، وأمرنا القرآن أن نقتدي به حين حكى بعد ذكر توبة الله عليهم (وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ {119}) (التوبة)، وقد كان من كعب بن مالك رضي الله عنه أن اعترافه بالتقصير والخطأ من دون أي تبرير منه قد نفعه بشكل متميز وجعله لا يكرر هذا الخطأ مرة أخرى، بل وجعله يلتزم بالصدق كل حياته حين رأى أثره المبارك أن ذكره الله تعالى في جملة من تاب عليهم، فقد ذكر كعب في حديثه أنه قال: "يا رسول الله، إِن الله تَعَالىَ إِنَّما أَنْجَانِي بالصِّدْقِ، وَإِنْ مِنْ تَوْبَتي أَن لا أُحدِّثَ إِلاَّ صِدْقاً ما بَقِيتُ"، إن التبرير خدعة للضمير، يريد المرء أن يرضي ضميره ويشرعن خطأه وقصوره فيبرر لنفسه حاله ومقامه: أنا لا أحفظ القرآن بسبب الزواج والأولاد، بسبب الدراسة، بسبب الظروف.. أنا لا أستطيع طلب العلم بسبب قلة المال، أنا لم أتفوق في دراستي لأن المعلم لا يعطيني حقي..

إذا كان يؤذيك حر المصيف         وكرب الخريف وبرد الشتا

ويلهيك حسن زمان الربيع            فأخذك للعلم قل لي متى؟

لا بد من المرء أن يتخلى عن التبرير وليعترف في التقصير كأول خطوة من خطوات التغيير، وليكن اعترافه من غير "ولكن"؛ حتى يعرف الأمور مجردة على حقيقتها من أجل التقدم والتطوير، وإن في ذلك صعوبة على النفس، ولكن مع التدريب والتدرج يصل المرء إلى مرحلة لا بأس بها، وقد ذكرت أنه أصعب العقبات لأنه أسهل الأمور ذكراً وأرضاها للضمير، ما أسهل أن يقول الرماة في أحد: "إن المعركة قد انتهت، فمن أجل ذلك نزلنا ولا يحملون أنفسهم تبعات ذلك الفعل"، لكن الله تعالى قد ذكر أنهم غير معذورين في خطئهم، فمن أجل ذلك عذرهم وعفا عنهم؛ (حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ ۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ) (آل عمران)، ولما تخلف الأعراب عن رسول الله حين ذهب إلى العمرة برروا ذلك ففضحهم الله تعالى أن ما قالوه غير ما أبطنوه، فقد كان تبريراً أرادوا أن يرضوا أنفسهم فيه (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا ۚ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا ۚ بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (الفتح)، فكم من داعية اليوم يبرر تخلفه عن ركب الدعوة بقوله: "شغلتنا أموالنا وأهلونا"؟

هذه العقبات وغيرها لا بد أن تكون في طريق أي ناجح أراد أن يتغير ويتطور في دنياه وآخرته، نجدها جلية في قاتل المائة نفس حين أراد أن يتغير، فلم يبرر ذنوبه بأن قومه أهل فسق بل أراد أن يتوب وبحث عمن يدله، فلما وجد عقبة العابد لم ييأس ويبرر إجرامه بعدم التوبة له بل بحث مرة أخرى، فلما عرف أن طريق التوبة في ترك أهل المعاصي لم ينتقدهم ويذكر أنهم السبب بل انطلق إلى قوم يعبدون الله ليعبد الله معهم، فلما توفي كانت المقارنة بين نفسه في الماضي وفي المستقبل (القاتل أو التائب) فكانت ملائكة الرحمة أقرب إليه بتوفيق الله، وهكذا لا بد للمرء من نقد نفسه كي يمضي في طريق كل يوم يجد فيه جديداً ونشاطاً مختلفاً، وتذكر أن الله تعالى قد أقسم بالنفس اللوامة ولا يقسم الله إلا بعظيم فقال تعالى: (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ {2}) (القيامة)، قال مجاهد: تندم على ما فات وتلوم عليه.