5- كيف استفاد المسلمون من مياه السيول والأمطار؟!

في بعض المدن الإسلامية التي يشحُّ فيها المياه، كان يتم تجميع مياه الأمطار؛ لتوفير مصدر إضافي من المياه للاستعمالات الخاصة مثل: ريَ الحدائق المنزلية، والتنظيف؛ مما يساعد في تقليل الطلب على مياه الشرب بأقل كلفة ممكنة، بشرط ألا تُستخدم كمياه للشرب بدون معالجة، وتختلف كميات المياه الممكن تجميعها على معدلات سقوط الأمطار في المناطق المختلفة، وكان يُستخدم هذا النظام في المدن التي يزيد معدل سقوط الأمطار فيها عن 200 ملم سنوي.

فاستخدم في مدينة القدس الشريف، وهو ما يؤكده الرحالة ناصر خسرو الذي زار مدينة القدس أثناء رحلته، فيذكر أن المسجد الأقصى قد حُفر في أرضه أحواض وصهاريج كثيرة يتجمع فيها ماء المطر، فلا تضيع منه قطرة، وينتفع به الناس وهناك ميازيب من الرصاص ينزل منها الماء إلى أحواض حجرية تحتها، وفي المنازل كلها أحواض لجمع ماء المطر إذ لا يوجد غيره هناك، ويجمع كل إنسان ما على سطح بيته من مياه، فإن ماء المطر هو الذي يُستعمل في الحمامات وغيرها (ناصر خسرو ، سفرنامة ، ص 75)، ويؤكد ذلك ابن ظهيرة فيذكر لنا أن مياه بلاد الشام إما من آبار تُحفر، أو ما يُجمع من المطر (ابن ظهيرة، الفضائل الباهرة ، ص 186).

كما صممت أسقف التكوينات المعمارية بمدينة القيروان بميل معين يسمح باتجاه مياه المطر إلى  خزانات صممت لتخزين المياه عرفت بالمواجل، وهى إما أن تكون عادة يشرب منها العامة مثل الموجودة في المهدية والقيروان، وما زال أحدها موجودًا وهو الذي شيده أحمد بن محمد بن الأغلب، ويعرف بين أهل تونس بفسقية الأغالبة، وقد شُيدت سنة 863م وتبعد بمسافة كيلو متر واحد من البوابة الشمالية للقيروان، وتستقبل المياه من وادي مرج الليل في فترة الأمطار (محمد محمد زيتون، القيروان ودورها في الحضارة الإسلامية، ط 1 ، دار المنار للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة 1988م ، ص 92: 93).

واتُّبع هذا الأسلوب في مدن المغرب والأندلس، ففي مدينة رباط الفتح في المغرب وخاصة في العصر الموحدي كانت الميازيب تتصل بصهاريج أو مصانع في باطن الفناء المكشوف، واعتبر ذلك من الابتكارات الموحدية، والتي يمكن مشاهدتها بوضوح في أعلى سطح مسجد الكتبية، ويذكر حسن الوزان أن علي بن يوسف يعقوب المنصور جدد الجامع الذي شيده جده الخليفة الموحدي بجوار قصبة مدينة مراكش، وجعل سقفه من رصاص، وأمر بأن تحيط بالسقف قنوات ضيقة بحيث تصرف جميع المياه الساقطة عليه إلى الخزان الذي أمر بتشييده تحت الصحن بعقود على جميع مساحة الجامع (الحسن بن الوزان ، وصف إفريقيا ، ص 139)، كما كانت مياه الأمطار تتجمع بين الأسقف الجمالونية في مدن الأندلس الإسلامية، وتتجمع في قنوات تصب في ميازيب عثر على واحد منها أشبه بالكابولي المزود باللفائف في قاعات قصر الخلافة (محمد محمد الكحلاوي، العمارة الإسلامية في المغرب الإسلامي عمارة الموحدين الدينية "دراسة أثرية معمارية "رسالة دكتوراه، كلية الآثار، قسم الآثار الإسلامية ، جامعة القاهرة 1986م، ص 320).

وتعكس طريقة إنشاء الأسطح كما سبق وأن بينا كيفية مقاومة الأمطار، فأعتقد أن طريقة العزل التي توضع فوق المستوى العلوي من السقف من مواد عازلة كالحصير وسعف النخيل مجدول يعلوها كسر الطوب ومونة الجير والطين بطريقة البربقة، كان الأساس من تكوينها حتى يكون السطح الخارجي للسقف قويًّا على تحمل الأمطار، فيحفظ المنشآت من أن يخرق ماء المطر سقفها فيفسد أخشابها بما نقش أو نحت عليها من زخارف وكذلك الجدران.

ولتجميع المياه من جميع مواضع السطح؛ شيد المعمار سطح السقف المسطح منحدرًا بميل اتجاه قناة أو مجرى ثم إلى حوض أو حفرة التجميع وتكسى بنفس مواد تغطية السقف، ويتراوح درجة الميل ما بين 0.5٪ : 1٪  لضمان تدفق للمياه الجارية مع مراعاة عدم وجود انبعاجات أو حفر قد تعوق عملية التصريف، أما عن منطقة التجميع فتخضع لحجم المنشأة، فهناك منشآت ذات مخرج أحادي، أما في حالة الأسطح ذات المساحات الكبيرة أو المنشآت غير المنتظمة يُستخدم أكثر من مخرج، مع العلم أنه كان يفضل أقصر المسارات للتصريف.

6- تصريف مياه المطر ببعض المدن الإسلامية:

استخدمت الأساليب المختلفة لتصريف المياه أيضًا في العمائر الإسلامية في مختلف المدن الإسلامية التي تتعرض لسقوط الأمطار؛ حتى ولو كانت قليلة، فاستُخدمت الميازيب بشكل كبير في المدن الساحلية لتصريف ماء الأمطار التي تتجمع أعلى أسقف المباني، نظرًا لكثرة سقوط الأمطار بها.

ويعتبر ميزاب الكعبة المشرفة من أجل الميازيب المستخدمة في العمارة الإسلامية نظرًا لقدسية المكان الذي وُضع فيه وللقيمة الزخرفية والجمالية التي عليها هذا الميزاب، وقد ثبت في سطح الكعبة في الجهة الشمالية والممتد نحو حجر إسماعيل عليه السلام؛ لتصريف المياه المتجمعة على سطح الكعبة المشرفة عند غسل السطح أو سقوط الأمطار, ويعتبرالقرشيون أول من وضعوا ميزابًا للكعبة المشرفة حين بنتها سنة 35 من ولادة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث كانت قبل ذلك بلا سقف, ثم لمَّا بناها عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما وضع لها ميزابًا، وجعل مصبه على حجر إسماعيل كما فعلت قريش, ولما أنقص منها الحجاج بن يوسف ما زاده فيها عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما على بناء قريش على حسب قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم وضع الميزاب في موضعه من الجهة الشمالية، وجعل مصبه على حجر إسماعيل عليه السلام كما كان سابقا.

وكان بعض الملوك أو الأغنياء من عظماء المسلمين يُهدي للكعبة المعظمة ميزابًا فيركب في الكعبة المشرفة وينزع الذي قبله، والميزاب الموجود في الكعبة المشرفة إلى العصر الحاضر هو الميزاب الذي عمله السلطان عبد المجيد خان بن السلطان محمود خان، عمله في القسطنطينية ثم جيء به وركب سنة 1276هـ / 1859م، وهذا الميزاب مصفح بالذهب. وقد أدخلت عليه ترميمات جزئية في المسامير العلوية المانعة لوقوف الحمام عليه وذلك فـي عهد الملك سعود يرحمه الله حين رمم سطح الكعبة المشرفة، وقد رمَّمه الملك سعود وجدّدُه الملك فهد بن عبد العزيز (عن موقع الحج والعمرة بشبكة الإنترنت     http://www.tohajj.com/Display.Asp?Url=hrm00037.htm  ).

أما عن مدينة سدوس إحدى مدن منطقة نجد بالسعودية والتي تُشبه مدن الصحراء الغربية في مصر أو مدن سيناء، فرغم أن الأمطار بها تحدث بصورة مفاجئة وتنهمر بكميات كبيرة في وقت قصير، ونظرًا لتأثر العمارة الطينية بالماء تأثرًا واضحًا قد يعرضها للهدم والتدمير، حاول المعمار أن يتغلب على هذه الظاهرة المناخية بالتخلص من ماء المطر الساقط بطريقتين: الأولى التخلص من ماء المطر الساقط على سطوح الدور والمنشآت المعمارية الأخرى؛ حتى لا يتسرب من خلال سقوفها إلى داخل هذه المنشآت أو إلى جدرانها الحاملة، وتوجيه هذا الماء إلى الطرق عن طريق الميازيب، فجعل سطوح المنشآت مائلة في اتجاه فتحاتها؛ ليسهل التخلص من ماء المطر الساقط على سطوح هذه المنشآت، واحتوت منشآت المدينة على ميازيب مصنوعة من الخشب المحفور في هيئة قناة تبرز عن سطوح الدور في اتجاه الطرق غالبًا؛ لتصب ماء المطر المنحدر إليها من سطوح المنشآت في الطريق.  

ثم تأتي المرحلة الثانية ممثلة في تصريف هذا الماء المتجمع في الطرقات؛ حتى لا يؤثر على أساسات المباني من جهة وحتى لا يعوق حركة الانتفاع بهذه الطرق من جهة أخرى، وكان التخلص من ماء المطر المتجمع في الطرقات بتوجيهه غالبًا إلى خارج المنطقة السكنية في اتجاه المزارع للاستفادة منه في ريِّها إن أمكن ذلك، ولذلك نفذت الطرق بميول تسمح بذلك، فنجد الشارع الرئيسي تتجمع فيه غالبًا الأمطار من السكك الجانبية لارتفاع أرضيتها عنه قليلاً، ومع انحدار هذا الشارع في اتجاه الشمال، كان المطر يتجه شمالاً، ومع امتداد المدينة عمرانيًّا في اتجاه الشمال، ونظرًا لانخفاض هذه المنطقة كان لا بد من توجيه ماء المطر للقطاع الجنوبي، كما تمَّ توجيه الماء شرقًا ومنه إلى البساتين في المنطقة خارج السور الشرقي للبلدة.

ومن الحلول الأخرى التي اتُّبعت للتخلص من ماء المطر بسدوس بعيدًا عن أذى تدفقه من على سطح الدور إلى الطريق سيما في السكك الضيقة عمل قنوات مخصصة في الجدران الخارجية لبعض الدور "مسايل" ينساب إليها الماء من السطح عبر فتحة صغيرة تسمح بمرور الماء إليها من السطح إلى القناة، ومنها إلى أرض السكة (محمد عبد الستار عثمان ، عمارة سدوس التقليدية ، ص 153 : 157).   

كما احتوت منازل صنعاء باليمن على ميازيب لتصريف مياه الأمطار من السقف إلى الخارج بواسطة ميازيب خشبية تُصنع من جذوع أو قشور الأشجار أو من الفخار على هيئة قنوات، وكان لكثرة هطول الأمطار الصيفية على اليمن سببًا في استخدام المعمار لمادة تعرف بالنورة لا تسمح بتسرب المياه من خلالها، وهي تشبه الخافقي في مصر، ولذلك استخدمت في تغطية سطوح المنازل لكي تسهل عملية تصريف المياه المتجمعة في السطوح عبر ميازيب إلى خارج الدار، وهو ما يؤكده ابن رسته أن أكثر سطوحها مفروشة بالجص لكثرة أمطارها (عبد الله عبد السلام الحداد ، صنعاء ، ص 79).

ولما كانت السيول الجارفة الآتية من الجبال المحيطة بصنعاء وغالبية المدن اليمنية تغمر شوارع المدينة حرص المعمار اليمني أيضًا على التخلص من مياه الأمطار التي تتساقط في أرضية فناء المساجد والمدارس وتصريفها إلى الخارج عن طريق فتحة ينخفض مستواها عن مستوى أرضية الفناء وعرفت هذه الفتحة في اليمن باسم مخلل (عبد الله عبد السلام الحداد ، مدينة حيس اليمنية ، ص 204)، كما حرص على تبليط الشوارع بالحجر المهندم لكي يسهل انسياب مياه الأمطار والسيول وتصريفها إلى السائلة (مجرى مياه الأمطار) وهو ما يؤكده ابن بطوطة حينما ذكر أن مدينة صنعاء مفروشة كلها، فإذا نزل ماء المطر غسل جميع أزقتها، وعندما تحدث ابن بطوطة عن مدينة عدن ذكر أن بها صهاريج يجتمع فيها الماء أيام المطر (ابن بطوطة، الرحلة "المسماة تحفة النظار"، ص 168)، كما ذكر المقدسي أن مدينة شهرستان كثيرة الميازيب (المقدسي، أحسن التقاسيم، ج2، ص 287: 288).

وفي مدن سوريا احتوت عمائرها على ميازيب لتصريف مياه الأمطار بأسطحها؛ وخاصة بمدينة حلب التي تتميز بكثرة أمطارها وكذلك بمدينة دمشق، ومن أمثلة منشأتها التي تحتوي على ميازيب المدرسة العادلية، كما كان يتم معالجة تصريف المطر بعمل ميل خفيف في سطح السقف للتخلص من ماء المطر الزائد عبر ميزاب (أحمد أمين، العمائر السكنية الباقية في مدينة دمشق، ص 278).

وفي مدن الأندلس الإسلامية كانت مياه الأمطار تتجمع بين الأسقف الجمالونية، وتتجمع في قنوات تصب في ميازيب عثر على واحد منها أشبه بالكابولي المزود باللفائف في قاعات قصر الخلافة، كما ذكر ابن الخطيب أن مدينة غرناطة امتازت بكثرة الميازيب (ابن الخطيب، صفة مملكة غرناطة، ص 22).

هكذا كان يتعامل المسلمون في العصور الوسطى مع الظروف المناخية؛ خاصة سقوط الأمطار الفجائية على هيئة سهول، فهل نتعلم الدرس من تاريخ أسلافنا المسلمين، إنَّ فشل حكومتنا ومسئولينا مع أزمة السيول التي هطلت على مدن وقرى سيناء ومحافظة أسوان فإلى جانب أزمة الضمير والتخطيط لديهم فهي أيضًا نتيجة لفقد الهوية والانتماء لتراثنا الإسلامي العمراني، الذي لم نحسن قراءته في تعامله مع الظواهر الطبيعية والمناخية.