102 سنة مرّت على "وعد بلفور" المشئوم الذي أصدرته بريطانيا في مثل هذا اليوم الثاني من نوفمبر عام 1917، الذي تم بموجبه منح فلسطين وطنًا قوميًّا للصهاينة، هذا الوعد الذي أعطى "حقًّا لمن لا يستحق".

وما زالت "سيناريوهات" التنفيذ قائمة، وإنْ تبدّلت المشاهد واللاعبون، لكن الهدف خدمة إقامة كيان صهيوني مجرم فوق أرض فلسطين، نقطة الارتكاز في ​الشرق الأوسط​، ولن تكون آخر المُؤامرات، "​صفقة القرن​"، التي أُفشِلَتْ قبل أنْ يُعلِن عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب​، بفعل رفض الرئيس الفلسطيني ​الواسع؛ ما أطاح بالمبعوث الخاص بالرئيس الأمريكي لعملية السلام إلى الشرق الأوسط جيسون غرينبلات​.

كما لا زالت الآثار المترتبة على الوعد الذي قطعته بريطانيا حاضرة على واقع ومستقبل فلسطين؛ حيث يُحكِم الاحتلال الصهيوني سيطرته على الأراضي الفلسطينية، إلا أنه وخلال قرن من الزمان لا يزال الجهد الفلسطيني متواصلاً لاسترداد حقه المعتصب.

جاء وعد بلفور بعد مفاوضاتٍ استمرَّت ثلاث سنوات دارت بين الحكومة البريطانية واليهود البريطانيين والمنظمة الصهيونية العالمية قبل أن يخرج بشكل خطاب موجَّه من آرثر بلفور وزير الخارجية البريطانية يوم 2 نوفمبر 1917 إلى اللورد روتشيلد، وهذا نصه:

"يسرني جدًّا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود الصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته:

إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل جهدها لتسهل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليًّا أنه لن يؤتى بعملٍ من شأنه أن يضير الحقوق التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى.

سأكون ممتنًا لكم لو أبلغتم هذا التصريح إلى الاتحاد الفيدرالي الصهيوني.

المخلص/ آرثر بلفور".

ومن الجدير بالذكر أن نص تصريح بلفور كان قد عُرض على الرئيس الأمريكي ولسون، ووافق على محتواه قبل نشره، ووافقت عليه فرنسا وإيطاليا رسميًّا سنة 1918م، ثم تبعها الرئيس الأمريكي ولسون رسميًّا وعلنيًّا سنة 1919م، وكذلك اليابان.

وفي سنة 1920 وافق عليه مؤتمر "سان ريمو" الذي عقده الحلفاء لوضع الخريطة السياسية الجديدة لما بعد الحرب، وضمّنه قراره بانتداب بريطانيا نفسها على فلسطين، وفي سنة 1922م، وافقت عليه عصبة الأمم وضمّن صك الانتداب البريطاني على فلسطين.

أسباب وعد بلفور

1- القيمة الإستراتيجية لفلسطين باعتبارها بوابة العبور إلى آسيا، كما وصف هيرتزل دور الدولة اليهودية في فلسطين بقوله: "سنكون بالنسبة إلى أوروبا جزءًا من حائط يحميها من آسيا، وسنكون بمثابة حارس يقف في الطليعة ضد البربرية".

2- محاولة بريطانيا كسب تأييد الطوائف اليهودية في العالم لها في أثناء الحرب العالمية الأولى.

3- التخلص من موجات الهجرة اليهودية داخل أوروبا وتوجيهها إلى فلسطين.

4- اكتشاف حاييم وايزمان الصهيوني لمادة الأسيتون وصنع المواد المتفجرة التي ساعدت بريطانيا في الحرب العالمية الأولى.

بطلان "بلفور"

يعتبر وجود وعد بلفور من الناحية القانونية في الوجود البريطاني أثناء إعطاء الوعد وجودًا غيرَ شرعي أصلاً؛ لكونها دولة احتلال، ومن المتفق عليه قانونًا أن الاحتلال لا يُفيد بالملكية؛ لذلك فبريطانيا العظمى لا تملك أرض فلسطين حتى تتكرَّم وتعطيَها يهود الأرض؛ لذلك اصُطلح على تسمية هذا الوعد، "وعد مَن لا يملك لمن لا يستحق".

وإذا كان هذا الوعد من الناحية القانونية وعدًا باطلاً فكل ما نتج منه فهو باطل أيضًا، أي إن قيام دولة "إسرائيل" على الأرض العربية في فلسطين هو وجود باطل، ويجب أن يُزال طبقًا للقاعدة القانونية التي تنص على أن ما بُني على باطل فهو باطل، وأية مبادرات للسلام دولية كانت أو عربية فإنها تصب في هذا البطلان، ولا أساس لشرعيتها.

يقول بن جوريون: "من كان مؤمنًا فيجب أن يعيش في إسرائيل، وكل يهودي يعيش خارجها فلا إله له"، وكان يشجِّع على الهجرة ويُبيد الفلسطينيين بالقتل والحرق والهدم.

خطاب بن جوريون الذي أعلن فيه قيام "إسرائيل": "نحن أعضاء مجلس الشعب.. ممثلي المجتمع اليهودي في أرض إسرائيل والحركة الصهيونية.. في يوم انتهاء الانتداب البريطاني على أرض إسرائيل، وبفضل حقنا الطبيعي والتاريخي بقوة القرار الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة، نجتمع لنعلن بذلك قيام الدولة اليهودية في أرض إسرائيل، والتي تدعى دولة إسرائيل، ونعلن أنه منذ لحظة الانتداب هذه الليلة عشية السبت السادس من أيار (مايو) 1948م حتى قيام سلطة رسمية ومنتخبة للدولة، وفقًا للدستور الذي تقره الجمعية التأسيسية المنتخبة، في مدةٍ لا تتجاوز أول تشرين الأول (أكتوبر) 1948م، منذ هذه اللحظة سيمارس مجلس الشعب سلطات مجلس دولة مؤقتًا، سيكون جهازه التنفيذي الإدارة الشعبية، بمثابة الحكومة المؤقتة للدولة اليهودية، التي تدعى إسرائيل".

ويقول الحق جل وعلا في كتابه الكريم: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ (الأنفال: من الآية 60)، وهذا هو وعد الله.

إن القوة هي السبيل، فما أُخذ بها لا يرد بغيرها.

فصول الوعد المشئوم

وقد مثل هذا الوعد البداية لتكريس وجود الحركة الصهيونية وعصاباتها على أرض فلسطين، إلى أن تم تسليم فلسطين على يد بريطانيا للحركة الصهيونية في عام 1948، وهو العام الذي أُنشئ فيه كيان الصهاينة على أرض فلسطين بعد تهجير أكثر من 400 مدينة وقرية فلسطينية.

وبعد مرور عام على هذا الوعد، أعلنت كل من إيطاليا وفرنسا موافقتها عليه، لتتبعها موافقة أمريكية رسمية عام 1919، ثم لحقت اليابان بالركب في ذات العام.

وعلى المستوى العربي، اختلفت ردود الفعل تجاه هذا الوعد بين "الدهشة، والاستنكار، والغضب"، وفق ما جاء في وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا).

وفي عام 1948، خرجت بريطانيا من فلسطين، ووفق التاريخ الفلسطيني، فإن بريطانيا سلّمت الأراضي الفلسطينية لـ"منظمات صهيونية مسلّحة".

تلك المنظّمات الصهيونية ارتكبت مجازر بحق الفلسطينيين وهجّرتهم من أراضيهم لتأسيس دولتهم عليها، فيما عُرفت هذه الحادثة فلسطينيا بـ"النكبة".

ثلاثة أرباع فلسطين وقعت آنذاك تحت السيطرة الصهيونية، في حين حكمت الأردن الضفة الغربية وخضع قطاع غزة للإدارة المصرية.

وبعد 19 عامًا، وبالتحديد سنة 1967، احتل الكيان الضفة الغربية (بما فيها القدس الشرقية) وقطاع غزة مع شبه جزيرة سيناء، ومرتفعات الجولان السورية.

وبعد توقيع اتفاقية أوسلو بين والكيان ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، خضعت الضفة الغربية (بدون القدس) وقطاع غزة، للحكم الذاتي الفلسطيني.

وعد من لا يملك لمن لا يستحق

وأطلق الفلسطينيون على وعد بلفور وصف "وعد من لا يملك (في إشارة لبريطانيا) لمن لا يستحق (الصهاينة)".

وقال المدير عام "مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات"، محسن صالح، وفي قراءة سابقة لوعد بلفور: إن بريطانيا أثناء احتلالها فلسطين (1920-1948) قامت بتطبيق الشق الأول من وعد بلفور بإنشاء "وطن قومي لليهود في فلسطين".

لكنها لم تلتزم بشقه الثاني الذي يتضمن عدم الإضرار بحقوق الفلسطينيين الذين كانوا يشكلون في ذلك الوقت نحو 92% من السكان وفق التقديرات البريطانية نفسها، وفق صالح.

وعام 2017، عبّرت بريطانيا عن فخرها بالدور الذي مارسته في إيجاد دولة إسرائيل، رافضةً تقديم أي اعتذار عنه.

لكن في يوليو 2019، أعلن مجلس بلدية مدينة شيفيلد شمالي بريطانيا، الاعتراف بدولة فلسطين، ورفع العلم الفلسطيني عاليًا على سارية أمام مقر البلدية.

الثالوث التآمري

من جانبه، اعتبر النائب الأول لرئيس المجلس التشريعي أحمد بحر، أن جريمة بريطانيا في "وعد بلفور"، و"اتفاق أوسلو"، ومؤامرة ترمب والاحتلال الصهيوني في "صفقة القرن"، تشكل "الثالوث التآمري" والذي يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية.

وقال بحر: "يتزامن في هذه الأيام الذكرى الـ102 لوعد بلفور المشئوم الذي تجاهل الحقوق الوطنية الفلسطينية وتعهد بمنحها للكيان الصهيوني من دون وجه حق إلى غرباء وشذاذ آفاق منبوذين، تم تجميعهم من مختلف أنحاء العالم وتوطينهم في فلسطين، ومنحهم شرعية الاحتلال والاستمرار عبر القوة الغاشمة والقرارات الدولية المنحازة".

وشدّد على أنه "وبالرغم من النكبات والتضحيات والعذابات اليومية للشعب الفلسطيني، فإن وعد بلفور كان حاضرًا دائمًا في الوعي الجمعي الفلسطيني وفي الذاكرة الوطنية الفلسطينية باعتباره أساس النكبة وضياع فلسطين".

وتابع: "إن مواجهة هذه الجرائم الظالمة بحق شعبنا وقضيتنا لا تتأتى إلا بالتمسك بحقنا الراسخ في مقاومة الاحتلال، وصيانة وحدتنا الوطنية، وتوفير مقومات الصمود والثبات لشعبنا، والعمل على إرساء استراتيجية وطنية موحدة لتوحيد الصف الوطني الفلسطيني في مواجهة الاحتلال".

وشدَّد على أن اتفاقية "أوسلو" و"صفقة القرن" ستندثران كما اندثر "وعد بلفور" على صخرة وعي وصمود الشعب الفلسطيني، مؤكدًا أن الشعب الفلسطيني متمسك بأرضه ووطنه، وبحقه بالعودة كونه "حقًّا مقدسًا لا يسقط بالتقادم".

وأوضح أن "الشعب الفلسطيني قادر على أن يستكمل مسيرة تحرره الوطني، وأن يحبط كل الصفقات والمشاريع السياسية التآمرية على قضيته".

جريمة سياسية

من جهته اعتبر القيادي في حركة حماس محمود الزهار قيام بريطانيا بإصدار وعد بلفور عام 1917 "يمثل جريمة سياسية وخطيئة تاريخية، ارتكبتها الحكومة البريطانية بحق الشعب والمنطقة العربية قبل 102 سنة بإقامتها كيانا يهوديا غريبا وسط المنطقة العربية؛ بهدف تشتيت شعوبها المسالمة، وتمزيقها سياسيا وتفتيتها جغرافيا، والتي وصلت ذروة المعاناة الإنسانية للفلسطينيين فيها مع نكبة العام 1948م نتيجة لذلك الوعد المشئوم".

وقال: "إن الخطورة التي حملها وعد بلفور المشئوم كونه كان الخطوة السياسية الأولى التي تبنتها بريطانيا ومن خلفها دول الاستعمار الغربي بمنح الحق المسبق لأقلية يهودية بإقامة كيانٍ لها فوق أرض فلسطين، رغم أنّ تعداد اليهود آنذاك لم يكن يشكل سوى 8% (55142 نسمة) من عدد السكان الفلسطينيين الذين فاقوا 630 ألفا قبل عام 1914م".

وأشار إلى أن هذه الخطوة شجعت دولاً أخرى على مواصلة تقديم الدعم غير القانوني للاحتلال، حتى وصلت الجرأةَ بكيان الاحتلال الغاصب إلى إعلان يهودية الدولة، وإقدام الرئيس الأمريكي دونالد ترمب على الاعتراف بمدينة القدس عاصمة أبدية لهذا الكيان ضمن صفقة القرن التي تهدف إلى إنهاء الصراع، وتصفية القضية الفلسطينية، وتجاوز حق الشعب الفلسطيني بإقامة الدولة وتقرير المصير في تطبيقٍ عمليٍ متصاعد لوعد بلفور المشئوم.

تحديات السياسية

وقال الزهار: "اليوم ورغم مرور 102 سنة على وعد بلفور الذي لا زالت تداعياته السياسية تحدق بالقضية الفلسطينية، ورغم المخاطر السياسية التي تهدد مستقبل الشعب الفلسطيني وفي مقدمتها انحياز الإدارة الأمريكية الفاضح لكيان الاحتلال، وإصراره على اعتماد الرؤية الصهيونية للصراع، إضافة إلى المحاولات المشبوهة لجعل دولة الاحتلال كيانًا طبيعيًا ومكونًا رئيسًا من مكونات المنطقة العربية، فإنّ شعبنا الفلسطيني عازم على مواجهة مخططات التصفية بكل ثبات رافضًا تجاوز حقوقه التاريخية والقانونية المشروعة، ومحاولات وسم مقاومته بالإرهاب".

وحمّل الحكومة البريطانية كلّ التبعات الناشئة عن هذا الوعد المشئوم، سواء على مستوى رد الاعتبار المعنوي للشعب الفلسطيني واستعادة الحقوق, وعودة اللاجئين, وإزالة جميع الآثار المترتبة على هذا الوعد واعتباره جريمة دولية ارتكبتها بريطانيا بحق أبناء الشعب الفلسطيني سكان الأرض الأصليين.

وطالب بريطانيا بإعادة النظر في العلاقة بينها وبين دولة الاحتلال, وكذلك مطالبة كل الدول التي ساندت وأيّدت ووفرت الدعم السياسي والإعلامي والزيف القانوني للاحتلال الصهيوني بالتوقف عن ذلك وتحمّل مسئولياتها القانونية والأخلاقية اتجاه ضحايا هذا الوعد المشئوم من أبناء شعبنا الفلسطيني.