لقد تغير أسلوب الحكم، وتطورت أدواته، لتلائم الظروف الجديدة، وبقي الأسلوب الذي كانت تحكم به «الدولة المدنية»؛ هو الأسلوب الذي يراد به أن تسير الدولة العالمية، فحصل صدام، وظهرت عقبات، وأطلت مشكلات برؤوسها، وتوالت أزمات جعلت الأيام الأخيرة من خلافة سيدنا عثمان رضي الله عنه مكدّرة أي تكدير! فقد حوصر الخليفة في داره، واغتيل وهو يقرأ في مصحفه.

ومن ثَمَّ نشأت الفرق أو تكونت الأحزاب في التاريخ الإسلامي؛ ما أدى إلى تصدع الوحدة، ولم يعد هناك تطابق بين المثل العالية، وواقع الحياة العملية، بينا كانا في العصر السابق شيئاً واحداً، وبدأ التساؤل، ونبت الشك، وتولدت الحيرة والشعور بعدم الاستقرار، وهو الذي حمل كل طائفة على أن تكون لها آراء، وأن تفكر في وضع، وأن تنظم نفسها لتحقق هذه النظريات، وتطبقها في الواقع العملي.

وظهرت أبرز النظريات في هذا السياق:

1- خلع الولاة.

2- رد دعوى قريش، وامتيازها على سائر العرب.

3- آراء عبدالله بن سبأ، وتأسيسه لما ذهب إليه الشيعة، ونظرية «الوصاية».

4- نظرية أبي ذرّ الاشتراكية.

وقد فرّق المسلمون بين مصطلحات الإمامة، والخلافة، والملك (الكسروية والقيصرية)، والإمارة، وتحدثوا عن نشأتها، والارتباط بمصطلح «الإمامة» الذي ثار حوله جدل كبير بين الفرق والمذاهب المختلفة، لدرجة أن الشيعة كانوا يسمّون ولاة الأمر غير المعترف بهم منهم «خلفاء»، لا «أئمة»، وكانوا يدعون قادتهم «أئمة» ما دام أمرهم غير ظاهر، فإذا استولوا على الدولة أضافوا إلى النعت السابق لقبي «خليفة»، و»أمير المؤمنين»، وذلك كما حدث لعبدالله السفاح؛ أول خليفة عباسي، إذ خلف أخاه إبراهيم الإمام.

ولم يجد أصحاب المذاهب الأخرى ما يدعوهم إلى تغيير المصطلح، فإن كلمة «إمام» قد وردت في القرآن الكريم، وفي الأحاديث الشريفة أكثر من غيرها دالة على معنى القيادة والزعامة الدينية.

وقد ناقش ابن خلدون بإسهاب في مقدمته (في الفصل الثامن والعشرين) انقلاب الخلافة إلى الملك (انظر: المقدمة، طبعة المهدي، القاهرة، 1930، ص 168 وما بعدها)، وذلك نتيجة للأوضاع الاجتماعية السائدة آنئذ؛ وفي مقدمتها العصبية التي كانت- فيما يرى- تحكم المجتمع وتوجهه، وكانت لا بد أن تفضي إلى الملك، مع الفارق بين ملك وجهته الباطل، وملك وجهته الحق؛ الأول يذمّه الشرع، والآخر لا يُذم، بل تُحمد آثاره. (راجع: النظريات السياسية: ص115).

الإسلام ووجوب الحكم

التعريف الحقيقي للإمامة: الحكومة الإسلامية الشرعية، أو كما نقول اليوم «الدستورية»، أو بعبارة تعيّن المعنى وتحدده: «الحكومة التي تكون الشريعة الإسلامية قانونها»، قانونها الأكبر أو الأم، وهو ما نسميه اليوم بالدستور، وقانونها الفرع، وهو مجموعة الأحكام التشريعية التي تنظم بها حياة الأمة، سواء كانت تلك الأحكام تتعلق بالمعاملات المالية، أو الأحوال الشخصية، أو المسؤوليات الجنائية، أو غير ذلك.

وهدف هذا القانون هو تحقيق مصالح الناس في حياتيهم الدنيوية والأخروية، أو بعبارة أخرى: تحقيق مصالحهم المادية والروحية؛ فليست إذاً هي الحكومة التي تعمل وفقاً للقانون «الطبيعي»؛ قانون «طبيعة الفرد»، وهي المؤلفة من الغرائز والنوازع الذاتية، قانون الأثرة والاستبداد وقهر الناس لبلوغ غايات المجد أو الثراء أو التحكم، أو بعبارة أخرى: الحكم الذي تحدد وجهاته الأهواء والشهوات، وليست أيضاً بالتي تعمل وفقاً للقانون «السياسي»، ويراد به مجموعة الأحكام التي يضعها أو يتفق عليها عقلاء الأمة من ساسة وحكام، بحسب ما تمليه المصالح الدنيوية فقط، أو كما يمكن أن يعبر عنها بكلمة «المادية»، غير ناظرين إلا إلى حدود هذه الحياة، وما يحدث فيها، ومقياس التشريع عندهم «المنفعة» (النظريات السياسية الإسلامية، ص 126- 127).

الحكومة الإسلامية، كما يقول د. محمد رياض الريس، هي التي يكون قانونها شرع الإسلام، الذي يستمد مبادئه من القرآن والسُّنة والإجماع والقياس (الاجتهاد العقلي)، وهذا القانون الإسلامي تجتمع فيه حكمة العقل الفردي والجمعي، والإرشاد النبوي والغاية الإلهية (النظريات السياسية الإسلامية، ص 127).

مذهب الوجوب

ترى الأغلبية العظمى أن الحكم الإسلامي أو الإمامة واجب الإقامة، وعدم قيامه يحمل الأمة خطأ كثيراً، ويسوقون الحجج والبراهين على هذا الوجوب، في مواجهة أقلية ترى أن هذا الحكم يقع في دائرة الجواز دون الوجوب.

ترد الأكثرية وهم أهل السُّنة جميعاً، والمرجئة جميعاً، وأغلبية المعتزلة والخوارج والشيعة جميعاً، مع فهم خاص في معنى الوجوب.

وليس معنى الجواز كما فهم بعض المعاصرين أن لا ضرورة للإمامة مطلقاً، فالتعبير بالوجوب والجواز اصطلاح فقهي، أو لغة قانونية يدرك معناها من يشتغلون بدراسة الشريعة الإسلامية الذين يرون أفعال العباد في مرتبة من مراتب خمس، هي: الوجوب، الندب، الإباحة أو الجواز، الكراهة، التحريم، والوجوب هو أعلى المراتب في نظر القانون.

والجواز عند الأقلية يعني الإمامة حكمها حكم سائر الأشياء أو الأعمال المباحة التي لم يرد فيها من الشارع نص قاطع على فرضيتها، ولكن على الفرد أو الجماعة النظر للموضوع بحسب ما تمليه ظروفها وما تقتضيه الحاجة من الوجهة العملية، فقد يصبح تنفيذ هذا العمل ضرورة لا بد منها، وإن قصر في التنفيذ؛ فإن الضرر يقع دون أن تكون هناك مسؤولية قانونية أو أدبية، فالطعام والشراب تتوقف على تناولهما الحياة من الأشياء المباحة قانوناً، لكنها واجبة أو ضرورية عملياً (النظريات السياسية الإسلامية، ص 129).

براهين وجوب الإمامة

1- إجماع الأمة.

2- دفع أضرار الفوضى.

3- تنفيذ الواجبات الدينية (نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا، ونظام الدنيا لا يحصل إلا بإمام مطاع، كما يقول الغزالي، وأكد هذا المعنى الماوردي في «أدب الدنيا والدين»، والنسفي في «العقائد النسفية»).

4- تحقيق العدل الكامل.

ويوضح ابن خلدون أن القائلين بالجواز إنما دفعهم إلى ذلك ما شاهدوه من انحراف نظام الخلافة القائم على الأهداف التي أقيم من أجلها، وأنه أنتج سياسة سداها ولحمتها الظلم والإعنات والاعتداء على حقوق الناس والاستبداد، وهذه دعوة إلى إلغاء الحكومة؛ أي وجود سلطة تنفيذية، ولكنهم أوجبوا على الناس إقامة العدل فيما بينهم، وتنفيذ أحكام الله، وأن يجمعوا على النصفة وتحقيق التعاون بينهم، وهذا الشرط إن كان ممكناً حدوثه عقلاً، فإنه ليس ممكناً فعلاً، وهو افتراض إمكان حدوث حالة خيالية. (النظريات السياسية الإسلامية، ص145- 146).

دعوى علي عبدالرازق

ترتكز دعوى علي عبدالرازق في كتابه «الإسلام وأصول الحكم» على أساسين لا ثالث لهما؛ الأول: أن الإسلام عقيدة فردية روحية ولا صلة له بالدنيا ولا السياسة ولا الاجتماع، والآخر: أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم قد انتهت بموته، وكذلك زعامته، فليس لأحد أن يخلفه لا في رسالته ولا في زعامته، ويصل إلى غرضه الجوهري من تأليف كتابه: أن الخلافة أو الإمامة الكبرى -كما يقول- لا أساس لها من الدين، بل هي ضد الدين ومخالفة لمبادئه، وهذا إنكار للإمامة بالمرة!

لقد انفرد بهذا الرأي وحده دون أهل الإسلام على اختلاف فرقهم ومذاهبهم، وهو رأي يختلف عمن قالوا بجواز الإمامة، فهؤلاء كانوا مثاليين؛ أرادوا الإمامة بالإجماع دون أي خلاف، تنفذ القانون وتمضي أحكام الله، أما من الناحية العملية فقد رأوا لزومها، وأقاموا هم الإمامة بالفعل؛ فليست هناك أي فرق إسلامية قالت بإنكار الخلافة على الإطلاق.

لقد ثبتت طبيعة الإسلام السياسية بالبراهين العقلية والتاريخية، وقرر المستشرقون أن الإسلام ذو صفة سياسية تجمع بين الدين والدولة، ويشمل نظريات قانونية وسياسية، وقد تكوّنت فرق وأحزاب حول هذه النظريات، وبذل المفكرون جهوداً كبيرة في موضوع الإمامة بحثاً وتعريفاً، ولم يتصور هؤلاء المفكرون إلا تلازماً بين الدين والدولة، وأن مبادئ الإسلام تنظم المجتمع، والإمامة قصد بها سياسة الدنيا والدين، واتفق على هذا الأئمة جميعاً، من أمثال البغدادي والماوردي والغزالي والرازي وابن خلدون.. ما شذ واحد منهم، بعد أن قدموا البراهين العقلية والدينية القوية لإثبات وجوب الإمامة، وهو ما يعد رداً مفحماً على مزاعم علي عبدالرازق.

نقاط تحتاج إلى إيضاح

يقول على عبدالرازق: «الإسلام دعوة دينية إلى الله تعالى»؛ يقصد بالدين ما يقابل الدنيا.

ويقول: «هيهات، هيهات، لم يكن ثمة حكومة، ولا دولة، ولا شيء من نزعات السياسة».

ويقول: «ما جاء به الإسلام، فإنما هو شرع ديني خالص لله تعالى، وسيّان أمر يكون منه للبشر مصلحة مدنية أم لا، فذلك ما لا ينظر الشرع السماوي إليه ولا ينظر إليه الرسول».

ويضيف موضحاً: «ذلك من أغراض الدنيا، والدنيا من أولها إلى آخرها، وجميع ما فيها من أغراض وغايات، أهون عند الله تعالى من أن يقيم على تدبيرها غير ما يحب فينا من عقول، وما حبانا من عواطف وشهوات، هي أهون عند الله تعالى من أن يبعث لها رسولاً، وأهون عند رسل الله من أن يشغلوا بها وينصبوا لتدبيرها».

ونسأل هنا: إذا كان الإسلام لا يعنى بشؤون الدنيا كما يقول؛ فلم كانت هذه التشريعات التي جاء بها للمعاملات، والقواعد التي وضعها لحفظ الأموال، والتنظيمات التي أوجبها لحفظ الأسرة، ولصون الحياة نفسها؟ وهل يريد أن تقتصر الشريعة على مسائل العبادة وحدها ونحذف ما عدا ذلك؟ وهل الإسلام أقر «الرهبنة» ودعا إلى قطع الصلة بالحياة الدنيا؟ وهل قال أحد من علماء الإسلام: إن الدنيا مذمومة لذاتها، أم قالوا: إنها وسيلة للآخرة، ومكان العمل الصالح، ويمكن أن تكون -حيث يريدها الإنسان- وسيلة طيبة، وتصبح خيراً عظيما؟ (انظر: النظريات السياسية الإسلامية، ص153-154).