الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:  

الإفساد: فعل ما به الفساد، والهمزة فيه للجعل، أي: جعل الأشياء فاسدة، والفساد أصله تحول منفعة الشيء النافع إلى مضرة به أو بغيره، وقد يطلق على وجود الشيء مشتملاً على مضرة وإن لم يكن فيه نفع من قبل. يقال: فسد الشيء بعد أن كان صالحاً، ويقال: فاسد إذا وجد فاسداً من أول وهلة، وكذلك يقال: أفسد إذا عمد إلى شيء صالح فأزال صلاحه، ويقال: أفسَدَ إذا أوجد فساداً من أول الأم[1].

والقرآن الكريم يتحدث كثيراً عن (الإفساد في الأرض) وينعى على المفسدين فيها، أو يبغون فيها الفساد أو يعينون عليه، ذلك أن الله -تعالى- خلق الأرض صالحة وأودع فيها البركة الكافية من فوقها: ((قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً، ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين))[فصلت/ 9، 10].

ولهذا خشيت الملائكة من إفساد الأرض عندما أخبرها الله -سبحانه- بأنه جاعل في الأرض مخلوقات من البشر يخلف بعضهم بعضاً فيها: ((وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. قال إني أعلم مالا تعلمون))[البقرة/ 30].

والمتأمل في حديث القرآن عن الفساد والفاسدين أو الإفساد والمفسدين، سيجد أن إيقاع الفساد من قبل البشر يأتي على مراتب:

أولها: إفسادهم أنفسهم بالإصرار على المعاصي وما يترتب عليها من مفاسد أخر. فكل معصية إفساد قال -تعالى- عن فرعون: ((آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين))[يونس/ 91] وكل تولٍ, عن الحق إفساد قال -تعالى-: ((فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين))[آل عمران/ 63] وكل إعراض عن الإيمان إفساد، قال -تعالى-: ((ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين))[يونس/ 40].

المرتبة الثانية من الإفساد:

ما يلحق بالذرية والأبناء والأتباع في اقتدائهم بالكبار المتبوعين في مساويهم. ولهذا قال نوح -عليه السلام-: ((إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً))[نوح/ 27].

المرتبة الثالثة:

إفساد الدائرة المحيطة بالمفسدين عن طريق بث أخلاق وصفات ودعاوى الفساد، وذلك بالإسراف في المعاصي حتى يتعدى أثرها إلى غير أصحابها، ولهذا قال صالح - عليه السلام - ناهياً قومه عن التأثر بالمفسدين: ((ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون)) [الشعراء/ 152].

المرتبة الرابعة:

إفساد الدائرة الأوسع في المجتمعات عن طريق إشاعة الأمراض الاجتماعية المفسدة بواسطة المضلين مثل إثارة فتن الشبهات والشهوات، والوقوف في وجه المصلحين وإحداث العقبات في طرقهم زعماً بأنهم يقفون ضد مصالح الناس. قال -تعالى-: ((وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)) [البقرة/ 11]. وقال الملأ المضلون من قوم فرعون: ((أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك)) [آل عمران/ 127].

المرتبة الخامسة:

الإفساد الناشئ عن فساد الحكام والقادة والزعماء، وهو الفساد الأكبر، لأن الكبراء إذا فسدوا في أنفسهم فإنهم ينشرون الفساد بقوة نفوذهم واستخدام سلطاتهم وقوتهم وقد ذكر القرآن عن بلقيس قولها: ((إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وكذلك يفعلون)) [النمل/ 34].

وكثيراً ما يزعم الطغاة المتكبرون أن المصلحين هم أصحاب الفساد. كما قال فرعون عن موسى -عليه السلام-: ((إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)) [غافر/ 26].

هذا بالرغم من أن فرعون نفسه كان مكثراً من الإفساد بكل أنواعه، ولا تشفع له الأبراج العالية والأصنام المنصوبة والقبور المشيدة فيما يطلق عليه (الحضارة الفرعونية) فإنها جميعاً شواهد على استبداد وسيطرة وطغيان الفراعين الذين كانوا يطمعون أن ينقلوا معهم الثروات المسروقة من الشعوب المستضعفة إلى قبورهم. قال -تعالى-: ((وفرعون ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد))[الفجر/ 10 12]. وقد وصف القرآن فرعون بالعلو والإفساد في الأرض: ((إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً، يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم، إنه كان من المفسدين))[القصص/ 4].

ومثلما كان فرعون، مفسداً بنفوذه السياسي والعسكري، فقد كان قارون مفسداً بنفوذه المالي الاقتصادي، وقد كان قادراً على استعمال أمواله في الإصلاح في الأرض، ولكنه أبى إلا أن يستعمل نعمة الله في محاربة الله، وقد قال له الناصحون من قومه: ((ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين. قال إنما أوتيته على علم عندي)) [القصص/ 77].

- وقد أوسع المتعالون من بني إسرائيل الأرض فساداً، فكلما زاد علوهم زاد فسادهم. قال -تعالى- عنهم: ((وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً))[الإسراء/ 4]. وكثر فسادهم وإفسادهم حتى صار الإفساد ديدنهم، وصار طبيعة فيهم حتى أنهم لا يشعرون بذلك. قال –تعالى-: ((وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون))[البقرة/ 14]. ولم يفلح معهم العلاج، حتى الوحي المتنزل من السماء لم يمنعهم من الإفساد، بل كانوا يوغلون في الطغيان حتى فيما بينهم، فصاروا ميؤوساً من صلاحهم واستحقوا أن يكونوا الأمة المغضوب عليها إلى يوم القيامة بسبب فسادهم وإفسادهم. قال -تعالى-: ((وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً، وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين))[البقرة/ 64].

والفساد في بني إسرائيل لم يكن على مستوى الساسة والقادة والزعماء فقط، بل وصل إلى من يفترض أنهم يقفون في وجه الفساد إصلاحاً وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، فقد سكت علماء الضلالة فيهم عن إنكار المنكر. قال -تعالى-: ((وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت، لبئس ما كانوا يفعلون. لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت، لبئس ما كانوا يصنعون))[المائدة/ 62، 63].

إن تلك المراتب الخمس للإفساد في الأرض، قد أحدثها ويحدثها البشر على هذا الكوكب، فالناس لا غيرهم من المخلوقات هم الذين ملأوا الأرض بالفساد حين ضلوا عن مناهج الوحي الإلهي عبر العصور، أما بقية مظاهر الحياة على الأرض فإنها تتأثر بفساد المفسدين من البشر تبعاً. قال -تعالى-: ((ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون)) [الروم/ 41].

إن الصراع الواقع على ظهر الأرض منذ بدأت عليها الحياة البشرية، إنما هو صراع بين المصلحين والمفسدين والعاقبة فيه لأهل الصلاح في الدنيا والآخرة: ((تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، والعاقبة للمتقين))[القصص/ 83].

للمصلحين طرق ومناهج للإصلاح، كما أن للمفسدين سبل وطرائق للإفساد وعلى الناس أن يتبعوا سبيل المصلحين ويجتنبوا سبل المفسدين. قال -تعالى-: ((ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون)) [الشعراء/ 152].

وقد أوصى موسى -عليه السلام- أخاه هارون حين استخلفه بألا يتبع سبل المفسدين: ((وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين))[الأعراف/ 142]. فهما صنفان من الناس مصلح أو مفسد ولا يستويان. قال -تعالى-: ((ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على مافي قلبه وهو ألد الخصام، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، والله لايحب الفساد))[البقرة/ 205].

ولا يمكن أن يستوي أهل الإصلاح وأهل الإفساد في الدنيا ولا في الآخرة. قال -تعالى-: ((أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، أم نجعل المتقين كالفجار))[ص/ 28]. أبداً لا يستون: ((والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار))[الرعد/ 25]. وفي تلك الدار، دار البوار، فإن العذاب يضاعف للمفسدين جزاء ما تعدى فسادهم في أنفسهم إلى إفسادهم لغيرهم: ((الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون))[النحل/ 118]. وهل بعد ذلك من خسران؟ أبداً، ((الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون)) [البقرة/ 27].

إن أثر الفساد والإفساد ليس له حدود لو سارت الأمور على مقتضى أهواء المفسدين، فالكون كله يفسد لو سارت أموره بحسب أهواء أهل الفساد قال -تعالى-: ((ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن))[المؤمنون/ 71]، ولو لم يقف المصلحون في وجه المفسدين لعم الفساد أرجاء الأرض ولشمل الضلال كل أطرافها، ولكن من رحمة الله أنه يدفع فساد المفسدين بجهاد المصلحين ((ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، ولكن الله ذو فضل على العالمين))[البقرة/ 251].

إن مسؤولية المصلحين عظيمة، فواجبهم أن يعتصموا بحبل الله جميعاً ضد المفسدين، فالمفسدون مهما تباعدت ديارهم واختلفت ألوانهم وألسنتهم، فإنهم جبهة واحدة وصف واحد ضد الإصلاح والمصلحين. وما لم يكن للمصلحين صف واحد ضدهم فالفساد سيظل يكبر ويكبر حتى لا يستطيع أحد أن يقف أمامه. قال -تعالى-: ((والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير))[الأنفال/ 73].

إن الأمل الوحيد في إنقاذ الأرض من المفسدين في كل الأزمنة والأمكنة، يكمن في قيام أهل الحق والإصلاح بمسؤولياتهم أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر وجهاداً في سبيل الله: ((فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم، واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين. وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون. ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين)) [هود/ 116 119].

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين