لم تعد الأزمة الخليجية تحتل مكانا بارزا على أجندة الاهتمامات الإقليمية والدولية كما كانت في بداياتها، ولم يعد الحصار مرعبا لأهل قطر كما كان في بداياته أيضا، بل إنه ظل يفقد قيمته وتأثيره تدريجيا بعد أن نجحت قطر في تغطية الاحتياجات الضرورية لمواطنيها والمقيمين على أرضها، ووصل الحال بدول الحصار إلى أن تتراجع من طرف واحد عن مقاطعتها لبطولة كاس الخليج (خليجي 24 المقامة حاليا في الدوحة) دون أن تذكر مبررات لها التراجع، حتى لو كانت الاستجابة لوساطة كويتية أو طلب أمريكي.

ولأن حكومات الحصار تريد أن تظهر منتصرة أمام شعوبها، فإنها تعمد بين الحين والآخر إلى تسريب أخبار عن تنازلات قطرية في مطلب أو بعض المطالب التي طرحتها تلك الدول؛ حين أعلنت حصارها الظالم في الخامس من حزيران/ يونيو 2017 والتي تضمنت 13 مطلبا، وأعطت في ذاك الوقت مهلة لقطر لتنفيذها خلال عشرة أيام فقط، وكان البديل طبعا في حال عدم التنفيذ هو غزو قطر وإسقاط حكمها الحالي وتنصيب حاكم موال للسعودية جرى إعداده لهذه المهمة، وكان من المفترض أنه سيعود إلى قطر على ظهر دبابة سعودية، لكن قطر لم تلتفت إلى تلك المطالب، ورفضت تنفيذها كليا أو جزئيا حتى الآن.

أحدث التسريبات الإماراتية في هذا الشأن هو ما نشرته صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية في الثامن والعشرين من الشهر المنصرم حول زيارة مزعومة لوزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني إلى السعودية سرا قبل شهر مضى، وتقديمه عرضا لدول الحصار لإنهاء الأزمة يتلخص في استعداد الدوحة لقطع علاقتها مع جماعة الإخوان، وهو ما اعتبره المصدر الذي نقلت عنه الصحيفة فرصة واعدة حتى الآن لإنهاء النزاع!!

حين سألت مصدرا قطريا مطلعا على دهاليز السياسة في بلاده نفى حدوث هذا اللقاء الذي لم يحدد الجهة أو المسؤولين السعوديين الذين قابلوا الوزير القطري، وكيف كان رد فعلهم، كما أشار إلى أن الصحفيين الذين كتبا تقرير وول ستريت (ديون نيرنباوم ووارن ستزوبيل) معروفين بصلاتها العملية بالإمارات، حيث يعملان في صحيفة ذي ناشيونال الظبيانبة.

وإذا كانت قطر قد نجحت في مواجهة التأثيرات الكبرى للحصار، فإن المؤكد أن ثمة تاثيرات قد تعرضت لها وخاصة في مشروعاتها التنموية والعمرانية، كما أنها دفعت ثمنا كبيرا لمواجهة الحصار الجوي والحصار الغذائي والحفاظ على قيمة العملة، ولذلك فلا شك في أن من مصلحتها انتهاء الحصار، وعودة الأمور إلى طبيعتها تماما، لكنها بالتأكيد لديها خطوط حمراء في ما يمكن أن تقبله من شروط، وتحديدا ما يمس وجودها وأمنها القومي. ومن هنا فليس من المتوقع ان تبدي أي تنازل فيما يخص علاقاتها مع تركيا وطهران اللتين كان لهما دور بارز في دعمها لمواجهة الحصار، بل مواجهة الغزو الذي كان وشيكا، وإن كان ممكنا أن تبدي مرونة في الملف الإعلامي بحيث تعود الجزيرة إلى سياساتها التحريرية السابقة (قبل الأزمة) في التعامل مع الأنظمة الخليجية، لكن ستبقى المسألة الشائكة هي ما يوصف بالأذرع الإعلامية القطرية الخارجية والتي تحتفظ دول الحصار بسجل كامل لها. وما يقوي موقف قطر في مواجهة مطالب إغلاق هذه الأذرع؛ هو امتلاك دول الحصار أضعاف ما تمتلكه الدوحة، وستكون هذه مقابل تلك، مما يعقد المسألة على دول الحصار التي لن تقبل بالتخلي عن أذرعها الإعلامية.

في بداية الأزمة كانت مطالب دول الحصار 13 مطلبا رفضت الدوحة تنفيذها على مدار أكثر من سنتين ونصف السنة، رغم تعدد الوساطات لأنها اعتبرتها مهينة لها وماسة بأمنها القومي. وحين تنقل صحيفة وول ستريت عما وصفته بمصدر مسؤول أن قطر قدمت عرضا جديا لإنهاء الحصار يتمثل في قطع علاقتها مع جماعة الإخوان المسلمين، فإن المتفحص لهذا الأمر يدرك على الفور أنه غير صحيح؛ أولا لأنه لا يوجد لقطر علاقة رسمية بالإخوان المسلمين، فلا يوجد تنظيم للإخوان في قطر بعد حل التنظيم لنفسه منذ أواخر التسعينيات، ولا يوجد أحد من قيادات الإخوان في قطر بعد إبعادهم في العام 2014 نتيجة تسوية سياسية سابقة مع السعودية (تشير دول الحصار دوما إلى الشيخ يوسف القرضاوي بينما تعتبره الدوحة مواطنا قطريا لا يمكن إبعاده)، ولا تقدم قطر دعما ماليا للإخوان المسلمين حتى تقطعه عنهم. وقد أعلنت قطر أكثر من مرة من قبل أنها كانت تتعامل مع نظام الرئيس الراحل محمد مرسي باعتباره نظاما شرعيا منتخبا من شعبه، وأنها تتعامل حاليا مع القضية المصرية من منظور قانوني حقوقي فقط، شأنها شأن باقي الدول.. ورغم كل ذلك، فليس من المستبعد أن تصر دول الحصار على استبعاد العديد من الشخصيات الإخوانية المقيمة في قطر، والتي صدرت بحقها أحكاما من القضاء المصري، وللعلم فإن الكثير من هؤلاء غادروا قطر بإرادتهم حتى لا يمثلوا عبئا عليها.

صعدت حكومات دول الحصار لقطر إلى أعلى الشجرة عبر مطالبها الثلاثة عشر غير المنطقية، ثم هي الآن تبحث عن وسيلة للنزول من أعلى الشجرة، لكنها تريد ما يحفظ لها ماء وجهها من قطر، ولو بتنفيذ مطلب واحد أو جزء منه وهو الذي يخص الإخوان المسلمين، لكن تعقيدات كبيرة تحيط بهذا الأمر.. فأي إخوان يقصدون بالضبط؟ هل المقصود إخوان مصر فقط؟ أم بقية فروع الإخوان بما في ذلك حماس؟ وإذا كانت الأخيرة، فلم تقيم السعودية علاقات مع فروع للإخوان المسلمين وتستضيفها على أرضها؟ كما تتعاون مع فروع أخرى هنا وهناك.

على كل حال فإن الغاطس في السياسة هو أضعاف ما يظهر منها على السطح، وهذا الغاطس ستخرجه الأيام المقبلة.