هل يمكن أن ينبت الحرث في البحر زرعًا؟! وهل يمكن أن نصيد من الصحراوات القفار سمكًا؟!

سؤال غريب أو مجنون أليس كذلك؟

ولكنه سؤال يتردد بصيغ عديدة في بيوت كثيرة يعيش فيها أصحابها مدفوعين بالأمر الواقع، مجبَرين لأجل عيون الصغار الأبرياء، وتتردد بين جنابتها أنفاس رجال ونساء يشعرون بالظلم ويقلبون أكفَّهم في الهواء، خاويةً من لمسات الامتنان ودفء الشكر!!

في كثير من بيوتنا المرأة تدور كنحلة تؤدي مهامها الأسرية، ترعى الزوج والأطفال، تتسوَّق، تدبِّر مطالب أسرتها في حدود دخل زوجها، تنظف.. ترتب.. وتطهو.. وترتق ثيابًا.. وتهيئ فراشًا.. وتساعد صغارًا في حلِّ واجباتهم الدراسية، وتنفِّذ أوامر الزوج وتتحرَّى ما يرضيه، تدور وتدور، وفي النهاية لا تجني عسلاً بل ربما جنَت المرَّ العلقمَ في نظرة استخفاف بمعاناتها يرسلها نحوها زوجها أو في عبارة دلالتها عدم اكتراث بما تفعل، وعدم إحساس بآدميتها، وعدم تقدير لجهدها، فتُلقي نفسها على الفراش لتنسَى الغبن والقهر فلا تستطيع؛ لأن الدائرة مفرغة، والواقع يفرض نفسه كل يوم والشريك على حاله لا يهتم ولا يعين ولو بالكلمة الحلوة أو الدعاء.

وفي الجانب الآخر من الصورة رجالٌ يشْقَون ويكِدِّون ولا يسوِّفون مطالب رعيتهم، ولكنهم لا يجدون في نسائهم سوى الجحود والنكران.

ويتحول البيت من واحة سكن ومودة ورحمة إلى ساحة صراع نفسي حادّ، ويشعر الزوجان أنهما أسيران لواجباتٍ لا تنتهي ومسئولياتٍ تتضاعف يومًا بعد يوم، والطرف الآخر يتجاهل العون ويحطُّ من شأن المشاركة.

ماذا يكون رد الفعل عندئذ؟! الأمر واحد من اثنين: استمرار العطاء والبذل وأداء الواجب كما ينبغي بنية صادقة، وابتغاءً للأجر من الله، أو نكوصٌ وتراجعٌ ولا مبالاة بالمسئولية المتراكمة وعقاب لا شعوري للآخر بإهماله وإهمال بيته.

رد الفعل الأول هو سلوك الخاصة من الأتقياء والتقيات الذين يؤمنون بأن الله عدلٌ لا يُضيع أجرًا بل يضاعفه ويجازي ويثيب، ليس على العمل فحسب وإنما على النية أيضًا؛ ولذلك فهم ينتظرون مثوبتَهم من الخالق ويفوِّضون له الأمر في شركاء حياتهم.

أما الثاني فهو الأغلب، والذين يفعلونه ليسوا معوَّجِّي الفطرة، ولكنهم ناسٌ معذُورون، فالنفس البشرية جُبلت على ثنائية العطاء والأخذ، ويسعدها أن تشكرَ حين تعطي، والنفس السوية يسعدها أكثر أن تشكرَ حين تأخذ، وحين تختلُّ هذه المعادلة تكون النتيجة تعاسةً وشقاءً وعدم إحساسٍ بالجدوى.

وليس هناك تعارضٌ بين أن نخلص النية لله وبين أن يؤذيَنا نفسيًّا عدمُ إحساس مَن يشاركوننا الحياة بمعاناتنا وعطائنا، فالتعب الجسدي تُخفف منه- بل وتزيله- لفظةُ الشكر ورتبة امتنان وكلمة عتاب رقيق على تفريطنا في حق أنفسنا في الراحة!!

الله سبحانه وتعالى يأمرنا بأن نُحيِّي مَن حيَّانا بأحسن مما حيَّانا أو بردِّ تحيته والعطاء داخل الأسرة تحيةً لكل أفرادها، فلماذا لا يرد الزوج تحيةَ امرأته ولا تُحيِّي الزوجة زوجَها بأحسن مما أعطاها؟! وهل يرى الرجال أن إشعار نسائهم بهذا الامتنان الواجب انتقاصٌ من رجولتهم؟! وتعتبر النساء أن شكرَ الزوج تفريطٌ في أنوثتهن؟!

أسئلة تفجّر قضية الشكر في علاقاتنا الأسرية ومكانته ودوره في إثراء هذه الحياة بحب متجدد وطاقة عطاء متزايدة.

مَن لا يشكر الناس لا يشكر الله، هكذا علمنا رسولنا- صلى الله عليه وسلم- وفي سيرته الكريمة من المواقف ما يعلِّمنا كيف لا نفرِّط في واجب الشكر لله أولاً ثم لمَن ساقهم هو أسبابًا لراحتنا وخدمتنا، ثانيًا وإذا كنا نردد أنه لا شكر على واجب فليس أقل من الاكتراث بمن يؤدون واجبهم واحترام آدميتهم.

كيف نكافئ الحيوان بعد جهد يبذله بوجبة شهية أو ربتة حب على جسده أو ربما قبلة وننسى أن نفعل ذلك مع بشرٍ مثلنا.. أليس هذا أمرًا محيِّرًا ومُزعجًا؟ وأليس مما يصدم الجاحدين والجاحدات أنهم فرَّطوا في حق الله بالتفريط في حق عباده؟!

جزاكم الله خيرًا.. لا حرمنا الله منك.. قدَّرني الله على ردِّ جميلك.. سلِمَت لي يداك.. عباراتٌ يجب ألا يخلو منها قاموسُ معاملاتنا اليومية، نطقُها لا يكلفنا كثيرًا، ويمنحنا من المثوبة ما لا نُدرك مداه، بينما تجاهله يبني بيننا وبين شركائنا أسوارًا من الجفاء وعدم الإحساس بالأمان ويجعلنا نؤدي مهامَّنا بآليةٍ كريهةٍ فتسكن أفواهَنا دائمًا مرارةُ الجحود بدلاً من حلاوة الشكر!!