بقلم: وائل قنديل

لا أدري هل كان هؤلاء الذين انتشروا مبكرًا حول الرئيس محمد مرسي قد فعلوها بناء على ترتيبٍ، سابق لإعلان فوزه، ولم نكن نعلم عنه شيئًا؟ أم كانت عملية تموضع دقيقة، للفت الانتباه إلى قدراتٍ وعرضٍ لخدمات.. لكن المؤكد أن الذين طلبوا القرب نالوه، حتى وإن كان الأسرع من الجميع، كذلك، في الانفضاض من حول الرجل وتركه وحده بمواجهة عواصف الانقلاب.

في تلك الأيام التالية لعاصفة الاتحادية، عقب أزمة الإعلان الدستوري، بحثت عن الدكتور سيف الدين عبد الفتاح بين الوجوه التي تداعت لإخماد الحريق، فلم أجده، كان هناك المستشار محمود مكّي، نائب الرئيس الذي قدّم استقالته من المنصب، بعد صدور الإعلان الدستوري، لكنه لم يذهب إلى بيته، أو يتحدّث في وسائل الإعلام، بل بقي في قصر الرئاسة مديرًا لحوار وطني حقيقي، وجاد، لمنع اندلاع جحيمٍ يوشك أن يلتهم المنجز الأهم والأغلى لثورة يناير، ولم يبرح مكانه إلا بعد التوصل إلى مخرجٍ محترمٍ من الأزمة.

في تلك الأثناء، وتحت عنوان "النبيل حين يستقيل.. محمود مكّي نموذجًا"، كتبت "وأنت تتابع انفجارات المستقيلين من مواقع فى مؤسسة الرئاسة، سعوا إليها وعرضوا أنفسهم وتمنّوا الجلوس فى مقصورة السلطة العلوية، لا تستطيع أن تمنع نفسك من استحضار حالة رجلٍ نبيلٍ كان نائبا لرئيس الجمهورية، مطلوبا وليس طالبا أو ساعيا، ثم استقال فى هدوء وصمت الكبار.

فضيلة المستشار محمود مكّى الأساسية أنه لم يسلك وفق سيكولوجية "المسئول التائب" الذي يقفز في حجر الذين يتربّصون بمن كان معهم، ثم افترق عنهم وابتعد، وعلى ذلك لم نشاهد مكّي جالسا بين أنياب التوك شو المتعطش لدماء الفضائح والأسرار والخفايا، ولم نجده ضيفا على صفحاتٍ صفراء فاقع لونها، يهاجم ويشتم ويسب ويدّعي البطولة والبسالة.

إنه لم يتصرف وفق نظرية "الأستيك"، فيترك نفسه ليشدّه الطرف الآخر، ويتركه ليلسع الناحية الأخرى بخفّة ورشاقة، إمعانا فى إظهار التوبة عما كان فيه بملء إرادته واختياره".

استقال المستشار مكّي بعد أن جاء  الدستور الجديد خاليا من النص على وجود نائب للرئيس، فقرّر أن يضرب المثل ويغادر موقعه، على الرغم من أن الدستور لم يتضمّن نصا يمنع وجود نائبٍ للرئيس، لكنه بقي مشاركًا في كل أعمال الحوار الوطني الذي انتهى بصياغة مشروع قانونٍ محترمٍ للانتخابات النيابية، أرسله الرئيس إلى مجلس الشورى للمناقشة والإقرار، غير أنه، ومن أسفٍ، تدخل بعض أعضاء المجلس في الصياغة، فعدّلوا وغيروا، في المواد، على نحوٍ أعاد الأزمة من جديد، وبدا وكأن هناك من يتعمّد إحراج الرئيس والمشاركين في الحوار.

على الجهة الأخرى، كنا كلما قطعنا خطوةً على طريق الحوار الوطني، تشتعل نوبات هيستيريا التخوين والتكفير بالوطن وبالثورة في الإعلام الذي كان وقع تحت سيطرة الثورة المضادة تمامًا، إلى الحد الذي عبّرت معه عن اعتزازي وفخري بورود اسمي فيما سمّيت "قوائم عار"، أعدّها إعلام رجال أعمال حسني مبارك، ووضع فيها أسماء كل من حاولوا البحث عن مخرج من جحيم قادم سوف تحترق فيه ثورة يناير.

في ذلك الوقت، كانت محاولات خنق مصر سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا تتصاعد في جنون، على الرغم من حدوث عدّة نجاحات سياسية واقتصادية، مثل الاقتراب من الاكتفاء الذاتي من محصول القمح، ومنظومة الخبز الجديدة، ثم اعتماد مشروع تنمية سيناء وخليج السويس، وهي الفترة التي أتصوّر أن أداء حكومة الدكتور هشام قنديل خلالها كان في أفضل مراحله، الأمر الذي وضع بعض الذين أسّسوا رفضهم النظام على وجود قنديل رئيسًا للحكومة في موقف محرجٍ إلى حد بعيد.

وقبل الانقلاب بأسابيع، فوجئت باتصال من صديقٍ يدعوني لحضور الجلسة الأولى، بصفتي عضوًا في "المجلس القومي للمساواة والعدالة".. لم أكن قد سمعت عن هذا المجلس من قبل، ولم يستأذنني أحد في ضمّي إليه، فقال لي المتصل إنه تكون بقرار رئيس مجلس الوزراء، رقم 641 لسنة 2013  ويضم 25 عضوًا، على رأسهم الدكتور سيف الدين عبد الفتاح، الذي من المرجّح أن يكون الأمين العام للمجلس الجديد، فزادت دهشتي، لكني، من ناحية أخرى، شعرت بالارتياح لعودة الدكتور سيف إلى العمل الوطني. والتقينا، مرة واحدة، في لحظةٍ بلغ فيها الاستقطاب ذروته، غير أن رياح الانقلاب كانت أسرع، فلم يُسعفه الوقت.

وقبل أن أغلق هذا الموضوع الذي انفتح في توقيت غامض، ولأهداف أكثر غموضًا، أكرّر ما قلته مبكرًا في العام 2015 إن بعض الصغار يتوهمون أن المطلوب كي يتحقق الاصطفاف، تلك القيمة النبيلة التي ابتذلها التجار، هو إغلاق الماضي على رقبة الرئيس محمد مرسي، كي ينعم كل الذين تم استخدامهم في كارثة الانقلاب بالمستقبل.. أو كما قال الصديق محمد محسوب، الوزير السابق: نحن ندعو الجميع إلى اصطفاف يستعيد روح يناير، ومطالب الشعب، وأمل بناء دولة العدل والكرامة.. لكننا لا يمكن أن نسكت عن التلاعب بتاريخ أمة، وحوادث يملكها شعب كامل، ولا يجوز استخدامها لفض خصومة سياسية.

وأخيرًا، من حق رئيس بقي صامدًا وقابضًا على جمر الثورة، حتى الاستشهاد، أن ننصفه بمواجهة شهاداتٍ لعوب على التاريخ القريب.

-----------

نقلا عن "العربي الجديد"