بقلم: سيد يوسف

"يا له من تناقض وسفه أن نتحدث العربية وقلوبنا تعانق عقولنا هناك بعيدًا عند الغرب"، حين يقول الله تعالى في قرآنه: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف: من الآية 2)، وحين يقول جل شأنه: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف: 3)، وحين يُوصينا عمر بن الخطاب بقوله: "تعلموا العربية فإنها من دينكم...".

فإنَّ لنا أن نفخرَ بهذي اللغة؛ لأنها عنوان هويتنا، ولأن الله عز وجل قد اختار العربية وعاءً للوحي، ووسيلةً للتواصل، وتقديرًا لها كأداة خالدة عبر الزمان- الزمان كله- مؤهلةً للخلود والبقاء والتجدد والاستمرار، وإن أصابها بعض الضعف لا لذاتها، ولكن لضعف الإنتاج الحضاري والإبداعي والإنساني لأهلها بعض الحين.

ولعل التعبيرَ بقوله تعالى (لَعَلَكُمْ تَعْقِلُونَ) يؤكد ما تعارف عليه الناس حديثًا من أن اللغة لها علاقة بالتفكير والإبداع، وهو الأمر الذي بات مطلبًا مهمًّا لأهل اللغة حتى يحرسوا الدين واللغة معًا، من أجل هذا تأتي هذي المقالة كمساهمةٍ في تحقيقِ الوعي اللازم للحضارة، والتحصين الثقافي، واسترداد شخصيتنا وهويتنا، وكأداة تعيق معاول الهدم الثقافي لهذه الأمة التي باتت حين غلبت مبهورةً بالغالب ثقافةً ولسانًا ومدنيةً.

قد غضب أهل الفرنسية فما بالنا لا نغضب؟

تناقلت وكالات الأنباء عمَّا قريب غضب الرئيس الفرنسي حين ألقى وزير خارجيته خطابًا باللغة الإنجليزية، معبرًا أن اللغة الفرنسية لا تقل عن الإنجليزية.. فهل لغتنا العربية أقل من تلك اللغات رغم أنها عند التحقيق تفوقها ثراءً؟!.

تحذير

إن أي انحطاطٍ باللغة لسانًا وكتابةً لا سيما في المحافل العلمية والإعلامية والرسمية يعني محاصرة هذه اللغة وتقويضها، ومن ثَمَّ هدمها، على أنَّ من الإنصاف القول إن هذا التفريط جاء في غمرة الحياة الدنيا والنقل عن الآخرين، وأحيانًا بترجمة دلالات الألفاظ العربية إلى اللغات غير العربية، مما يعد لونًا من الضلال الثقافي، والانتقاص لهذه اللغة قيمةً ولسانًا ومكانةً، ولم يكن في كثيرٍ من الأحيان وليد تعمد وإساءة مقصودة.

ضرورات حتمية

بات من الضروري المحافظة على المصطلحات العربية، ولا سيما الإسلامية بشكلٍ عام، والاحتفاظ بمدلولاتها، وتوريث ذلك لأجيالنا القادمة حتى يحتفظوا لهم بهوية سليمة ولا يكونوا كأمثال بعضنا يتلفت يمينًا ويسارًا يبحث عن هويةٍ فلا يجدها!! ولو أنهم بحثوا داخل نفوسهم لما وجدوا عناءً كبيرًا.. لو كانوا يعقلون!!.

ولا يحسبن أحدٌ- خطأً وجهلاً- أن الدعوةَ إلى المحافظة على تراثنا ولغتنا ومصطلحاتنا فيها انتقاص أو تعارض للامتداد بها، وتطويرها وتنشيط الترجمة منها وإليها، لكنا نرجو لهذا النشاط استصحاب المعنى الأصلي وعدم الخروج عليه.

مثال توضيحى قرآني

ويجدر بنا أن نسوق مثالاً توضيحيًّا عرضه الأستاذ العلامة عمر عبيد حسنة؛ حيث يقول: "وقد نبَّه القرآن لهذه القضية الخطيرة عندما أرشد المسلمين إلى ضرورة استخدام مصطلح (انظرنا)، ونهى عن مصطلح (راعنا)، الذي كان يستعمله ويشيعه يهود، كنوعٍ من التضليل الثقافي، وتحقيق بعض الأغراض الكامنة في نفوسهم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَللِكَافِرَينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة: 104).

ثم يقول: "إن أهمية تحديد المصطلح، وقضية الوضوح في دلالته، في البناء الفكري والثقافي للأمة، أمر ذو قيمة فكرية بالغة، إلى درجةٍ أصبح معها كثير من المؤلفين والباحثين، يفردون صفحاتٍ في مقدمةِ مؤلفاتهم، لمعجم المصطلحات المستعملة، والدلالات التي أرادوها، من استعمال هذه المصطلحات، وهي طريقة محمودة فكريًّا وثقافيًّا، حتى يتحقق الوضوح، ولا يحمّل الكلام أكثر مما يحتمل، ولا يقوَّل الإنسان ما لم يقل، حتى لقد بلغ الأمر اليوم، أن تفرد معاجم لمدلولات كل علمٍ من العلوم، كمعجم المصطلحات الفلسفية، ومعجم المصطلحات الدبلوماسية، ومعجم المصطلحات النفسية...الخ" انتهى.

حراسة اللغة وحمايتها.. كيف؟

جميل أن تنضم لجهود المجامع اللغوية بعض الجهود الأخرى سواء كانت جهود مؤسسات تربوية وإعلامية واجتماعية أو مؤسسات الدولة من حيث التشريع القانوني أو جهود الأفراد في مجال البحوث والتأليف أو حتى تربية النشء في محيط الأسرة.

ونرجو لهذه الجهود أن تتكامل، وأن تكون نابعةً من جهدٍ اجتماعي وقومي منظم، وألا تتحول الوسائل إلى غايات بحيث ندور في فلك الشرح للقديم والاختصار له، وننسى في خضم ذلك الإنتاج والإبداع الحضاري والمادي فبذلك سوف نلفت العالم للغتنا.. وبشكلٍ عام نطرح خطوطًا عريضةً للإسهام في إعادة تفعيل لغتنا الجميلة:

- الجانب التشريعي والقانوني:

بتجريم أي استخدام للغات الأخرى في حياتنا العامة سواء المهنية أو الإنتاجية كتجريم استخدام الأسماء الأجنبية وبكتابة أجنبية عند إنشاء مصانع أو محلات تجارية.

- الجانب التعليمي:

تدريس العلوم باللغة العربية وتعريب بقية العلوم التي لا تزال تدرس بلغة أجنبية مع قيام الفاقهين بتعريب تلك العلوم من الآن وليس مستقبلاً، فضلاً عن توجيه عناية المدرسين بالمدارس والجامعات على ضبط اللسان عند الشرح والتدريس باللغة العربية السليمة، والعمل على تصدير برامج تعليم العربية لغير الناطقين بها بطريق سهلة وشائقة.

- الجانب الإعلامي:

التزام الحديث بالفصحى السهلة دون تقعر في الصحافة المحترمة والإعلام المرئي والمسموع وحظر استخدام العامية.

- الجانب الإنتاجي:

وأقصد به الإنتاج المادي والاقتصادي واستحداث منتجات صناعية ذات أسماء عربية سهلة ومعبرة، ولا سيما الإنتاج التقني، فلقد أحيت الصين واليابان والكيان الصهيوني لغاتهم بإنتاجهم المادي.. ولعمري إن هذا هو الجانب الأهم.

- الجانب الأدبي والإبداعي:

ونقصد به التأليف والإبداع القصصي والشعري والفني بصفة عامة للفت أنظار العالم إلى لغتنا الجميلة وتصدير ذلك للعالم أجمعين، ونريد لذلك الإبداع أن يكون بلساننا نحن بقيمنا نحن بثوبنا نحن بتاريخنا وإرهاصاته الخاصة بنا بمعاييرنا الشرقية لا بمعايير الغرب بعيوننا نحن لا بعيون الغرب، إلا إنه لا قيمةَ لنا حين نتحدث بالعربية ولا نُفكِّر إلا بعقولٍ غربية!!.

وكم نرجو لهذا الإنتاج أن يكون معبرًا عنا بلغتنا ومفرداتنا بعيدة عن مصطلحات وعقول الغرب والمسألة ليست اعتسافًا وفرضَ العربية بالقوة، لكنها محاولة بصيرة لوضع الأمر في نصابه وفي مكانه بعقلٍ يقظ ومرن يصحبه وجدان وتقدير بصير لمكانة هذه اللغة ودورها في الحفاظ على الهوية والتعبير عن ذاتنا، تواصلاً مع الآخرين من منطلق هانحن ذا وليس التقليد والتفكير بعقول الآخرين.

في النهاية بقيت كلمة

انطلاقًا من نفسية المهزوم قد يستشعر بعضنا استحالة ذلك وكأنَّ اكتساحَ العامية والأجنبية قدرٌ لا مفرَّ منه وحتمية كونية لا قدرةَ لنا على مجابهتها.

أو انطلاقًا من مُسلَّمة- خاطئة- تقول إن الأهم هو الوظيفة وليس الوسيلة، فما دمنا نتحدث ويفهم بعضنا بعضًا فلا داعي لأن نتحمل مشقة تفعيل اللغة العربية.

أو انطلاقًا من حاجةٍ في نفس بعضهم- والله أعلم بما في نفوس الكارهين للإسلام والدين- قد نجد بعض المثبطين من هنا أو هناك.

لكننا نقول:

ما سبق طرحه من حلولٍ إنما هو مقترحات سوف تجد طريقها هي وغيرها حين نجد حكامًا يحرسون أمن الوطن، ويستشعرون خطر التغريب، ويسعون للحفاظ على هوية أمتنا، وإن ذلك لكائن إن شاء الله تعالى، ولو بعد حين وإنه ليسير على مَن يسَّره الله عليه حين تجد الإرادة طريقها للأمم التي تريد بناءً على أن يصحب ذلك همة عالية، والحمد لله أن همةَ أمتنا لم تقعدها المثبطات، ولن تقعدها إن شاء الله تعالى.

أسأل الله أن يُهيئ لأمتنا أمر رشد.