صار الإصلاح في الآونة الأخيرة حديثَ الساعة الذي يشغل بالَ المهمومين بأوطانهم وأمتهم، كما صار الأغنيةَ التي يُدندن بها الطغاةُ في الداخل والخارج مكاءً وتصديةً، ومن ثم كان لزامًا عليَّ أن ألتجِئ إلى القرآن الكريم متتبعًا آياتِه التي تتحدث عن الإصلاح والمصلحين في مقابل الإفساد والمفسدين، مستهدفًا استقراءَ الخريطة القرآنية للإصلاح، والمنهج القرآني في التدافع بين المصلحين والمفسدين، راجيًا المولى أن يعينَنا ونحن نعيش في أجواء شهر رمضان أن نكون من المصلحين.

أولاً: في الإصلاح والمصلحين

البحث في المعجم المفهرس ينبئنا عن أن الجذر اللغوي "ص ل ح" يُستقَى منه الفعل صلح والفعل أصلح، وأن الفاعل في أصلح قد ينصرف إلى الإنسان (مفردًا أو مثنى أو جمعًا)، وأنه ربما أيضًا ينصرف إلى الله سبحانه وتعالى، ونحن نتتبع من هذا كله الآيات التي تتحدث فقط عن الإصلاح كفعل من أفعال البشر، ويَرِد الحديث عن الإصلاح والمصلحين في القرآن الكريم في 44 موضعًا شملتهم 38 آية، في 16 سورة، وقد قسمنا الحديث حول آيات الإصلاح والمصلحين بحسب الفاعل أو المتَّسِم بسمة الإصلاح.. إن كان مفردًا أو مثنى أو جمعًا.

الإصلاح سلوكًا فرديًّا

ويأتي الحديث عن الإصلاح كسلوك أو سمة فردية في 10 مواضع من القرآن الكريم كالآتي:
- الآية 182 من سورة البقرة: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فََأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ الإصلاح هنا سلوكٌ وقائيٌّ لإصلاح اجتماعي بمبادرة فردية، يقوم بها من "يخاف" ميلاً عن الحق بالخطأ أو بالإثم من الموصي.

- الآية 220 من سورة البقرة: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ﴾ والآية هنا تتحدث أيضًا عن رعاية اليتامى، سواءٌ في أموالهم باتقاء الله فيها وبتنميتها، وعدم الجور عليها والإصلاح لهم بشكل عام، وتُحذِّر من أن الله يعلم المفسد من المصلح، فلا مجال للمخادعة فيما استرعى الله الإنسان.

- الآية 114 من سورة النساء: ﴿إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ والآية تنفي الخيرية عن تناجي الناس إلا إذا كان أمرًا بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، بمعنى أن المؤمنين مُلزَمون بالأمر بتلك الأمور الثلاثة، والأمر بالإصلاح كما تبين الآية بين الناس عامةً.

- الآية 39 من سورة المائدة: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ﴾ والآية هنا جاءت عقب آية السرقة، والسياق هنا يرشدنا إلى الإصلاح بعد التوبة عن ذنب في حق أموال الناس بالسرقة، فالإصلاح "بِردِّ المظالم" شرطٌ لتمام التوبة من الذنوب التي تقع في حق الناس، وإن كان لفظ الظلم بعمومه يصح أن يكون حقَّ الله وحقَّ الناس، وكأن الإصلاح في الذنوب التي في حق الله هي من باب الحسنات التي تُذهب السيئات.

- الآية 48 من سورة الأنعام: ﴿فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ والآية هنا تتكلم عن أن الإيمان بالرسل لا بد أن يعقبه إصلاحٌ لما أفسده الإنسان حالَ كفره، وخاصةً ما كان من الإنسان في حق العباد من مظالم؛ لأن ما كان في حق الله فالإيمان يجبُّه، وكأنها ترشدنا أن الإصلاح لَصِيقُ بالإيمان، وأن جزاءَ الإيمان المقترن بالإصلاح هو الأمان من الخوف والحزن في الدنيا والآخرة؛ لأن اللفظ عام.

- الآية 54 من سورة الأنعام: ﴿ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، هنا تضع الآية قاعدةً ربانيةً: أن من عمل سوءًا بجهالة (من المؤمنين) ثم تاب وقرَن توبته بإصلاح ما أفسده حال جهالته (أي اندفاعه وحماقته) فإن الله يبشِّره بالغفران والرحمة.

- الآية 35 من سورة الأعراف: ﴿فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، والآية هنا تتحدث عن استجابة الناس للمرسلين الذين يقصون عليهم آياتِ الله، إن كان هو اتقاءُ الله واتقاءُ الشرك به والإيمانُ به، وألحق ذلك بالإصلاح؛ فإن مَن يفعل ذلك آمِنٌ من الخوف والحزن في الدارين.

- الآية 142 من سورة الأعراف: ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾، والآية هنا تنقلنا إلى مجالٍ جديد، مجال متطلبات القيادة والاستخلاف، فتأمرنا- على لسان موسى لأخيه هارون كنموذج- بأن نصلح ولا نتبع سبيل المفسدين إذا استُخلِفنا في قوم أيًّا كان مجال الاستخلاف.

- الآية 88 من سورة هود: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾، وقد ورَدَت المقولة في سياق دعوة نبي الله شعيب لقومه، وهي تؤكد على ضرورة أن يتوافر في المُصلح الإرادة الصادقة للإصلاح حتى ينال توفيق الله في إصلاحه.

- الآية 40 من سورة الشورى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾، والآية هنا تأتي بعد الحديث عن حق مَن أصابهم البغي أن ينتصروا على قاعدة السيئة بالسيئة، لكنها تبشر من قابل البغي لا بالعفو وفقط ولكن أيضًا بالإصلاح الذي يدرأُ البغيَ بعلاج أسبابه في نفس الباغي، أو بإزالة أسبابه المادية.

الإصلاح سلوكًا ثنائيًّا

وقد وردت صيغة المثنَّى في ثلاثة مواضع في ثلاث آيات في سورة واحدة هي سورة النساء، والآيات تتحدث عن العلاقة بين الرجل والمرأة، سواءٌ في صيغتها الآثمة بالزنا، أو عن العلاقات داخل الأسرة:

- الآية 16: ﴿فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا﴾، وهي هنا تتحدث عمن وقعا في الفاحشة، وتأمر بإيذائهما بإقامة الحد عليهما، فإن تابا وأصلحا فلا إيذاء بل إعراضٌ، والإصلاح هنا يكون ممن أسرَّا بالفاحشة فلم يجاهِرا (أي يجهرا ويفاخرا) بها، والإصلاح يكون بعد التوبة والإقلاع، بالعمل الصالح، أو بإصلاح العلاقة بالزواج الحلال.

- الآية 35: ﴿إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾، والآية تأتي في سياق حديث متواصل عن العلاقات داخل الأسرة، وعن ترتيب الإجراءات الوقائية لمنع الشقاق، وفي هذا السياق يأتي انتدابُ كل طرف من أطراف الأسرة (الزوج والزوجة) لـ"حَكَم" من أهله و"حَكَم" من أهلها في حالة خوف الشقاق بينهما، واشتراط أن يتوافر في هذين الحَكَمين إرادةُ الإصلاح الصادقة حتى ينالا توفيق الله في إصلاحهما، إضافةً إلى ما ينبغي أن يتوافر في الحَكَم.. أي حَكَم من شروط العدل والقسط.

- الآية 128: ﴿وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾، والإصلاح هنا وقائيٌّ حال خوف النشوز أو الإعراض من الزوج، وصيغة المثنَّى تدل على أن فعل الإصلاح لا بد أن يكون متبادلاً، وكون الآية تحتوي أيضًا على نتاج هذا الإصلاح وهو "الصلح" تؤكد بذلك على أنه لا بد من أن يُصاغ اتفاقٌ محدَّدُ البنود يُعيد توضيح الحقوق ورد المظالم أو درئها، والعودة عن السلوكيات التي أوصلت العلاقة إلى بداية طريق الشقاق، وتأمر أن يصطبغ الصلح بالإحسان والتقوى من طرفيه؛ حتى يكون قادرًا على علاج الجراحات التي ربما ألمَّت بالنفوس.

الإصلاح سلوكًا وسمة مجتمعية

وقد ورد الحديث عن الإصلاح كسلوك أو كسمة مجتمعية في 20 موضعًا كالتالي:

- الآية 11 من سورة البقرة: ﴿قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾، والآية هنا تأتي في سياق الحديث عن المنافقين، وادعائهم إذا دُعوا للكفِّ عن الإفساد، بأنهم إنما هم مصلحون، وهو ادعاءٌ يشِّوشون به مسلك الإصلاح الحقيقي من قِبَل المؤمنين، الذين يصيرون في المقابل موضعَ اتهام كاذب بالإفساد.

 

 

- الآية 160 من سورة البقرة: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا﴾، والآية تتحدث في سياق حديث مطول عن بني إسرائيل وجزاء مَن يكتمون منهم ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد بيناه للناس، واستحقاقهم اللعن، إلا الذين تابوا منهم وأصلحوا ما أفسدوه بكتمانهم، وتبيين ما كتموه، وأن مَن يفعل ذلك منهم يستحقون توبةَ الله عليهم، وصيغةُ الجمع هنا تدلنا على أنه كما يحدث تواطؤُ المجتمع على الإفساد بالكتمان فيجب أن يتواطأ المجتمع على الإصلاح والتبيان.

- الآية 224 من سورة البقرة: ﴿أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ﴾ والآية وردت في سياق النهي عن الإكثار من الحلف بالله، إلا أن يكون حلفًا على البر والتقوى والإصلاح بين الناس، فهو واجب الإبرار، وصيغة الجمع هنا تشير إلى ضرورة تواطؤ المجتمع على إعانة الحالف على الإبرار بقسمه في تلك الحالات، مع تفضيل النهي العام بتجنب القسَم المسرف بالله.

- الآية 228 من سورة البقرة: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا﴾ والآية هنا تتحدث بعد حدوث الطلاق الرجعي وفترة العدة، وإمكانية حدوث حمل فيها، وأحقية الأزواج بإرجاع الزوجات ﴿إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا﴾- أي إصلاح ما فسد قبل الطلاق وبه وإصلاح مسببات الطلاق من طبع أو معاملة أوجبته- وإِنْ كما يقولون حرفُ امتناع لامتناع، فإن أراد بالمراجعة إصلاحًا ولم يُرِد إضرارًا فهو أحقُّ بذلك وإن كان عكس ذلك انتفت الأحقية.

- الآية 89 من سورة آل عمران: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا﴾، والآية جاءت في سياق الحديث عمن يكفرون بالله بعد إيمانهم وشهادتهم بأن الرسول حقٌّ، وجزاء ذلك، ويستثني سبحانه من جزاء اللعن والخلود في النار ويَعِد بالمغفرة والرحمة مَن تابوا عن كفرهم وعادوا لإيمانهم وأصلحوا ما أفسدوه حال كفرهم.

- الآية 129 من سورة النساء: ﴿وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، والآية كالعهد بسورة النساء في الحديث عن الإصلاح تتكلم عن العلاقات الأسرية، وهنا تتكلم عنها في حال تعدد الزوجات، وتُوصي بتواطؤ أطراف العلاقة الزوج في الأساس وزوجاته وأهليهم بالإصلاح والتقوى؛ حرصًا على استقرار العلاقات الأسرية واستمرارها، وتَعِد جزاءً على ذلك المغفرة والرحمة.

- الآية 146 من سورة النساء: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ﴾ والآية هنا تأتي ضمن الحديث عن المنافقين وتذبذبهم بين المؤمنين والكافرين، وتَعِدُهم بالدرك الأسفل من النار، إلا الذين تابوا منهم وأصلحوا ما أفسدوه بنفاقهم وتذبذبهم واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم له، ويَعِدُهم على ذلك الأجر المكافئ لأجر المؤمنين.

- الآية 56 من سورة الأعراف: ﴿وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾ والآية 85 من نفس السورة ﴿وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ والآية الأولى جاءت في سياق الحديث عن آلاء الله في خلق السماوات والأرض، ومِن ثم يمكن أن ينصرف معنى النهي عن الإفساد هنا إلى كل سلوك تجاه "بيئة" الأرض يؤدي إلى الإضرار بها، أما الآية الثانية فجاءت في سياق حديث نبي الله شعيب إلى قومه بما يجعل الذهن ينصرف إلى سلوكيات الإفساد تجاه الناس.. من بخس الناس أشياءَهم، والقعود بكل صراط يصدون الناس عن سبيل الله، وربما ينصرف المعنى إلى الوارد في الآية الأولى؛ لأن الواو الواردة في الآية الثانية بالإضافة تقتضي المخالفة، وبجمع الآيتين يجوز المعنيين، وعمومًا فإن "كف الإفساد" يقتضي السلوك المضاد بالعمران والإصلاح.

- الآية 170 من سورة الأعراف: ﴿إنَّا لاَ نُضِيعُ أجْرَ الْمُصْلِحِيْنَ﴾ والآية جاءت في سياق الحديث عن صنف من بني إسرائيل، وجاءت أيضًا بصيغة عامة بأن الذين يمسِّكون بكتاب الله وأقاموا الصلاة فإن الله يَعِد- ووعدُه حقٌّ- بأنه سبحانه لا يضيع أجر "المصلحين".

- الآية 1 من سورة الأنفال: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ والآية تتحدث عن الأنفال من غنائم الحرب والتي تحرِّك التنافس بين المؤمنين على الفوز بها، وهي من لعاعات الدنيا الفانية التي لا تستوجب الشقاق، وتأمر المؤمنين بالتورُّع عن ذلك التنافس المورِّث للبغضاء والشحناء، وإصلاح ذات بينهم، بإصلاح النفوس وإصلاح الأحوال؛ لأن الأنفال لله لا لهذا أو ذاك.

- الآية 117 من سورة هود: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ والآية بمثابة القاعدة العامة التي تجعل من الإصلاح سمةً واجبةً لازمةً لنجاة المجتمعات من الهلاك في الدنيا، وقد جاءت تعقيبًا على آية ﴿فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يََنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِيْ الأَرْضِ إلاَّ قَلِيْلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِيْنَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ مَّا أُتْرِفُوا فِيْهِ وَكَانُوا مُجْرِمِيْنَ﴾ فالقرى تنقسم هنا إلى مترَفين مجرمين، وأولوا بقية ﴿يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ﴾ الذي تقوم به الفئة الأولى وهو ضمان النجاة الوحيد من الهلاك.

- الآية 119 من سورة النحل: ﴿ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إنَّ ربَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيْمٌ﴾ والآية تتحدث عمن عملوا السوءَ بجهالة ثم تابوا من بعدها بأنهم لا ينالون مغفرة الله ورحمته إلا إذا قرنوا توبتهم بإصلاح ما أفسدوه حال جهالتهم.

- الآية 5 من سورة النور: ﴿إِلاَّ الَّذِيْنَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيْمٌ﴾ والآية لها نفس معنى آية النحل، لكنها هنا تتحدث في سياق مثل آخر هو قذف المحصنات وما يوجبه من حدٍّ، وتستثني منه مَن يتوب ويُصلح ما أفسده بقذفه واتهامه، وكأن كل سوء متصل بإيذاء الآخرين والإضرار بهم لا تُقبل فيه توبةٌ إلا بإصلاح.

- الآية 152 من سورة الشعراء: ﴿الَّذِيْنَ يُفْسِدُونَ فِيْ الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُوْنَ﴾، والآية 48 من سورة النمل: ﴿وَكَانَ فِيْ الْمَدِيْنَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِيْ الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُوْنَ﴾ والآيتان تتحدثان عن صنف من الكافرين من ثمود آل نبي الله صالح، من المسرفين الذين تجمعوا في 9 فرق للإفساد في الأرض، وكانوا سببًا في هلاك قومهم الذين لم يعبأوا بنهيهم عن الإفساد في الأرض.

- الآية 19 من سورة القصص: ﴿وَمَا تُرِيْدُ أًَنْ تَكُوْنَ مِنَ المُصْلِحِيْنَ﴾ وقد جاءت في سياق قصة موسى عليه السلام مع قوم فرعون وقومه، وهي اتهامٌ لموسى بالباطل نتيجةَ خطأ بأنه لا يريد أن يكون من المصلِحين، وهي ربما تحمل دلالةً تحذيريةً للمؤمنين من الاندفاع في نصرة الأهل بالبطش بعدوِّهم، بما يوقعهم في الخطأ الذي قد يجرُّ اتهامَهم بعدم الرغبة في الإصلاح.

- الآية 9 من سورة الحجرات: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ اقتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِيْ تَبْغِيْ حَتَّى تَفِيْءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِيْنَ﴾ والآية هنا تتحدث عن إصلاح علاجي فوري واجب في حال الطوارئ التي يحدث فيها قتالٌ بين طائفتين من المؤمنين، أما إذا كان البغي من طرف على آخر فلا بد أولاً من قتال الباغي حتى يفيء عن بغيِه، ثم تعود جهود الإصلاح والتي ينبغي أن يتوافر فيها العدل والقسط، وأن القائمين بها لا بد أن يكونوا من المقسطين، الذين يعطون كل ذي حق من الطائفتين حقَّه لإزالة مبررات الاقتتال.

تأملات عامة في الإصلاح والمُصلِحين

والتأمل العام للآيات السابقة يكشف لنا عددًا من الأسس العامة:

- أن الإصلاح هو سلوكٌ وسمةٌ للمجتمع المؤمن، يمارسه ويتسم به المجتمع ككل، ويمارسه ويتسم به جميع أفراده، يمارسونه في جميع أحوالهم؛ إذ ورد بصيغة الفعل الماضي والمضارع والأمر، كما ورد كصفةٍ للمفرد والجمع.

- أن صيغ الدفع القرآني للأفراد والمجتمع لسلوك الإصلاح والاتسام به جاءت بإيراد الجزاء الدنيوي والأخروي، سواءٌ للأفراد أو للمجتمع، كما وردت بصيغة تدل على مسئولية المجتمع عن مراقبة سلوك الإصلاح، كما ورد على سبيل الاستحباب في حالات وعلى سبيل الوجوب في حالات أخرى.

- أن الإصلاح سلوكٌ وقائيٌّ في حال خوف الشقاق أو وقوع الظلم أو غيره من أسباب فساد ذات البين، كما أنه سلوكٌ علاجيٌّ في حال وقوع الشقاق أو الظلم بالفعل بدرجاته وأشكاله المتفاوتة، وكذلك فهو سلوكٌ دائبٌ أشبه بفعل التشحيم الذي يقوم بالصيانة الدائمة لماكينة العلاقات الاجتماعية في المجتمع.

- أن الإصلاح سلوكٌ من المجتمع المؤمن وأفراده، سواءٌ أكان هذا السلوك "بين الناس" كل الناس أم بين المؤمنين، وهو يتناول في الأساس العلاقات الاجتماعية، كما يتناول كل ما أفسده الإنسان قبل إيمانه أو قبل توبته بأفعاله أو أقواله أو كتمانه، كما يشمل الإصلاح في الأرض.

- أن الإصلاح ينتج عن الإيمان، ويسبقه التقوى والعفو والتوبة والبر، وهو شرطٌ للتوبة والتقوى، ويشترط فيه العدل والقسط، ولا بد أن تتوافر في القائم فيه الإرادة الصادقة؛ لأن الإصلاح يكون ادعاءً كاذبًا فقط حينما يقترن بالنفاق.

- أن الإصلاح ليس فقط سلوكَ المجتمع وأفرادَه فيما بينهم، بل إن كلَّ مَن استُرعي على رعية (كالأيتام والأبناء) مأمورٌ بالإصلاح لهم، وكل مَن استُخلف في قومٍ مأمورٌ بالإصلاح وعدم اتباع سبيل المفسدين.

خريطة الإصلاح في المجتمع المؤمن

ويمكننا أن نلخِّص الحديث في شأن الإصلاح في الجدول التالي، الذي يرسم لنا خريطة الإصلاح في المجتمع المؤمن:

 

 

 العنصر 

بيانه 

 القائم بالإصلاح

1-  الإنسان الفرد
2- الإنسان في الأسرة (والعلاقات الثنائية)
3- المجتمع (أو الجماعة من المؤمنين)

 وجهة الإصلاح (موضوعه)

1- إصلاح ما أفسده الإنسان أو الجماعة بأنفسهم (حال الكفر أو فعل السوء.. إلخ).
2- إصلاح العلاقات الاجتماعية (وقائيًّا- وعلاجيًّا- الأسرة في الأساس- وفيما بين الناس وبين المؤمنين- مبادرةً وأمرًا).
3- الإصلاح فيما استُرعي فيه الإنسان (الأيتام وغيرهم) أو استُخلف (الرعية- الشعب-القوم..إلخ).
4- نهي المفسدين في الأرض عن الإفساد.
5- الإصلاح في الأرض (البيئة)

 الإصلاح يُطلب في حالات

1- الإيمان بعد الكفر
2- التوبة بعد الذنب
3- خوف الشقاق ووقوع ما يوجب فساد ذات البين
4- حال وقوع الشقاق بالطلاق أو القتال
5- القيام بواجبات الرعاية أو الخلافة
6- في جميع أطوار وأحوال حياة الفرد والجماعة المؤمنة

 الإصلاح حالٌ يصاحب:

 1- الإيمان 2- التوبة 3- التقوى 4- العفو 5- البر 6- العدل والقسط 7- التبيان 8- المعروف 9- الاعتصام بالله 10-عدم اتباع المفسدين

شروط القائم بالإصلاح

- الإرادة الصادقة للإصلاح
- المبادرة الوقائية والعلاجية
- بذل قصارى الجهد

 عوائق الإصلاح

- تذبذب إرادة الإصلاح في نفسه
- الوقوع في الخطأ الذي يشوِّه السمعة
- تشويش المنافقين بادعائهم الإصلاح بينما هم يفسدون
- إفساد المفسدين من المنافقين والكافرين والمؤمنين العاصين

 

 جزاء الإصلاح

- توفيق الله حال توافر الإرادة
- الأمان من الخوف والحزن
- توبة الله على المصلح
- غفران الله ورحمته
- الأجر من الله
- أمان القرى من الإهلاك