للرُّجولةِ أهْلُوها، وللقِمَمِ مُتََسَلِّقُوها، وللثُرَيَّا مُرْتَقُوها، ولِلْعَلْيَاءِ طامِحُوها، ولِلْمَعَالِي طالبوها، كما أن للخَنَا ساعُوها، وللدَّنايا مُتَسَوِّلُوها، وَلِلثَّرَى لاَعِقُوه، وللسفاسف راغبوها.. هكذا كان الناس وما زالوا؛ فهم على صنفين وإن شئت فقل فريقين، كما قال الله سبحانه﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلالَةُ﴾ (الأعراف: من الآية 30)، وهذه سنة كونية أن يكون الناس هكذا ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ﴾ (النحل: من الآية 36)، وَبَيْنَ هؤلاء وهؤلاء من يَرْتَقِى سُلَّمَ الدرجات ومن يهبط في الدَّرَكَات، والمرء هو الذي يحدد منزلتَه ودرجتَه؛ إما في أعلى علِّيِّين أو في أسفل سافلين، ولا يظلم ربُّك أحدًا.

هل يستويان مثلاً؟!

- لا شك أن الناس لا يستوون عند الله تعالى؛ فكلٌّ على حسب سَعْيِه وسَيْرِه، بيَّن الله سبحانه وتعالى ذلك في أكثر من موضع؛ منها ما قاله سبحانه: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (النحل: 76).

- فهنا ضرب الله مثلاً لرجلين: أحدهما أخرس أصم لا يَفْهَم ولا يُفْهِم؛ لا يقدر على منفعة نفسه أو غيره، وهو عبء ثقيل على مَن يَلي أمره ويعوله؛ إذا أرسله لأمر يقضيه لا ينجح، ولا يعود عليه بخير، ورجل آخر سليم الحواس، ينفع نفسه وغيره، يأمر بالإنصاف، وهو على طريق واضح لا عوج فيه؛ فهل يستوي الرجلان في نظر العقلاء؟! وضُرب المثل ليوضِّح كيف تتم التسوية بين الصنم الأبكم الأصمِّ والله القادر المنعم بكل خير، ولكن من الناس من يفعل ذلك، ولا عجب.

- نعم.. هناك فرق بين من يسارع في الخيرات ومن يسارع في الإثم والعدوان:
فقد قال الله عن قوم مادحًا ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (آل عمران: 114)، وقال عن آخرين مقَرِّعًا وذامَّا ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (المائدة: 62).

- هناك فرق بين من يصبر على عبادة الواحد ومن يصبر على عبادة الباطل:

فقال سبحانه مخاطبًا أولياءه وأصفياءه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 200)، وقال عن أنصار الباطل في كل عصر ومصر ﴿وَانطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾ (ص: 6).

- وكما أن الحال في الدنيا مختلف كان الجزاءُ في الآخرة أيضًا مختلفًا ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ (ص: 28).

وبيَّن سبحانه القضية بوضوح فقال ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُون﴾ (الجاثية: 21)، وقال ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ (غافر: 58)؛ فالقضية محسومة هنا وهناك ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ (الشورى: 7).

الله هو الذي يصْطَفِي

- نعم.. الله هو الذي يصطفي ويختار من يحمل الرسالة ويسعى إلى نهضة الأمة، ويهيِّئه سبحانه لِتَحَمُّل تبعات التكليف والمسئولية.

- فالناس رجلان: رجل صالح في ذاته، ورجل فاسد في ذاته، وكلٌّ منهما يلقى جزاءه عند لقاء ربهم ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ (آل عمران: 30)، ولكن هناك من هؤلاء الصالحين من يصطفيهم ربهم فيصبحوا في الخير قادةً وتكون لهم الريَادة في الأخذ بيد هذه الأمة إلى طريق الإسلام الصحيح؛ فهم قادة في الخير وفيهم قال الله تعالى ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ (الأنبياء: 73)، وقال: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (السجدة: 24).

ولا شك أن هؤلاء الأئمة سيدفعون نيابةً عن أمتهم ثمن العزة والكرامة؛ ولذلك فإن الكريم سبحانه سيحقق فيهم سنته التي لا تتبدَّل ولا تتغيَّر، ولكن في الوقت الذي يقدِّره هو سبحانه ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص: 5)، وسيتحقَّق لهم ما يريدون.

وكما أن هناك أئمة في الخير فهناك أئمة في الشر، وفيهم قال الله ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ﴾ (القصص: 41)، وهؤلاء سيحملون أوزارهم وأوزار من يتبعهم يوم القيامة ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُون﴾ (النحل: 25).

وشاء الله لنا وقَدَّرَ أن اختارنا لنحمِل الرسالة، ونؤدي الأمانة، ونسلك طريق الأصالة في دعوتنا لننهض بأمتنا في هذا الزمن الذي تاهت فيه معالم الطريق عند الكثير من الناس، وتعانَقَت المتضادات، فلا يتم التمييز بين الرشد والغي، والغث والسمين، وأصبح المنكر معروفًا والمعروف منكرًا، وعلا السافل وسفل الأعلى، ونطق الرويبضة، فتكلم التافه في أمر العامة وصُدِّقَ الكاذب وكُذِّبَ الصادق واؤتمِنَ الخائن وخُوِّنَ الأمين، فماذا يُنتظر عندما يكون هذا هو الحال؟!

فكان هذا قدرُنا كما بيَّن إِمَامُنا "أنتم لستم جمعية خيرية ولا حزبًا سياسيًّا ولا هيئة موضعية لأغراض محدودة المقاصد، ولكنكم روح جديد يسري في قلب هذه الأمة فيحييه بالقرآن، ونور جديد يشرق فيبدد ظلام المادة بمعرفة الله، وصوت داوٍ يعلو مرددًا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الحق الذي لا غلو فيه أن تشعروا أنكم تحملون هذا العبء بعد أن تخلَّى عنه الناس".

مؤهلات الاصطِفاء

للمصطفين الأخيار مؤهلات تمَكنهم من القيام بدورهم وأداء رسالتهم، وهذه المؤهلات حددتها الآيتان الكريمتان: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ (الأنبياء: 73)، وقال ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (السجدة: 24).

فإمام الخير لا بد أن يجتمع فيه خمس خصال، وهي:

1- يهدي بأمر الله:

فالركيزة الأساسية في التأهيل إلى الإمامة في الدين هي العلم بالشرع الذي يدعو إليه، وهو الذي أُُمر به محمد صلى الله عليه وسلم في أول آية نزلت عليه ﴿اقْرَأْ﴾ (العلق: من الآية 1)، وعلى ضوء العلم يتم العمل والدعوة، والنبي صلى الله عليه وسلم هو القدوة الأولى للداعية إلى الله في تكوين نفسه وأداء واجبه.

ولكي يكون للداعية إمام في الخير لا بد أن يقتفيَ أثر قدوته صلى الله عليه وسلم، يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: "والله سبحانه قد أمر رسوله أن يبلِّغ ما أنزله إليه من ربه، وضمن له حفظه وعصمته من الناس، وهؤلاء المُبلِّغون عنه من أمته لهم من حفظ الله وعصمته إياهم بحسب قيامهم بدينه وتبليغهم له".

2- يصبر على ما أصابه في ذلك:

أئمةُ الخير وقادةُ الركب أصحابُ الرسالة السامية لهداية البشرية لا بد أنهم سيجدون من العنت والمشقة في الطريق ما تعجز عن حَمْلِه الجبال الرواسي، ولكن إذا استعانوا بالله تعالى وتقرَّبوا إليه بذكره سهُل عليهم كلُّ صعب، ولانت أمامهم الشدائد، وكيف لا يكون الأمر كذلك والله هو الذي أمر نبيه صلى الله عليه وسلم وهو مقبل على مشقة الدعوة والمعاناة فقال له: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)﴾ (المزمل)؟!، وقد قام صلى الله عليه وسلم بالدعوة، وتحمَّل عنت قريش وعداوتهم، وكان يصيبه من ذلك الأذى الكثير، فكانت التوجيهات القرآنية التي تتنزل عليه: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾ (طه: 130)، ويضيق صدره باستهزائهم فينزل عليه: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ (98)﴾ (الحجر)، كلها توجيهات نحو العبادة لتخفيف وطأة هذا الحمل الثقيل الذي كُلِّف به، وهو الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.

وقد جاء في وصف دعاة الحق أتباع الرسل في كتاب الله تعالى بهذه الصفة العظيمة، وهي صفة الصبر والاحتمال، في قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 146).

3- يوقن بالله تعالى وبوعده:

إن اليقين لأئمة الخير أمر لازم؛ فهو الزاد النفسي، والقوة الروحية التي تُعين على مواصلة الطريق؛ فأعظم قوة لاقتحام عقبات النفس وإكراهات الواقع هي قوة الإيمان، وعندما يستقر الإيمان في القلب ويصدقه العمل الصالح بالجوارح تتشكَّل قوة اليقين التي لا تُهزم، وإذا أشرق نور اليقين في القلب ذهبت الحيرة وزالت المخاوف واطمأن القلب ونشطت الأعضاء للطاعة؛ فأهل اليقين في فرح دائم بالله، وهم جبال في التوكل؛ لا يأكلون بدينهم ولا يطلبون فيما أيدي الناس، تهون عليهم مَصَائِبُ الدنيا، ويحقرون ما يعظِّمه الغافلون، ويفضِّلون ما يدوم على ما يزول، فيحيَوْن موقنين ويموتون موقنين مطمئني القلب ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)﴾ (الفجر).

إن اليقين الحق يظهر في المواقف وعند الشدائد، كما كان الحال مع الحبيب صلى الله عليه وسلم حين قال للصديق الوفي رضي الله عنه وهما في الغار، والأذى يلاحقهم من كل جهة: (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) وقال له: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!" يقين بالله وبمعيته ونصره.

فصاحب اليقين حينما تحيط به الخُطُوب من كل جانب؛ من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته، يقف كالطود الأشم قائلاً ﴿كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي﴾ (الشعراء: من الآية 62).

واليقين طريق النصر.. ألم يَقُل من سبق من علمائنا: "بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين"؟!، نعم.. الصبر على طول الطريق وعدم استعجال النتائج: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف: 128).

4- يفعل الخيرات:

إن المصطفينَ الأخيار للخيرات فاعلون.. الخيرات بكل ما تحمله الكلمة من دلالات، وكيف لا يكون فعل الخيرات شعارنا وقد أمرنا الله بذلك فقال ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (الحج: من الآية 77)؟! وكان حبيبنا صلى الله عليه وسلم يقول "اللهم إني أسالك فعل الخيرات وترك المنكرات،‌ وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بين عبادك فتنةً فاقبضني إليك وأنا غير مفتون".

5- يُحَقِّقُ العبودية:

إن الغاية من دعوة الرسل جميعًا لأقوامهم هي العبودية ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ (النحل: من الآية 36)، وقد قال الله تعالى لنبينا عليه السلام: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ (الحجر: 99)، فكان عليه الصلاة والسلام قمة المثال الذي يُقتدَى به في تحقيق العبودية، فوصل إلى أعلى مراتبها وأسمى منازلها.

وإن صاحب الرسالة عابد خاضع مستسلم بكليته؛ بقلبه وجوارحه وعواطفه، لأمر ربه ولأقداره سبحانه، وكيف يحمل رسالة الدعوة من لا يستسلم لمولاه بالكلية، متأسيًا بالخليل إبراهيم، والذي أمرنا ربنا باتباعه حين قال ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 68)؛ فالخليل استسلم حين أُمر بذبح ولده، وحين أُمر بترك زوجه وولده، فصدق فيه قول ربنا ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة: 131).

فلا يمكن لدعوتنا المباركة أن تحقِّق أهدافها وتصل إلى مبتغاها، تربيةً وبناءً، وانتصارًا واستمرارًا إلا إذا تخلَّق دعاتها، أئمة الهدى، بالصبر واليقين بالله وبآياته وبنصره، وعمِلوا بأمر الله، وهدوا بهديه، فعملوا الخيرات وحقَّقوا العبودية له سبحانه.

سَيْرٌ بِلاَ التِفَات

إن أئمة الخير وقادة الركب في سيرهم إلى ربهم وفي أدائهم رسالتَهم تواجههم محن وفتن.. شبهات وشهوات.. وعد ووعيد، وإغراء وتهديد؛ فإذا التفتوا إليها تعطَّل سيرهم وتأخَّر ركْبُهم وبَعُدَ نصرُهم، وإذا مَضَوْا في دربهم ولم يلتفتوا أدوا رسالتهم وحقَّقوا أهدافهم، ومن هنا فاحذروا أيها الأحبة أن تلتفتوا إلى هذه العقبات:

1- المُعوِّقين:

إن هناك من النفوس نفوسًا قد ملأها الخور والضعف، ورضيت بالذل والهوان، هذه النفوس قد تحاول أن تَثنيَ من عزمك وتفل في عضدك وتُقعِدَك مع القاعدين، فلا تلتفت إليها.

وقد حذرنا الله من هؤلاء في سورة الأحزاب حين وضَّح حالهم وكشف عن خصائصهم النفسية الخوَّارة فقال ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20)﴾ (الأحزاب).

2-المُبَطِّئِين:

هذا صنف ثانٍ من الناس يتأخَّر عن الركب ولا يوجد في ميدان؛ هَمُّهُ أن يجعلك في مؤخرة الركب مثله، ويحاول أن يُضَيِّع معالم الطريق من تحت قدميك حتى تَتِيه وتضطرب، فيسبقك أقرانك، وفيهم قال الله تعالى في سورة النساء ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)﴾ (النساء).

3- مثيري الشبهات:

الشبهات ستظل مفردةً من مفردات الباطل في الصد عن طريق الحق، والتاريخ قديمًا وحديثًا يشهد بذلك، ولكن ما يعنينا هو أننا في التعامل مع أية شبهة لا بد أن نتسلَّح بأمور ثلاث:

الأول: الفقه اللازم للرد على الشبهة.

الثاني: الثقة في المنهج والقيادة والطريق حتى نَتَبَيَّن.

الثالث: المُضِي في السير وعدم التوقف.

ولقد ذكر الإمام نموذجًا للتعامل مع الشبهات حين قال: "إذا قيل لكم: إلامَ تدعون؟ فقولوا ندعو إلى الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والحكومة جزء منه، والحرية فريضة من فرائضه؛ فإن قيل لكم هذه سياسة!، فقولوا هذا هو الإسلام، ونحن لا نعرف هذه الأقسام، وإن قيل لكم أنتم دعاة ثورة، فقولوا نحن دعاة حق وسلام نعتقده ونعتز به، فإن ثرتم علينا ووقفتم في طريق دعوتنا فقد أذن الله أن ندفع عن أنفسنا وكنتم الثائرين الظالمين، وإن قيل لكم إنكم تستعينون بالأشخاص والهيئات فقولوا: ﴿آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ﴾ (غافر: 84)، فإن لجُّوا في عدوانهم فقولوا: ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ (القصص: 55)".

4- رؤية الذات:

إن النفوس الهزيلة لا تصاب بداءٍ كداء رؤية الذات والتباهي بالقدرات؛ لأن هذا الداء يصرف الهمم والعزائم إلى الرياء والادِّعاء، ويَحُول بينها وبين الإخلاص والتواضع، وقد يفتح عليها أبواب النفاق والتلوُّن، وقد يؤدي في النهاية إلى الانصراف عن الطريق والتخلِّي عن الرسالة والعياذ بالله.

أما إنكار الذات فهو خُلُقٌ من أخلاق الذين سَمَت هممهم وعلت نفوسهم، فصاروا من أئمة الهدى في هذا الزمان، وجاء في الحديث الشريف: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي" (صحيح مسلم)، وجاء أيضًا: "إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء، الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، قلوبهم مصابيح الهدى، ينجون من كل غبراء مظلمة" (ابن ماجة والحاكم وغيرهما عن معاذ).

وقد استطاع الإسلام أن يُخرج من أبنائه أبطالاً عمالقة، سادوا وقادوا، وفعلوا المكارم، وأتموا جلائل الأعمال، ومع ذلك لم يتباهَوا بما فعلوا، ولم يفخروا بما قدَّموا، بل أنكروا ذواتهم وكتموا أعمالهم، وابتغوا وجه ربهم الذي لا يُضيع أجر من أحسن عملاً، والذي يعلم السر والنجوى: ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى﴾ (النجم: من الآية 32).

وهذا موقف من مواقف البطولة الخالدة، ومعرض من معارض الجندية المجهولة؛ يتألَّق في تاريخ الإسلام والعرب؛ فقد كان مسلمة بن عبد الملك أميرًا على جيشٍ من جيوش الدولة الأموية التي قدَّمت ما قدَّمت في نصرة العروبة وتوطيد الدولة العربية المسلمة، وكان مسلمة يحاصر بجيشه حصنًا من حصون الأعداء، واستعصى هذا الحصن على الجيش، فلم يستطع له فتحًا ولا اقتحامًا، فحرَّض الأمير مسلمة جنده على التضحية والإقدام حتى يُحدث بعضهم في ذلك الحصن ثغرًا أو نقبًا، فتقدَّم من وسط الجيش جندي ملثم غير معروف وقذف بنفسه إلى جهة الحصن غير مبالٍ بسهام الأعداء ولا خائف من الموت حتى أحدث فيه نقبًا كان سببًا في سقوط الحصن ودخول الجيش فيه.

وفرح مسلمة بذلك كثيرًا، ونادى في وسط الجيش: "أين صاحب النقب؟"، فلم يجبه أحد، فقال مسلمة: "إني أمرت حاجبي بإدخاله عليَّ حين يأتي فعزمت عليه- أي حلفت- إلا جاء"، وكان يريد أن يخصه بجزء من الغنائم ويمجِّده.

وبعد فترة جاء الرجل إلى حاجب مسلمة، وقال له استأذن لي على الأمير فقال له الحاجب: أأنت صاحب النقب؟ فأجاب: أنا أخبركم عنه.

واستأذن له الحاجب على الأمير، فلما صار بين يديه قال له: إن صاحب النقب يشترط عليكم ثلاثة شروط؛ هي: ألا تبعثوا باسمه في صحيفة إلى الخليفة، وألا تسألوه مَنْ هو، وألا تأمروا له بشيء، قال مسلمة: فذلك له، فقال الرجل في استحياء: أنا صاحب النقب، ثم ولى مسرعًا، فكان مسلمة لا يصلِّي بعدها صلاةً إلا دعا فيها قائلاًً: "اللهم اجعلني مع صاحب النقب يوم القيامة"!.

فعلى الذين يحملون الرسالة، ويقودون الأمة إلى الخير ويرفعون راية الإصلاح، أن ينطلقوا خفافًا وثقالاً في ميادين العمل المبرور، والسعي المشكور؛ لينصروا مبادئهم، ويخدموا بلادهم، واثقين أن المعروف لا يذهب بين الله والناس ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ﴾ (آل عمران: من الآية 198)، فما أحوجنا إلى هذا الصنف المبارك الذين بهم تُرزق الأمة وبهم تُنصر!.

5- الوعد والوعيد:

من معوقات السير التي يتعرَّض لها أئمة الخير: وعود الظالمين أو تهديداتهم، وهذا أمر قديم حديث تعرَّض له المصلحون قديمًا وحديثًا.. ألم يُعْرَض على رسول الله الملك؟! ألم تعرض عليه الأموال الطائلة؟! ألم..؟! ألم..؟!، فماذا كان الرد؟!: "ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتابًا، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه على أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم".

ألم يُحاصَر؟! ألم يهاجر؟! ألم..؟! ألم..؟! وهو الأسوة والقدوة وهو المعصوم بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فما بالنا نحن؟!

فالتعرض للسخرية، وتخلِّي الحبيب والقريب، والزمجرة والوعيد لا تزيد الشامة الأعلام، الدعاة الأباة، إلا قوةً وثباتًا؛ شعارهم الدائم ﴿وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ (إبراهيم: من الآية 12)، قائلين لكل طاغٍ مُتَجَبِّرٍ ما قاله الأوفياء قبلهم ﴿لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ (طه: من الآية 72).

6- بريق الدنيا:

الداعية الأريب، صاحب الرسالة لا يعرف شيئًا في مفردات قاموسه يسمَّى "الانشغال الحياتي"، والذي أزكم ذكرُها الأنوفَ مؤَخَّرًا؛ فشعاره ﴿إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام: من الآية 162)؛ فهو يعرف كيف يوظِّف عمله لصالح رسالته؛ فالموظف في مكتبه والبائع في متجره والمدرس في مدرسته والإمام في مسجده والعامل في مصنعه والمزارع في حقله.. كلٌّ يُحَقِّقُ وصفَ الإمام للمجاهد حين قال: "أستطيع أن أتصوَّر المجاهد شخصًا قد أعد عُدَّته، وأخذ أهبته، وملك عليه الفكر فيما هو فيه نواحيَ نفسه وجوانب قلبه؛ فهو دائم التفكير، عظيم الاهتمام، على قدم الاستعداد أبدًا؛ إن دعي أجاب، أو نودي لبَّى، غدوُّه ورواحُه، وحديثُه وكلامُه، وجِدُّه ولعبُه، لا يتعدَّى الميدان الذي أعدَّ نفسه له، ولا يتناول سوى المهمة التي وقف عليها حياته وإرادته؛ يجاهد في سبيلها؛ تقرأ في قسمات وجهه وترى في بريق عينيه وتسمع من فلتات لسانه ما يدلك على ما يضطرم- أي يشتعل ويهيج- في قلبه من جوى لاصق- أي عاطفة قوية وحرقة ملازمة- وألم دفين وما تفيض به نفسه من عزمةٍ صادقةٍ وهِمَّةٍ عالية وغالية وبعيدة".

فهلاَّ كنت هذا المجاهد؟! وإِلاَّ كان البديل صعبًا، تأمل هذه الآية: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة: 24) أعاذنا الله من حال هؤلاء.

7- جاذبية الزوجة والولد:

نعم.. قد تكون الزوجة والولد من معوقات السير، وبيَّن الله ذلك فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾ (التغابن: من الآية 14)، وما موقف الثلاثة الذين خُلِّفوا منا ببعيد.

ولكن متى يحدث العكس وتكون الزوجة والولد عونًا لك وسندًا؟ يحدث ذلك عندما تُقَدِّم أنت لذلك؛ فتُلْحِقَ كُلاًّ بفِرقته الدعوية، وتُسَيِّرَهم في قوافل الخير، وتشجعَهم على المشاركة.. يحدث ذلك عندما يَرَوْن فيك النموذج والمثال للزوج الوفي والأب الحاني والمربِّي القدوة؛ حينها يحترمون فكرتك، ويقدِّرون رسالتك، فإن لم يكونوا لك عونًا فلن يكونوا لك عائِقًا في سيرك.

نعم أيها الأخ الحبيب.. إن فعلت ذلك لهج لسانُك في كل وقت وحين بهذا الدعاء، دعاء عباد الرحمن ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ (الفرقان: من الآية 74)، وكان حالُ بيتك هو حال هذه البيوت المؤمنة التي ذكرها الله تعالى في كتابه فقال عن بيت زكريا عليه السلام ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ (الأنبياء: 90).

8- الإفراط في الحذر:

لا شك أن أخذ الحذر سنة شرعية، وضرورة دعوية؛ المُخِلُّ بها داخلٌ في دائرة المعصية، ومُفرِّطٌ في أسباب النصر والتمكين، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا﴾ (النساء: 71)، ولكن تَكْمُن المشكلة في أن يتحوَّل الحذر إلى هاجس يُغرسُ في النفس فيؤدي إلى القعود عن العمل لهذا الدين، وتحت ظلال هذه الدعوة المباركة؛ ولذلك لا بد من إيجاد التوازن الدقيق بين أخذ الحذر والعمل؛ وذلك بعدم ترك العمل والركون إلى القعود مهما قست الظروف وغلت التضحيات.

وإنما يكون الموقف الصحيح بتكييف العمل مع المعطيات الجديدة تكييفًا يحمل في طيَّاته معاني الشجاعة والثبات، إضافةً إلى معاني الوعي والذكاء، مستحضرين قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (آل عمران: 173)، وهذا الجمع المتوازن بين الحذر والعمل هو المعنى المشار إليه في قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا﴾ (النساء: 71)؛ فالله أمر بالحذر وأمر بالنفرة في نفس الوقت.

9- مُكَدِّرَات الأخوة:

المرء مهما تعاظمت قدراته وتعدَّدت مهاراته قليلٌ بنفسه كثيرٌ بإخوانه، وهذا العبء الثقيل لا يستطيعه المرء بنفسه، ومن ثم كان صاحب الهم وحامل الرسالة حريصًا على تعميق الأخوة مع أقرانه وبينهم، وحريصًا على تجنُّب كل ما يُعَكِّر صفوها؛ حتى لا يضيع الوقت في إرضاء هذا والاعتذار لذاك، وتصحيح الصورة عند هؤلاء وهؤلاء، وننصرف عن ميادين العمل والجهاد، وقد تجد البعض يتقاعد أو يتكاسل أو ينصرف عن دعوته بسبب قول هذا أو موقف ذاك، وليس هذا بطريق أصحاب الدعوات، ألم يقولوا "كدر الجماعة مقدم على صفو الفرد"، أما أصحاب الدعوات حتى وإن حدث شيء مما يعكر الصفو فسرعان ما يعودون ولا ينقلبون على أعقابهم، ويظلون أوفياء لدعوتهم مهما حدث، وهذه شيم الأحرار.. قال الشافعي رحمه الله: "الحر من راعى وداد لحظة أو انتمى لمن أفاده لفظة".

10- تعجُّل الثمار:

إن طول الطريق وعِظَمَ التضحيات قد تدفع البعض أحيانًا إلى التوقف عن السير أو تأخير الخطى أو الانحراف عن طريق الأصالة فكريًّا أو دعويًّا أو تنظيميًّا، وهذا يُعَد بالنسبة لقادة الخير وأئمة الرشد مهْلَكَة؛ ولذا بيَّن الأستاذ البنا ذلك في صراحة ووضوح حين قال: "إن طريقكم هذا مرسومةٌ خطواتُه، موضوعةٌ حدودُه، ولست مخالفًا هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول، أجل.. قد تكون طريقًا طويلة، ولكن ليس هناك غيرها، إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب؛ فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك بحال، وخيرٌ له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات، ومن صبر معي حتى تنموَ البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك على الله، ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين: إما النصر والسيادة، وإما الشهادة والسعادة".

وماذا بعد أيها الأوفياء:

هكذا كان قَدَرُكم، وتلك هي رسالتكم، وهذا هو زمانكم بما فيه، وهذه هي المعوقات تحيط بكم من كل جانب، فهل أنتم على استعداد لحمل الرسالة وأداء الأمانة؟! هل ترضون أن تكون صحبتكم في الدنيا صحبة الأخيار، وفي الآخرة تلقون جزاء الأبرار؟! أَنْعِمْ بهم من أصحاب وأَكْرِمْ به من جزاء!.

ولطالما بايعتم ورضيتم فهذه هي مقومات الأمناء، وهذا هو درب الأوفياء كما حددها إمامُ دعوتِنا وقائدُ نهضتنا؛ حيث قال: "إن تكوين الأمم، وتربية الشعوب، وتحقيق الآمال، ومناصرة المبادئ تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو الفئة التي تدعو إليه على الأقل، إلى قوة نفسية عظيمة تتمثل في عدة أمور:

- إرادةٍ قويةٍ لا يتطرَّق إليها ضعف.

- ووفاءٍ ثابتٍ لا يعدو عليه تلوُّنٌ ولا غدرٌ.

- وتضحيةٍ عزيزةٍ لا يحول دونها طمعٌ ولا بخلٌ.

- ومعرفةٍ بالمبدأ وإيمانٍ به وتقديرٍ له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه، والخديعة بغيره".

فهل وفيتم؟! هل أدَّيتم؟!.. انطلقوا في طريقكم، فلن يضيع جهادكم ﴿فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ (محمد: 35).

وتأهبوا لِتَنَزُّلِ نصر ربكم عليكم ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾ (الإسراء: من الآية 51).

وصلَّى الله وسلم على معلمِ الناسِ الخيرَ.