من تراث الراحل أ. د. أحمد العسّال

خلق الله- عز وجل- هذا الكون بالحق، وجعل قوانينه وسننه مطردة بانتظام واتساق لا تختل ولا تتخلف إلى أجل لا ريب فيه، فكل ما ترى من كواكب سيارة ومن سحب جارية، ومن أنهار متدفقة، ومن بحار متماوجة، ومن جبال راسية، وغير ذلك مما كبر أو صغر أو عظم أو دقّ تنظمه قوانين، وتضبطه سنن لا تحيد ولا تميد، وصدق الله: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ* لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ (سورة يس: 39– 40).

وإذا كان الكون على هذه الحالة من الانضباط والاتزان والتقدير الصحيح؛ فما نصيب حياة الإنسان من قوانين تضبطه، وسنن تصح بها حياته؟  أو بعبارة أخرى: هل ترك الأمر للإنسان يجتهد فيها،  ويتفنن فيها ويخترع من السنن والأخلاق ما يتعيش به، ويصوغ به حياته؟ كلا، إن الله كما جعل للكون قوانينه وسننه المطردة والمنضبطة: ﴿مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتِ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ* ثُمَّ ارجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ (الملك: 3)، جعل للحياة الإنسانية قوانينها الكريمة وسننها الصحيحة، وأخلاقها الطيبة التي بها تستقيم الحياة، وتطيب وتزدهر، وصدق الله: ﴿أَفَمَن يَّمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَّمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (الملك : 22)، ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾ (القلم :35- 36).

والفرق بين القوانين والسنن الكونية الخيرة التي جعلها الله للناس، أن الله منح الإنسان حرية الاختيار، وابتلاه بالخير والشر ليترتب على ذلك مسئوليته وتكليفه، ومن ثم ثوابه أو عقابه، قال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ (الكهف: 7)، وقال سبحانه: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ (الأنبياء: 35).

وقد خلق الله الفطرة البشرية مستقيمة، تحب الحق وتؤمن به، وتجد راحتها وطمأنينتها في الإيمان بالله وعبادته، وفي ممارسة سنن الخير، وأخلاق الفطرة، وجاءت الشرائع السماوية كلها تبني على هذا الرصيد المزخور في الفطرة، وقد أحس أبونا آدم- عليه السلام- وأمنا حواء- عليها السلام- بأنهما حادا عن الفطرة حين أغواهما الشيطان، وأكلا من الشجرة، وقالا: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (الأعراف: 23). واستجاب الله دعاءهما، وقال لهما: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ (البقرة: 38).

وعلى هذا قامت معركة الخير والشر، والحق والباطل في هذه الحياة، طرفها الأول هداية الله- عز وجل- والطرف الآخر غواية الشيطان التي تغري الإنسان وتضله، وتجره إلى سنن الفساد والباطل، وصدق الله العظيم: ﴿يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا* يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ (النساء: 26- 28)، ولم يترك الله- عز وجل- الفطرة هملاً ولا سدى، بل أرسل رسله مبشرين ومنذرين؛ مبشرين بالحق، ومنذرين بسوء العاقبة لمن خالف الحق واتبع هواه، وجاء الاسلام فأتم الله به النعمة، وأكمل به الهداية، فأوضح سنن الحق، وبيَّن مكارم الأخلاق، وأخرج به خير أمة أُخرجت للناس.

وكان منهج الاسلام- ولا زال- يغذي الفطرة بالهدي الشامل الذي يشمل أقطار النفس، وما يتصل به من أنشطة ومعاملات، وآداب وأخلاق، وقد مثل الله ذلك بالشجرة الوارفة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (إبراهيم: 24- 25)، فالفطرة حين تقبل على الله، وتهتدي بهديه، يرزقها الله انشراح الصدر، ويعطيها النور الذي يضيئ لها الحياة، مصداقًا لقوله- عز وجل: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ (الزمر: 22)، ولا يزال كل عمل من الأعمال الصالحة؛ سواء أكان عبادة خالصة، أم مناجاة قريبة، أم عملاً حياتيًّا قصد به وجه الله، وروعي فيه الخلق الكريم، يقوي النفس وينشطها للطريق القويم، يقول الله تعالى في العبادة: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ (العنكبوت: 45)، ويقول سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ﴾ (محمد: 17)، ويقول في الإنفاق: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (البقرة: 256)، ويقول النبي- صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صديقًا".

فالأثر النفسي والاجتماعي لاتباع سنن الحق، والاتصاف بمحامد الأخلاق شيء عظيم، لا يقوم مقامه شيء في هذه الحياة؛ فالطمأنينة والرضا والسعادة والانشراح والإقبال على عمل الخير والمسارعة إليه تعد آثار هذا الاتباع، أما في المجتمع فالثقة والألفة والحب والتعاون والتراحم والاحترام، كل هذا يأتي نتيجة الأخلاق الكريمة والمعاملات الصادقة، وعلى عكس ذلك إذا شاعت في المجتمع الأخلاق الفاسدة من الكذب والنكث في العهود وعدم الوفاء بالوعود، ارتدت إلى أصحاب هذه النفوس بالضلال المبين وانعدام الثقة وظهور البغضاء وأخلاق اللصوص والسراق؛ فلا ائتمان ولا احترام؛ وإنما حذر وقلق وخوف، وصدق رسول الله- صلى الله عليه وسلم: "إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب حتى يُكتب عند الله كذابًا".

ويقول- صلى الله عليه وسلم- أيضًا: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خلصة من نفاق حتى يدعها؛ إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر".

فحين تشيع سنن الخير والأخلاق الفاضلة في النفس والمجتمع والطهر وحب الخير والسعي إليه، وتيسير الحياة، فإن مخالفة هذه السنن يعمل على إشاعة جو من الكراهية والبغضاء والفساد يعقد على الناس حياتهم، ويعيشون في جو من النكد والضيق مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾ (الأعراف : 58). فلا غرو في أن تزدهر الحياة وتنمو في الجو الأول، وتتعقد وتتخلف في الجو الثاني، فالخير يأتي بالخير والفساد يأتي بالفساد.

وقد وصف الله مجتمع المؤمنين بالولاية والعمل الصالح فقال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة:71)، ووصف مجتمع المنافقين بأنهم يتواصون بالمنكر ويعملون على اشاعة الباطل فقال: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (التوبة : 67).