كثيرون يستسهلون طريق الثورة، وهو ليس كذلك، فما أطول وأشق طرق الإصلاح؛ وما بُعث الأنبياءُ وأُرسلت الرسلُ، وهم المصطفون الأخيار، إلا لتعبيد هذه الطرق؛ ولنكون خَلَفَهُم فى تلك المهمة التى عقيدتها الصبر، وشعارها القناعة والبذل. 
ولأن هذه الطرق مليئة بالأشواك، تحوطها الأفاعى والحيات، وعليها أعداءٌ مقاتلون، فلا يصلح للسير فيها، بله تعبيدها، سوى المخلصين الأوفياء، الصابرين الأشداء، الذين لا يعرفون اليأس، ولا يُفْرِطُون فى الرجاء، ولا ينتظرون النفع الدنيوى الزائل نظير ما يفعلون. 

والثورات ليست بالتمنى؛ فهذا عمل المفلسين العاجزين، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانى؛ إنما الثورة بالفعل والعمل، والتجرد والتضحية، وإذا كانت الثورة مثل «قطار قشاش» يقف للجميع ولا يمتنع على أحد يصادفه؛ فإنه لا يبقى إلى آخر محطاته إلا ذوو «العقيدة الثورية الصحيحة»، وأما غيرهم فقد تساقطوا فى المحطات السابقة؛ إما انشغالاً بغير الثورة، أو اغترارًا بالأمانى الفارغة.

وميدان الثورة الحقيقى هو ذلك الانفعال الداخلى الذى يغلى به قلب «الثورى»  فيمنعه الراحة، ويحرمه القرار؛ فلا يزول ألمه إلا بزوال الظلم والطغيان، وإلا بتحقيق أهداف ثورته، لا يبغى من تلك المشقة شهرة، ولا يطمع فى أن يأتيه نفعٌ، بل فى يقينه أن عليه ضريبة هو حتم دافعها؛ من دمه أو ماله أو وقته أو أمنه، وإلا كان دخيلًا لا يعرف معنى الإصلاح. 

لقد كشفت ثورتنا المباركة حقيقة من شاركوا فيها، ففضحت الأدعياء، وعرّت المنافقين، وميزت الثورى الحقيقى من الدّعِىِّ المنتفع، وأكدت أن الثورات تقوم على أكتاف الرجال الذين لا يلهثون وراء صيت أو ذكر، الذين لا يرفعون راية تدل عليهم، ولا يبخلون بدم أو حياة. وراجعوا -إن شئتم- سجل من تصدروا قيادة هذه الثورة من الشباب، فستجدوا فيهم من يعمل الآن خادمًا للمستبد الذى قامت الثورة عليه، ومنهم من يسبح بحمد الطاغية ويمشى فى ركابه. وفى المقابل فإن منهم من يقبع إلى الآن فى سجون العسكر يؤدى ضريبة الثورة، وهناك صنف -هم الأعز الأكرم- ممن قضوا شهداء ولم يعلُ لهم فى الدنيا ذكر ولم يُعرفْ لهم اسم، إنما حسابهم على الله وقد أبقاهم أحياء لدنه أحياء يُرزقون. 

لن تنتصر الثورة بالجالسين على «الفيس»، ولا بالذين يريدونها «دليفرى!»؛ فإن الثورة لا يقوم بها غير أصحابها، ولا يُستأجر لها مرتزقة كما تصنع بعض الجيوش النظامية، بل لا بد لها من صفٍ ثورى نقى يمنع نفسه الراحة، ويظل فى رباط حتى يندحر المجرم، وكلٌّ يعمل على شاكلته. وما أطاح بالثورات سوى «التنظير» والتفلسف الفارغ، الذى يمنح أصحابُه صكوكَ الثورية لمن يشاءون ويمنعونها عمن يشاءون، وقد فشلوا فى أن يفعلوا شيئًا للثورة؛ فتفرغوا لتثبيط الهمم وبث القنوط، ونصَّبوا أنفسهم قضاة على الناس؛ فهذا يستحق وذاك لا يستحق، وهذا مخلص وذاك كاذب، والحق أنهم هم الكاذبون. 
ولو سُئلتُ: لمن تعطى وسام الثورة؟ لقلت بلا تردد: أعطيها لـ«الثورى المجهول» الذى قضى ولم ينتظر جزاء ولا شكورًا، ولم يملأ- مثل كثيرين- الدنيا ضجيجًا، وباع نفسه لله فى خفاء فلم يتطلع إلى وجهه أحدٌ؛ ذلك الذى بكى عمر لمثله لما جاءه البشير بخبر انتصار المسلمين على الفرس وهو يسأله عمن استشهد من أصحابه؛ فصار يعدد له أسماء حتى قال: وآخرين يا أمير المؤمنين لا تعرفهم، فقال عمر وهو يبكى: «لا يضرهم ألا يعرفهم عمر، لكن الله يعرفهم». 

تنتصر الثورة بأخلاق أبنائها، ولو كانوا قلة مستضعفين، وتنطلق بتواضعهم واعتصامهم بحبل الله ورجائهم فيه، وتنهزم بكبرهم وبطرهم واستعانتهم بغير الله، واغترارهم بكثرة الضجيج والصياح، واللهُ لا ينصر المختلفين، ولا ينصر أصحاب «الأجندات الخاصة»، بل لا بد أن يندمج الجميع فى جيش الثورة، تحت قيادة واحدة وهدف واحد، وأن يسلكوا طريقًا واحدة، مستقيمة غير متشعبة، لا يولون الظهور، ولا يجبنون عند الله اللقاء، ويؤثرون «الثورة» على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. 

ألا ترى أن أغلب «الثائرين الحقيقيين» لم يكتبوا مذكراتهم، ولم يسعوا إلى ذكر أو سلطة، وعاشوا بين أبناء شعوبهم- فيما بعد- أفرادًا عاديين؟ وألا ترى أن لدينا «نكرات» من حديثى الأسنان يلغطون الآن فى حق الأطهار المخلصين، وهذا -وربى- يدل على أن الثورة فى مسارها الصحيح، غير أنها فى مرحلة «الفرز والتجنيب»؛ إنها لا زالت تفرِّق بين «خبيب بن عدى» من ناحية و«عبيد الله بن جحش» من ناحية ثانية، ولا زالت تعرِّى المنافقين الذين يتطلعون بعينين اثنتين ينتظرون لمن تكون الغلبة.. (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) [النساء: 141].