بقلم: عامر شماخ

هل يجوز للداعية أن «يتقاعد» عن مهام الدعوة؟ وهل يحق للمصلح أو«الثورى» أن «يعتزل» أو«يعتذر» عن مواصلة الثورة؟ هذان السؤالان طُرحا هذا الأسبوع كثيرًا، واستدعيا –من ثمَّ- الصفات الواجب توافرها فى الداعية أو المصلح، وشروط هذا «الاعتزال» أو«الاعتذار» -إن كانا يجوزان.

لو نظرتَ فى سيرة الأنبياء والرسل جميعًا -عليهم السلام- ما وجدت ذكرًا لمقصود هاتين الكلمتين أو ما يدل عليهما؛ سوى فى الاشتقاق اللغوى المخالف للمعنى الذى نحن بصدده: (وأعتزلكم وما تدعون، فلما اعتزلهم وما يعبدون، وإذ اعتزلتموهم..) –إلا ما جرى من نبى الله يونس -عليه السلام- الذى ضاق يومًا من عدم استجابة قومه له فخرج مغاضبًا؛  فكان جزاؤه -كما حكى القرآن الكريم- التقام الحوت له،  ووقوعه أسيرًا لظلمات ثلاث، وما تلا ذلك من توبة الله عليه بعد ندمه واستغفاره، وقد اتبعه من عصوه بالأمس فكانوا: (مائة ألف أو يزيدون)، وذلك أكبر عدد ورد فى كتاب الله الكريم..

وما خلا هذه الحادثة التى نستدعى ما قيل فيها من ذكر لله عند كل ضائقة -فلن تجد عندهم سوى الصبر على المكاره، وطول النَفَس، والثبات على المبدأ، ومواصلة (مباريات) الدعوة والإصلاح حتى شهادة هذا النبى أو ذاك الرسول أو وفاته، لا يقعدهم مرض، ولا يضنيهم جهاد، بل ظلوا جميعًا -عليهم السلام- كواكب درية ينيرون طريق الضلال ويبددون غبش الحيرة، وينقلون الحيارى إلى سبل الهداية والرشاد.

ولو شئتَ التفصيل فانظرْ فى سيرة أولى العزم من الرسل، الخمسة الكبار، الذين لم يذوقوا يومًا طعم الراحة، ولم يشبعوا من طعام، ولم يَسْلَمُوا من أذى أقوامهم، وقد امتد بأحدهم العمر بين قومه الضالين إلى نحو ألف عام وهم يصدون عن سبيل الله، فما آمن معه إلا قليل، ورغم ذلك لم يعتذر لله عن هذه المهمة التى أضنته، وعن تلك الرسالة التى أرهقته، بل ظل فى رباط -هو والقلة الذين معه- حتى جاء أمر الله فنجَّاهم الجبار وأهلك الظالمين.

ونبينا -صلى الله عليه وسلم- سيدُ الرسل، كان على موعد مع هذه الآلام حتى أتاه اليقين -جاءه الموت- وكان فى بداية دعوته لم يدر أن هذه الآلام سوف تلحقه على تلك الصورة التى تطيح بالعُرف القبلى وأخلاق الرجال؛ إذ لما زار ورقة هو وزوجه بعد أول نزول للروح الأمين أخبره الرجل أن قومه مخرجوه من بلده، فقال متعجبًا: أومخرجىّ هم؟ قال ورقة: ما جاء أحدٌ بمثل ما جئتَ به إلا عُودى.. وقد كانت تلك أخف الأضرار التى لحقته؛ فلم نر منه –صلى الله عليه وسلم- سوى الصبر والثبات، والأمل والاستبشار، وتحوله بكُلّيَته إلى الله، فقام حتى تورمت قدماه، ودعا حتى بان إبطاه، وألح على ربه حتى قال له الصديق: حسبك يا نبى الله لقد ألححت على ربك.

كان بإمكانه – صلى الله عليه وسلم- الاعتزال، إن كان يجوز الاعتزال، يوم فتح مكة، بعدما عاد إلى وطنه وقد مكنه الله من أهله ودانت له قبائله، لكنه لم يفعل، بل لم يبق به إلا أيامًا معدودات، عاد بعدها ليعيش عامين اثنين هما أصعب أيام دعوته. وكان بإمكانه -صلى الله عليه وسلم- الاعتذار، إن كان يجوز الاعتذار، يوم عاد من الطائف وقد أرهقته سفرته وبلغ القلب الحنجرة حتى غارت عليه السماء؛ فما زاد على أن قال: «إن لم يكن بك غضبٌ علىَّ فلا أبالى، ولكن عافيتك هى أوسع لى»..

وإذا كان أهل الباطل يتواصون بباطلهم وبالصبر عليه (وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ) [ص: 6]؛  فالأولى بأهل الحق أن يفعلوا ذلك وزيادة، وألا يصيبهم يأس أو ملل، وليعلموا أن الله لا يعجل بعجلة أحدهم، وأن هناك ناموسًا عظيمًا يدبر الكون، يشرع لهم ولغيرهم، وأن قصاراهم البلاغ، أما الهدى والضلال، والزيغ والرشاد فمن الله، وهم مأجورون على كل حال ما داموا على الحق قائمين.. يقول الشهيد سيد قطب: «هم -أى الدعاة- أجراءٌ عند الله، أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا عملوا وقبضوا الأجر المعلوم، وليس  عليهم أن تتجه الدعوة إلى أى مصير؛ فذلك شأن صاحب الأمر، ولا شأن الأجير».

إن الإيمان بالمبدأ، والإخلاص له يدفعان إلى الصبر والثبات عليه، والتضحية فى سبيله، وتحمُّل الأذى والمحن، وعدم الصدمة والانتكاس، وتصير مهمتهم على التأبيد، لا تردد حيالها ولا ارتياب، بل عزمٌ وإقدام، متجردين عن الأهواء، لا تلهيهم الأمانى والرغبات (فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) [هود: 36]، (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) [فاطر:8].

يجوز للفارس أن يستريح، لكنها الهدنة التى تعقبها جولات، وساعة القلب التى تتلوها ساعات الجهاد، رافعًا شعار: (فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [البقرة: 132]، أما الاعتزال الدائم فهو خَوَرٌ واستسلام، واعتراف بالهزيمة، وتنكب طريق الدعاة المخلصين الذين محصتهم المحن وتتالت عليهم النكبات؛ فما لانت لهم قناة، ولا انخفض لهم جناح، وماتوا وهم وقوف، أعزة ميامين، يترضى عنهم من مر بهم،  ويستغفر لهم من جاء بعدهم، وصدق فيهم قول المعصوم: «لا تزال طائفة من أمتى قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتى أمر الله وهم ظاهرون على الناس..».

لا ينتظر الداعية الواعى أو المصلح الحصيف راحة، ما دام اختار لنفسه هذا الطريق واقتنع به، ولا يقنط لندرة الأتباع وقلة المستجيبين؛ إذ هو ليس عمله.. سُئل الإمام أحمد: متى الراحة؟ قال: «يوم أن تضع قدمك فى الجنة». وقال الإمام على: «لا تستوحشوا طريق الحق لقلة رواده». وقد جاء فى تفسير قوله تعالى (قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا) [يونس: 89]؛ كان بينهما أربعون سنة.