- واجباتنا الاجتماعية تقوم على العقيدة السليمة والعبادة الصحيحة

- بنجاحنا في إصلاح أنفسنا وبيوتنا نستطيع التأثير في الآخرين بسهولة

- لا غنى عن الإصلاح الاجتماعي لتماسك المجتمع المسلم

الأمة المسلمة ذات العقيدة السليمة والعمل الصحيح والسلوك النظيف شامة في جسد هذا الكون، وهي بقعة نورانية وشجرة خضراء لهذه البشرية، ومن هنا فنحن في أمسِّ الحاجة إلى مقومات تحفظ وحدتها وتشد عُودها وتجعلها متماسكة قوية وتعطيها أسباب السعادة والاطمئنان، كما أن هذه الأمة في حاجة كبرى إلى قوة ذاتية تحميها من غدر أعدائها وعواء الذئاب حولها، وتؤكد صلابتها وذاتيتها وتُخيف كل مَن يطمع في النيل منها، وما لم تكن الأمة متماسكة قوية من داخلها فلن تكون أمام عدوها صلبة شجاعة.

من هنا كان البناء الإسلامي للمجتمع المسلم هو البناء الوحيد الذي يجعل هذه الأمة سعيدة في داخلها مرهوبة من أعدائها، ويوم نتهاون في واجباتنا الاجتماعية القائمة على العقيدة السليمة والعبادة الصحيحة... فإننا لن نجد من أنفسنا غناءً، ولن نجد من الله نصيرًا، وصدق الله القائل: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد:11).

إن العقيدة الإسلامية تحتم على كل مسلم القيام بواجباته الاجتماعية نحو كل مسلم ومسلمة، بدءًا من والديه وأرحامه وجيرانه إلى سائر مجتمعه، وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ (آل عمران: 103).

ويوم يقوم كل مسلم بدوره الاجتماعي فسوف يتماسك المجتمع ويقوى ويعيش في عزة وكرامة ونصر وتوفيق من لله سبحانه وتعالى، وصدق الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (الأنفال:24).

من هنا نبدأ:

لكي نسير في طريق الإصلاح الاجتماعي في وعي وتؤدة ونجاح، ولكي يثبت المسلم للعالم أصالة المنهج الإسلامي وضرورته في جعل الحياة طيبة وصالحة، ولكي نكون عمليين في دعوة الناس إلى الإسلام وترغيبهم في مبادئه وإقناعهم بأنه الطريق الوحيد الموصل إلى حضارةٍ نظيفة مشرقة وسعادة دائمة شاملة، ولكي نقوم بواجبنا الاجتماعي نحو الإنسانية عامةً والمسلمين خاصةً.. لكي نفعل ذلك لابد من أن نبدأ نحن بأنفسنا حتى يكون سلوكنا وعملنا دليلاً ملموسًا وآيةً ناطقةً بصدق دعوتنا وجمال إسلامنا وكمال منهجنا ونجاح نظامنا، وصدق الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11)،

وهذا معنى ما قاله نبي الله "شعيب"- عليه السلام- لقومه لكي يتبعوه، ويتركوا ما هم فيه من كفر وظلم، إذ قال: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ (هود: 88)، وهي الحُجًّة التي اعتمد عليها مؤمن أهل القرية، إذ قال لقومه يحضهم على متابعة الرسل والأخذ بما جاء به ﴿اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتدُونَ﴾ (يس:21)، فهو يستدل على صدقهم بأنهم لا يطلبون أجرًا على الدعوة إلى الدين، كما أنهم في أنفسهم قوم صالحون مستقيمون، لا يقولون ما لا يفعلون.

وهكذا لو استطعنا ونجحنا في إصلاح  أنفسنا وبيوتنا ومجتمعاتنا الصغيرة لاستطعنا أن نضم إليها الآخرين في سهولة أكثر في وقت أقل، ولكان لنا الحق في أن نقول للناس: هنا إسلام محسوس ومنظور فاتبعوه وانضموا إلى معتنقيه لتفوزوا فوزهم وتسعدوا مثلهم، وتشعروا كما شعروا بجمال الحياة وراحة النفس وطمأنينة القلب.

لذا كان هدفي من هذه السلسلة أن يكون المسلم إيجابيًا في مجتمعه، وأن يقوم بدوره الذي ألزمه به الإسلام نحو الإنسانية عامةً والمسلمين خاصةً؛ لنصل في النهاية إلى درجة عالية من ترابط وتماسك المجتمع المسلم.

المجتمع محراب للتعبد:

إن الذي أعطاه الله تعالى فقهًا في الدين وهداه إلى سبيل الرشاد وطريق النجاة يُدرك أن المجتمع كله مجال واسع لعبادة الله تعالى والتقرب إليه بخير الأعمال وأفضلها.. فالعبادة ليست محصورة فقط في الشعائر التعبدية، ولكنها القيام بهذه الشعائر التعبدية... من صلاة وصيام وزكاة وحج وغيرها، مع القيام بكل سلوك حسَن يترتب عليه نفع المجتمع ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى، ولقد كان المسلمون الأوائل يُدركون ذلك، ويفهمونه فاستغلوه أحسن استغلال، وأفادوا منه إفادةً كبيرةً في نشر الإسلام في ربوع العالم.

والأمر هكذا، فإنني أتناول هذا الموضوع من خلال تقسيمه إلى قسمين:

القسم الأول: الحقوق والواجبات والآداب الاجتماعية الخاصة: وهي المتصلة بأشخاص مُعينين بسبب نسب القرابة أو الجيرة أو العمل.

القسم الثاني: الحقوق والواجبات والآداب الاجتماعية العامة: وتشمل جميع المسلمين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم وأعمالهم وأحوالهم، كما تشمل غير المسلمين على اختلاف مواقفهم من المسلمين وتحديد صلتهم بهم.

أولاً: الحقوق والواجبات والآداب الاجتماعية الخاصة

1- مع الوالدين

من أرضاهما فقد أرضى الله تعالى، ومن أغضبهما فقد أغضبه سبحانه، وهما الباب الموصل إلى الجنة.

ولم يذكر الإسلام أنواع البر بهما ليحددها ويفصلها فإن ذلك أمر لا يخضع للتفصيل والتعيين، وإنما للظروف والأحوال والحاجة والقدرة والشعور الحي لدى الأبناء, إذ البر كلمة جامعة لكل خير، وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا﴾ (الإسراء:23).

وعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أي العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها. قلت: ثم أيّ؟ قال: بر الوالدين. قلت: ثم أيّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله" (أخرجه البخاري ومسلم).

ومِن صور البر بالآباء والأمهات:

1- الإحسان بهما بشتى أنواع الإحسان: قال تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾(الإسراء:23).

2- طاعتهما بالمعروف: قال تعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (لقمان:15).

3- دعوتهما إلى الله سبحانه بالمعروف: ولنا هنا القدوة في الخليل إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا* إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا* يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا* يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا* يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ (مريم45:41)، فمن البر تعليمهما أمور الدين بأنواعه، عن طريق القدوة الصالحة معهما ودعوتهما بالحسنى.

4- الأدب معهما وتقديم القدوة الصالحة لهما.. أخرج البيهقي وابن السنّي أن أبا هريرة- رضى الله عنه- أبصر رجلين فقال لأحدهما: ما هذا منك؟ فقال: أبي، فقال أبوهريرة: "لا تسمه باسمه، ولا تمش أمامه، ولا تجلس قبله" (رواه البخاري في الأدب المفرد).

وهكذا بالطاعة والإحسان والأدب مع الوالدين وتقديم القدوة الصالحة لهما يقترب الوالدان من الله سبحانه ويعملان بالإسلام، ويستمر الابن البار في دعوتهما إلى الله- عز وجل- بالحسنى، ويتمنَّى أن يَصِلا معه إلى مستواه الذي يعيش فيه أو يأمل أن يصل إليه مع الله سبحانه وتعالى، ومن هنا تأتي البُشرى كما في سورة الطور.. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾(الطور21).

5- برهما بعد موتهما: قال تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ (الإسراء:24).

6- من البر بهما بعد الموت صلة أقربائهما وأصدقائهما، وهذا باب خير يفتحه الابن البار؛ ليحصل منه الثواب، ويفتح به بابًا جديدًا لدعوته بحسن صلته بهؤلاء وبرِّهم، كما كان يصنع مع والديه من وجوه الإحسان المختلفة، كالسلام، والابتسامة، والهدية، والزيارة، والصدقات، وقضاء الحوائج، وغيرها.. فعن "أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي" رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذ جاء رجل من بني سلمة فقال يا رسول الله: هل بقى من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: "نعم.. الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما" (أخرجه أبوداود وابن ماجة).

التحذير من عقوق الوالدين:

إن كنا قد تحدثنا عن البر ووجوبه فمن باب أولى أن نحذر كل الحذر من العُقوق, ومن ليس فيه خير لوالديه كيف يكون فيه خير للناس؟!.
عن عبدالله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "الكبائر: الإشراك بالله, وعقوق الوالدين, وقتل النفس, واليمين الغموس" (أخرجه البخاري).